المعطي
كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أعلام الدعاة |
إنه علم من أعلام الدنيا، وشامة من شامات الإسلام، إنه الرجل الذي أدهش التاريخ، وأذهل البشرية، إنه مفخرة الإسلام والمسلمين، إنه الإمام الحافظ العلامة المجتهد الزاهد العابد، حسن السمت، جيد السياسة، إنه...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون: ثبت عن الخليفة المسدد والإمام الملهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "إن من ولدي رجلا بوجهه أثر، يملأ الأرض عدلا"، وكان الفاروق قد رأى رؤيا تشير إلى ذلك وقد تكررت هذه الرؤيا لغير الفاروق حتى أصبح الأمر مشهورا عند الناس، وما هي إلا سنوات وتتحقق الرؤيا ويأتي هذا الرجل المعجزة الذي ملأ الأرض عدلا وخيرا وفضلا، فيا ترى من هو هذا الرجل؟ ومن يكون؟
إنه علم من أعلام الدنيا، وشامة من شامات الإسلام، إنه الرجل الذي أدهش التاريخ، وأذهل البشرية، إنه مفخرة الإسلام والمسلمين، إنه الإمام الحافظ العلامة المجتهد الزاهد العابد، حسن السمت، جيد السياسة، إنه أمير المؤمنين حقا: أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أمية بن عبد مناف، القرشي، الأموي، وأمه ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم- ويقال له: "أشج بني مروان"؛ لأنه لما كان صغيرا دخل اصطبل أبيه ليرى الخيل فضربه فرس في وجهه فشجه، فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول: "إن كنت أشج بني أمية إنك إذا لسعيد".
ولد عام إحدى وستين للهجرة بالمدينة النبوية.
نشأ عمر بن عبد العزيز في بيت الملك والخلافة، فقد كان أبوه عبد العزيز بن مروان أميرا على مصر أكثر من عشرين سنة، وكان رجلا دقيق الوجه، جميلا، نحيف الجسم، حسن اللحية.
فلما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين: عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدمه على كثير منهم، وزوجه ابنته فاطمة بنت عبدالملك، المرأة الصالحة التي كانت مضرب المثل في كل شيء والتي تأثرت كثيرا بعمر بن عبد العزيز، وآثرت ما عند الله على متاع الدنيا.
نشأ عمر في المدينة، وتربى وتعلم على أيدي كثير من الصحابة والتابعين والعلماء، فقد نهل من علمهم، وتأدب بأدبهم، ولازم مجالسهم حتى ظهرت آثار هذه التربية في أخلاقه وتصرفاته، وما زال دأبه كذلك حتى اشتهر وظهر أمره.
وقد أطنب العلماء والمؤرخون في الثناء على عمر بن عبد العزيز وذكر محاسنه، فوصفه الحافظ الذهبي بقوله: "كان ثقة، مأمونا، له فقه وعلم وورع، وروى حديثا كثيرا، وكان إمام عدل رحمه الله، ورضي عنه".
وقد احتج الفقهاء والعلماء بقوله وفعله، وأوردوه في حججهم الفقهية، وكتبهم ممتلئة بأقواله ككتاب "المغني" لابن قدامة، و"الأوسط" لابن المنذر، وغيرهما.
وهو المجدد الأول في الإسلام، كما نص على ذلك الإمام الزهري، والإمام أحمد بن حنبل.
عباد الله: من أبرز صفات عمر: خوفه الشديد من الله -تعالى-، وزهده عن الدنيا مع انقيادها له؛ تقول زوجته فاطمة بنت عبد الملك: "والله ما كان بأكثر الناس صلاة، ولا أكثرهم صياما، ولكن والله ما رأيت أحدا أخوف لله من عمر، لقد كان يذكر الله في فراشه، فينتفض انتفاض العصفور من شدة الخوف حتى نقول: ليصبحن الناس ولا خليفة لهم".
تولى إمارة المدينة النبوية ثم الحجاز كله، ثم لما تولى سليمان بن عبد الملك الخلافة جعله وزيرا ومستشارا ملازما له في إقامته وسفره، ولله در الفقيه رجاء بن حيوة الذي اقترح على سليمان بن عبد الملك في مرض موته أن يولي عمر بن عبد العزيز.
أيها المسلمون: لما بويع عمر بالخلافة قام ليلقي أول خطاب له على المنبر فتعثر في طريقه، تعثر من ثقل المسؤولية، تعثر من خوف رب البرية، فلما انتهى من خطبة التتويج عرضت له المواكب الفارهة ليركبها حتى ينطلق بها إلى قصر الخلافة كما كان يفعل أسلافه من قبل، فأعرض عنها قائلا: "ما أنا إلا رجل من المسلمين أغدو كما يغدون، وأروح كما يروحون".
عاد لبيته معلنا أن من تواضع لله رفعه، فترك قصر الخلافة، ونزل غرفته المتواضعة وجلس حزينا يئن تحت وطأة المسؤولية.
أما عن أول إصلاح قام به عمر فهو رد المظالم إلى أهلها، فبدأ بنفسه فنظر ما لديه من أرض ومتاع وغيرهما ليست من كسب يده فردها إلى مال المسلمين، حتى بلغ به حرصه في التثبت أنه نزع حلي سيفه من الفضة، وحلاه بالحديد، ووضع حلي زوجته في بيت المال.
ثم اتجه إلى أبناء البيت الأموي، وإلى الأمراء والوزراء وحاشيتهم وطلب إليهم أن يخرجوا ما بأيديهم من أموال وإقطاعات وثروات مما أخذوه بغير حق، ولم تمض سوى أيام معدودات حتى وجد بنو أمية أنفسهم مجردين إلا من حقهم الطبيعي المشروع، ثم بين لهم عمر أن ليس لهم من الحق في أموال الخزانة العامة أكثر مما للأعرابي في صحرائه، والراعي في جبله، قال ابن موسى: "ما زال عمر بن عبد العزيز يرد المظالم منذ استخلف إلى يوم مات".
وقد أثارت تصرفات عمر وحفظه للمال العام حفيظة بعض أقاربه، ممن عاشوا على الأعطيات والمخصصات، فأرسلوا من يبلغه غضبهم، وعدم رضاهم عنه؛ فكان جواب عمر للرسول: "قل لهم إن عمر يقول: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)[الزمر:13].
والحقيقة أن اتخاذه هذه القرارات المصيرية والتجلد على تطبيقها بالرغم من المعارضات والضغوط هذا بحد ذاته يعتبر قدرة فائقة في شخصية هذا الإمام.
وسبحان الله إذا اجتمع خوف من الله، وزهد عن زهرة الدنيا، وحسن إدارة وتخطيط، وقوة في اتخاذ القرار ثم الصبر على تطبيقه، وصادف حسن اختيار للأعوان المخلصين فإن النتائج -بإذن الله- مبهرة، كما سنذكر بعد قليل.
عباد الله: لقد بلغ عمر بن عبد العزيز من الزهد والشظف في الحياة والتقشف في المعيشة مبلغا يعجز عنه الزهاد فضلا عن الملوك والأمراء، فقد كان يتأخر في بعض الأحيان عن الخروج لصلاة الجمعة انتظارا لقميصه أن يجف، لقد عرف قيمة الحياة الزائلة وأنها ليست بشيء أمام الآخرة الباقية، وتحرر من سيطرتها على قلبه، واستحضر هذا الشعور دائما فكان هذا من أهم أسباب حذره الشديد من ملاذ الحياة والتمتع بالمباحات، وإلا لما استطاع مثل عمر وهو أكبر ملوك الأرض في عصره -وهو في دمشق عاصمة العالم المتمدن يومئذ- أن يحفظ نفسه من الاندفاع إلى الترف، وحياة الدعة.
تميزت خلافة عمر بن عبد العزيز بعدد من المميزات، منها: العدل والمساواة، ورد المظالم، وعزل جميع الولاة الظالمين ومعاقبتهم، كما أعاد العمل بالشورى، وألغى الضرائب التي فرضتها الحكومات السابقة، وأطلق للناس حرية التجارة في البر والبحر. وأنصف أهل الذمة ورفع الظلم عنهم، وأمر بعدم التضييق عليهم في معتقدهم ودينهم وأن لا يعتدى عليهم أو على معابدهم.
وقد استطاعت سياسته المالية القضاء على الفقر، وتوزيع الدخل والثروة بشكل عادل، وحققت التوازن بين الناس، حتى لم يعد هناك من يحتاج إلى الصدقة؛ فقد ذكر الذهبي عن عمر بن أسيد، قال: "والله، ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون. فما يبرح يرجع بماله كله، قد أغنى عمر الناس".
لقد كانت ترسل كتب أمير المؤمنين وتقرأ في مساجد عواصم دولته التي كانت تبلغ مساحتها ربع مساحة العالم اليوم، وكان مما فيها: "من كان عليه أمانة وعجز عن أدائها فلتؤد عنه من بيت مال المسلمين! من كان عليه دين وعجز عن سداده فسداد دينه من بيت مال المسلمين! من أراد من الشباب أن يتزوج وعجز عن الصداق فصداقه من بيت مال المسلمين! من أراد من المسلمين أن يحج وعجز عن النفقة فليعط النفقة من بيت مال المسلمين!"، والله إننا لنذهل أمام هذا الإجماع التاريخي الذي يقول: لقد اختفى الفقر والفقراء في عهد عمر -رضي الله عنه-! نعم اختفى الفقر! يا للعجب! هل تم هذا في عشرة أعوام أم عشرين عاما؟! كلا والله، بل في أقل من سنتين! إنها المعجزة! إنها الكرامة الكبرى لهذا الإمام! نعم.
لقد سلك عمر طريق الحق ومنهج الله -عز وجل-، فصدق فيه قول الله: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ)[الأعراف:96].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلم على رسول الله؛ وبعد:
فيا إخوة الإيمان: لم تطل حياة عمر بن عبد العزيز طويلا فقد اختطفته يد المنون وهو لم يتجاوز الأربعين من عمره، فلما مرض مرض الموت وانتشر خبر مرضه ضج الناس وتكدروا، فكم كانت مصيبتهم يؤمئذ؛ لأنهم يعرفون أن عمر لن يتكرر وأن مشروعه الإصلاحي لن يستمر، لكنها إرادة الله -تعالى-.
لما اشتد به المرض دخل عليه محبوه مودعين فوجدوه صابرا محتسبا ثم أمر بدعوة أبنائه فجلسوا يحيطون به، وراح يعانقهم بنظراته الحانية وودعهم بقوله: "يا بني إن أباكم خير بين أمرين، أن تستغنوا ويدخل النار، أو تفتقروا ويدخل الجنة، فاختار الجنة وآثر أن يترككم لله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين"، فلما احتضر قال لأهله: "اخرجوا عني، فخرجوا وجلس على الباب مسلمة بن عبد الملك وأخته فاطمة فسمعوه يقول: "مرحبا بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس ولا جان، ثم قرأ: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[القصص:83]، ثم هدأ الصوت، فدخلوا عليه فوجدوه قد قبض.
إخوة الإسلام: مات عمر؟! نعم مات عمر، وما مات ذكره في العالمين، لقد لهج المسلمون بالدعاء والثناء عليه، حتى غير المسلمين أيضا.
والله ما ادكرت روحي لسيرته | إلا تمنيت في دنياه لقياه |
ولا تذكرت إلا وخالجني شوق | أبو حفص فحواه ومعناه |
الطفل من بعده يبكي عدالته | يقول هل مات ذاك الغيث أماه؟ |
والناس حيرى يتامى في جنازته | تساءلوا من يقيم العدل إلاه |
مضى إلى الله والآلاف تندبه | ابن الشريعة حياها وحياه |
فرحم الله عمر رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء..
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله ..