الأعلى
كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | عبد الله بن عبد الرحمن البعيجان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصيام |
انقضَى شهرُ رمضان، وطُوِيَت صحائِفُه، وفازَ فيه مَن فازَ، وحُرِمَ فيه مَن حُرِمَ، فيا ليتَ شِعرِي مَن المقبُولُ فنُهنِّئُه، ومَن المردُودُ فنُعزِّيه. ومِن علاماتِ قبُولِ الأعمال: تغيُّر الأحوال إلى أحسَنِ حالٍ، وفي المُقابِل فإن مِن علاماتِ الحِرمان وعدمِ القبُولِ: الانتِكاسُ بعد رمضان، وتغيُّرُ الأحوال إلى الأسوَأ، فالمعاصِي يجُرُّ بعضُها بعضًا. فما أحسنَ الحسنةَ بعد السيئةِ تمحُها، وأحسنَ مِنها الحسنةُ بعد الحسنةِ تتلُها، وما أقبَحَ السيئةِ بعد الحسنةِ تمحَقُها وتعفُها، ذنبٌ واحِدٌ بعد التوبةِ أقبَحُ مِن أضعافِه قبلَها.
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الذي بنِعمتِه تتمُّ الصالِحات، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ربُّ الأرض والسماوات، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه أفضلُ مَن سارَعَ إلى الخَيرات، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه، وعلى آلهِ وأصحابِه أهلِ التقوَى والصالِحات.
أما بعدُ: فإن خيرَ الحديثِ كِتابُ الله، وخيرَ الهَديِ هَديُ مُحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ بِدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
عباد الله: أُوصِيكُم ونفسِي بتقوَى الله؛ فهي وصِيَّةُ الله للأولِين والآخِرِين: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء: 131].
معاشِر المُسلمين: في انصِرامِ الأزمانِ أعظمُ مُعتبَر، وفي تقلُّبِ الأيام أكبَرُ مُزدَجَر، (إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) [يونس: 6].
عبادَ الله: لقد ودَّعنا قبل أيامٍ قليلةٍ شهرًا كريمًا، وموسِمًا عظيمًا مِن مواسِمِ الخير والبركة، كان عامِرًا بالأرباحِ والعطايا والهِبات، والمغفِرةِ والرَّحمات، المشاعِرُ جيَّاشَة، والعيُون فيَّاضة، والقلوبُ مُخبِتةٌ وجِلَة، والجوارِحُ نشِطةٌ مُقبِلة، حِلَقُ الذِّكر ورِياضُ الجِنان، عامِرةٌ بالذِّكر والقرآن.
قد نزَلَت السَّكِينة، وغشِيَت الرَّحمة، أكرَمَنا الله بصِيامِ نهارشه، وقِيامِ ما تيسَّر مِن ليلِه، ووفَّقَنا فيه للكثيرِ مِن أنواعِ الطاعات والعبادات، والأذكار والدعوات، والصدقات. فلله الحمدُ والمِنَّة، وله الشكرُ على هذه النِّعمة، فاللهم تقبَّل.
وما هي إلا أيامًا معدُودة، وساعاتٍ محدُودة، ولحَظَاتٍ تمضِي، ووقتًا ينقَضِي، قد ذهبَ تعَبُه ونصَبُه، وبقِيَ أجرُه ورِبحُه إن شاء الله.
انقضَى شهرُ رمضان، وطُوِيَت صحائِفُه، وفازَ فيه مَن فازَ، وحُرِمَ فيه مَن حُرِمَ، فيا ليتَ شِعرِي مَن المقبُولُ فنُهنِّئُه، ومَن المردُودُ فنُعزِّيه.
عباد الله: للعبادة أثرٌ في سُلُوك صاحبِها، قال تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت: 45].
ومِن علاماتِ قبُولِ الأعمال: تغيُّر الأحوال إلى أحسَنِ حالٍ، وفي المُقابِل فإن مِن علاماتِ الحِرمان وعدمِ القبُولِ: الانتِكاسُ بعد رمضان، وتغيُّرُ الأحوال إلى الأسوَأ، فالمعاصِي يجُرُّ بعضُها بعضًا.
فما أحسنَ الحسنةَ بعد السيئةِ تمحُها، وأحسنَ مِنها الحسنةُ بعد الحسنةِ تتلُها، وما أقبَحَ السيئةِ بعد الحسنةِ تمحَقُها وتعفُها، ذنبٌ واحِدٌ بعد التوبةِ أقبَحُ مِن أضعافِه قبلَها.
النَّكسةُ أصعَبُ مِن المرضِ وربما أهلَكَت، سَلُوا اللهَ الثباتَ على الطاعاتِ إلى الممات، وتعوَّذُوا به مِن تقلُّب القلوبِ، ومِن الحَورِ بعد الكَورِ. ما أوحشَ ذُلِّ المعصِيَة بعد عزِّ الطاعة! وأفحَشَ فقرَ الطعمِ بعد غِنَى القناعة!
أيها المُسلمون: إن طُرقَ الخيرات كثيرة، فأين السالِكُون؟ وإن أبوابَها لمفتُوحة، فأين الداخِلُون؟ وإن الحقَّ لواضِحٌ لا يَزِيغُ عنه إلا الهالِكُون.
فخُذُوا - عباد الله - مِن كل طاعةٍ بنصِيبٍ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج: 77].
وإن الصبرَ على المُداومةِ والاستِقامةِ والثباتِ مِن أعظم القُرُبات؛ فالثباتُ والاستِمرارُ دليلٌ على الإخلاص والقَبُول، وأحبُّ الأعمالِ إلى الله أدوَمُها، وكان عملُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - دِيمَة.
فالثباتَ الثباتَ على الطاعة، والاستِقامةَ الاستِقامةَ على البِرِّ، والمُداومَةَ المُداومَةَ على العمل.
عبادَ الله: الحِرصَ الحِرصَ على قَبُول الأعمال، والحذَرَ الحذَرَ مِن الإفلاسِ والزوالِ، ألا وإن مِن الخسارةِ الكُبرَى أن تُسدِيَ لغيرِك أعظمَ ما تحصَّلتَ عليه مِن الحسنات، فذلك هو الإفلاسُ الحقيقيُّ.
جاء عن أبي هُريرة - رضي الله تعالى عنه -، أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتدرُون مَن المُفلِس؟»، قالوا: المُفلِسُ فينا مَن لا درهَمَ له ولا متاع، فقال: «المُفلِسُ مِن أمَّتِي مَن يأتِي يوم القِيامةِ بصَلاةٍ وصِيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتَمَ هذا، وقذَفَ هذا، وأكَلَ مالَ هذا، وسفَكَ دمَ هذا، وضرَبَ هذا، فيُعطَى هذا مِن حسناتِه، وهذا مِن حسناتِه، فإن فنِيَت حسناتُ قبل أن يُقضَى ما عليه أُخِذَ مِن خطاياهم فطُرِحَت عليه ثم طُرِح في النار» (رواه مسلم).
عبادَ الله: وإن الاستِهانةَ بمعصِيةِ الله، والتجرُّؤ على حُرُماتِه مِن أعظم أسباب الإفلاسِ والخُسران والضياع والخُذلان.
فعن ثَوبان - رضي الله عنه -، أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لأعلَمَنَّ أقوامًا مِن أمَّتِي يأتُون يوم القيامة بأعمالٍ أمثالِ جِبال تِهامة بيضاء، فيجعلُها الله هباءً منثُورًا»، قال ثَوبَان: يا رسولَ الله! صِفهم لنا لا نكون منهم ونحن لا نعلَم، قال: «أما إنَّهم إخوانُكم ومِن جلدَتِكم، ويأخُذُون مِن الليل كما تأخُذُون، ولكنَّهم قومٌ إذا خلَوا بمحارِمِ الله انتَهَكُوها» (رواه ابن ماجَه).
كانُوا يُصلُّون ويصُومُون، ويأخُذُون مِن الليل ما يأخُذُون، ولكنهم لا يُراقِبُون اللهَ في السرَّاء، فأدحَضَ الله أعمالَهم، وبدَا لهم مِن الله ما لم يكونُوا يحتَسِبُون.
إذا ما خلَوتَ الدَّهرَ يومًا فلا تقُلْ *** خلَوتُ، ولكن قُل: علَيَّ رقِيبُ
ولا تحسَبَنَّ اللهَ يغفَلُ ساعةً | ولا أن ما يُخفَى عليه يَغِيبُ |
ألا فاستَقيمُوا على طاعةِ ربِّكم، واستَجيبُوا لأمرِه في جميعِ أدوارِ حياتِكم؛ تفوزُوا وتغنَمُوا، وتسعَدُوا تُفلِحُوا.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأحقاف: 13، 14].
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَني وإيَّاكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، أقولُ ما تسمَعُون، وأستَغفِرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائِرِ المُسلمين، فاستغفِرُوه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتِنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهدُ أن مُحمدًا عبدُه ورسولُه الداعِي إلى رِضوانِه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أيها المُسلمون: اتَّقُوا اللهَ تعالى، وبادِرُوا أعمارَكم بأعمالِكم، وحقِّقُوا أقوالَكم بأفعالِكم؛ فإن حقيقةَ عُمر الإنسام ما أمضَاه في طاعةِ الله، وإن الكيِّسَ مَن دانَ نفسه وعمِلَ لِما بعد المَوتِ، والعاجِزَ مَن أتبَعَ نفسَه هواها وتمنَّى الله الأمانِيَّ.
عباد الله: الشهورُ كلُّها مواسِمُ عبادةٍ، وإن تفاوَتَت واختلَفت في الفضلِ والوظائِفِ، والعُمرُ كلُّه فُرصةُ عملٍ وطاعةٍ، وكلٌّ يغدُو فبائِعٌ نفسَه فمُعتِقُها أو مُوبِقها، وكلٌّ مُيسَّرٌ لِما خُلِقَ له.
فيا مَن وفَى رمضانَ على أحسَنِ حالٍ، فزانَت مِنه الأقوالُ والأفعالُ! اثبُت ولا تتغيَّرنَّ بعدَه في شوال.
ويا مَن سبَقَك القومُ وتخلَّفتَ .. ومضَى أكثرُ العُمر وسوَّفتَ .. وضاعَت عليك فُرصةُ رمضان فما ربِحتَ! هلُمَّ فالأبوابُ لا زالَت مفتُوحة، والتوبةُ مقبُولة، (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].
معشرَ المُسلمين: إن مِن سُن الهُدى: صِيامَ ستٍّ مِن شوال؛ فعن أبي أيوب الأنصاريِّ - رضي الله عنه -، أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال:«مَن صامَ رمضان ثم أتبَعَه سِتًّا مِن شوال كان كصِيام الدَّهر» (رواه مسلم).
فقد جعلَ الله الحسنةَ بعشرةِ أمثالِها؛ فشهرٌ بعشرة أشهُر، وستَّةُ أيامٍ بعد الفِطر بعشرة أضعافِها ستِّين، فتلك تمامُ السنة، ولا بأسَ بصِيامِها مُتتابِعةً أو مُتفرِّقة.
فلا يبخَلَنَّ أحدُكم على نفسِه بستَّةِ أيامٍ، لعلَّه أن يُكتَبَ مِمَّن صامَ الدهرَ، وتلك غنِيمةٌ عظيمةٌ تستوجِبُ الحِرصَ والسعيَ والجِدَّ.
أيها المُسلمون: إن ما قامَ به المُعتَدُون في رمضان وفي مكة وقُرب الكعبة مِن أعمالٍ إرهابيَّةٍ ستنكِرُها الشرعُ والعقلُ، لم يُراعُوا حُرمةَ رمضان، ولا حُرمةَ بيت الله الحرام، ولا حُرمةَ دماءِ المُؤمنين الصِّيام إنما هي مِن كيدِ أعداءِ الإسلام، وتجاسُرِ المُحارِبِين الذين يسعَون في الأرضِ فسادًا، وللبيتِ ربٌّ يَحمِيه.
وقد توعَّدَ الله مَن انتهَكَ حُرمتَه فقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج: 25].
ردَّ الله كيدَهم في نُحورِهم، وجعلَ تدبيرَهم تدميرَهم، وقطعَ دابِرَهم إنه قويٌّ عزيزٌ.
ثم اعلَمُوا - عباد الله - أن اللهَ أمرَنا بأمرٍ عظيمٍ، ألا وهو: الصلاةُ والتسليمُ على النبيِّ الكريمِ.
فاللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيِّدنا ونبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن الخُلفاء الراشِدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائرِ الصحابةِ والآلِ أجمعين، ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم اجعَلنا مِمَّن تقبَّلتَ صِيامَه وقِيامَه، اللهم اجعَلنا مِمَّن تقبَّلتَ صِيامَه وقِيامَه، وسائرَ أعمالِه.
اللهم أعِد علينا رمضان أعوامًا عديدة، اللهم أعِد علينا رمضان أعوامًا عديدة، وأزمِنةً مديدة ونحن في صحَّةٍ وعافِيةٍ وأمنٍ وأمانٍ.
اللهم أطِل أعمارَنا، وأحسِن أعمالَنا، واختِم لنا بخيرٍ يا رب العالمين.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ يا رب العالمين.
اللهم احفَظ وليَّ أمرنا خادِمَ الحرمَين الشريفَين بحفظِك، واكلأه برِعايتِك، اللهم وفِّقه ووليَّ عهدِه لِما تُحبُّ وترضَى، وخُذ بناصِيتِهم للبِرِّ والتقوَى، اللهم وفِّقهم لِما فيه خيرٌ للإسلام والمُسلمين، ولِما فيه صلاحُ البلاد والعباد يا رب العالمين، اللهم ارزُقهم البِطانةَ الصالِحةَ الناصِحةَ التي تدُلُّهم على الخير وتُعينُهم عليه يا رب العالمين.
عباد الله: اذكُروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُركم، واشكُروه على نِعمِه وآلائِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلَمُ ما تصنَعُون.