البارئ
(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
في ذلك اليوم يحشر الناس حفاة عراة غرلا، وتدنو الشمس من الخلائق، ويرهقهم العطش، ويتمنون أن يفصل بينهم، وأن يبدأ الحساب، حتى لو أمر بهم إلى النار جميعا، فيبحث الناس عن من يشفع لهم عند الرب -سبحانه- ليفصل بينهم. ومن رحمة الله بالخلق...
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا أيها الناس: لقد أخبر -سبحانه- أن الناس يبعثون من قبورهم لأرض المحشر، وأنهم يحاسبون على أعمالهم، وأنهم يقفون في أرض المحشر نصف يوم وهو ما يعادل خمسمائة عام: (وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ)[الحـج: 47].
فما هو حال الناس في ذلك اليوم؟ عندما (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ)[عبس: 34 - 36].
في ذلك اليوم يحشر الناس حفاة عراة غرلا، وتدنو الشمس من الخلائق، ويرهقهم العطش، ويتمنون أن يفصل بينهم، وأن يبدأ الحساب، حتى لو أمر بهم إلى النار جميعا، فيبحث الناس عن من يشفع لهم عند الرب -سبحانه- ليفصل بينهم.
ومن رحمة الله بالخلق في ذلك اليوم: أن أذن في الشفاعة، وهي على أنواع:
النوع الأول: الشفاعة الخاصة، وهي التي تكون للرسول -صلى الله عليه وسلم- خاصة لا يشاركه فيها غيره من الخلق وهي أقسام:
أولها: الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود الذي وعده الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، في قوله -تعالى-: (وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)[الإسراء: 79].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتي بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة، ثم قال: "أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم فيأتون آدم -عليه السلام- فيقولون له: أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا، فيقولون: يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك الله عبدا شكورا، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي -عز وجل- قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات، فذكرهن أبو حيان في الحديث، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى ابن مريم، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلمت الناس في المهد صبيا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله قط، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبا، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد، فيأتون محمدا فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي -عز وجل- ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، أمتي يا رب، فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير أو كما بين مكة وبصرى".
والأحاديث الدالة على هذه الشفاعة كثيرة في الصحيحين وغيرهما، ومنها ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثاً، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود".
وهذه الشفاعة من النبي -صلى الله عليه وسلم- يشترك فيها جميع الخلق، المؤمن والكافر والجن والإنس والحيوانات، فهي للفصل وبدأ الحساب.
وفيها بيان مرتبة النبي وفضله على سائر الخلق -صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين-.
اللهم لا تحرمنا شفاعة نبيك -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا أيها الناس: لا يزال الحديث موصولا عن الشفاعة يوم القيامة، والشفاعة -كما سبق أنواع-، ومنها الخاص ومنها العام، فمن الشفاعات التي تختص بنبينا -صلى الله عليه وسلم-: الشفاعة لأهل الجنة لدخول الجنة، فلا يدخلوها إلا بشفاعته، فهو الذي يقودهم إليها، وأمته أول الأمم دخولا للجنة.
ومن شفاعات النبي -صلى الله عليه وسلم- الخاصة: شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب ليخفف عنه العذاب جزاء لما كان يعمل من الدفاع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ونصرته في حياته، غير أنها شفاعة للتخفيف ولا يخرج من النار، فيرفع من قعر جهنم إلى ضحضاح من نار، يغلي منها دماغه.
ومن شفاعات النبي -صلى الله عليه وسلم-: شفاعته في دخول أناس من أمته الجنة بغير حساب ولا عذاب، كما مر في حديث الشفاعة العظمى.
فهذه كلها شفاعات خاصة به صلى الله عليه وسلم لا يشركه فيها أحد.
وأما النوع الثاني وهي الشفاعات العامة، وهي تكون للرسول -صلى الله عليه وسلم- ويشاركه فيها من شاء الله من الملائكة والنبيين والصالحين، وهي أقسام:
منها: الشفاعة لأناس قد استحقوا النار في أن لا يدخلوها، فيشفع فيهم قبل الدخول، كالصلاة على الميت هي شفاعة له.
ومنها: الشفاعة لأناس من أهل الإيمان قد استحقوا الجنة أن يزدادوا رفعة ودرجات في الجنة، وهي كثير كاجتماع الأسرة الواحدة إذا دخلوا الجنة في درجة واحدة وهي أعلى درجاتهم وغيرهم.
ومنها: الشفاعة لأناس قد دخلوا النار في أن يخرجوا منها.
والأدلة على هذا القسم كثيرة جدا منها ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعا: "فو الذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون. فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا... فيقول الله -عز وجل-: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط".
عباد الله: إن للشفاعة شروطا فيس لكل أحد أن يشفع إلا إذا توفر الشروط، وهي:
1- رضا الله عن المشفوع له، لقول تعالى: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)[الأنبياء: 28]، وهذا يستلزم أن يكون المشفوع له من أهل التوحيد لأن الله لا يرضى عن المشركين.
2- إذن الله للشافع أن يشفع؛ لقوله تعالى: (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ)[البقرة: 255].
3- رضا الله عن الشافع، لقوله تعالى: (إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى)[النجم: 26].
معاشر المؤمنين: ليحذر العبد أن يحرم الشفاعة يوم القيامة، فهناك ذنوب تحجب الشفاعة منها ما بَيَّنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن اللعانين لا يكونون شفعاء يوم القيامة كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ اللَّعَّانِينَ لا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ وَلا شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَة".
اللهم ارزقنا شفاعة نبيك -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم اغفر للمسلمين...