البحث

عبارات مقترحة:

الأكرم

اسمُ (الأكرم) على وزن (أفعل)، مِن الكَرَم، وهو اسمٌ من أسماء الله...

الشافي

كلمة (الشافي) في اللغة اسم فاعل من الشفاء، وهو البرء من السقم،...

الرحمن

هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...

دروس من قصة طالوت في انتصاره على الطاغية جالوت (2)

العربية

المؤلف عائض ناهض الغامدي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - أعلام الدعاة
عناصر الخطبة
  1. دروس وعبر من قصة طالوت وجالوت .
  2. أثر العقيدة في الثبات والصبر والنصر .
  3. أحداث المعركة .
  4. أهم الدروس العامة المستفادة من قصة طالوت .

اقتباس

في هذا الموقف العصيب الشديد الرهيب برز أثر العقيدة الصافية الصادقة الخالصة في الثبات والصبر والمصابرة والمرابطة، ودور العقيدة الصالحة الهام في تحول التاريخ في هذا اليوم المشهود وتحطيم الموازين المادية الأرضية أمام الموازين الإيمانية الربانية، فهذه الفئة المؤمنة الصادقة القليلة في عددها والضعيفة في عدتها، ولكنها الموقنة بلقاء الله وقدرته والواثقة في نصره والمعتمدة على تأييده وحده دون سواه ..

الحمد لله...

المشهد الرابع: مرحلة التصفية وتنقية الذهب من الكير:

وبعد الانتقال من مرحلة مطالبة بني إسرائيل بالجهاد ثم فرضه عليهم ثم توليهم إلا القليل منهم إلى مرحلة الاعتراض على الحق والتهرب من القيام به والتحجج بالأعذار التي تدل على الأنانية (قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ) [البقرة: 247] ثم إلى مشهد تأييد الحق بمعجزة التابوت المشاهدة القاطعة لكل شك، المزيلة لكل لبس، إلى هذه المرحلة الفاصلة بين الراسخين في العلم والتربية الإيمانية والصادقين في عقيدتهم وبين المنهزمين المهزوزين الذين يحسبون أنهم على شيء !

إنه مشهد اختبار النخبة المستجيبة لنداء الحق والسائرة في طريق نصرته، وتمحيصها بما يعرض لها في هذا الطريق من عوائق، وما يصيبها فيه من الضراء والبأساء.

قال الله عز شأنه وتقدست أسماؤه: ( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 249].

فلما ابتعد طالوتُ بمن استجاب معه للحق عن مستقرهم ابتلوا باختبار ثالث وقال لهم (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ) ومختبرهم بالشرب من النهر البارد العذب، وقد بلغ بهم العطش مبلغه (فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) ولا يستمر معي في غزو العدو؛ لأن من ضعف لشهوة النفس في الشرب فسيكون أشد ضعفًا أمام قوة العدو ومن لم يصبر على ألم العطش لن يصبر لألم القتال والجراح (وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)، فهذا شرط حاسم في تمييز كفاءة الجيش في الصبر واختبار عملي في مدى قدرته على تحمل المشاق، فمن لم يذق النهر في شدة ومنتهى العطش هو المؤهل في خوض المعركة الفاصلة والحاسمة مع الجبارين، وقد رخص لمن (اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) أن يشرب هذه الغَرفَة.

ولكن من المؤسف والمحزن والمخيف أن الكثير رسب وسقط في هذا الاختبار(فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِّنْهُمْ)، وقد ذُكِرَ أن عدد الذين وردوا على النهر ثمانين ألفًا ولم يتجاوز هذا الابتلاء إلا أربعة آلاف، وستة وسبعون ألفًا قد فشلوا ورجعوا (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) وبعد تجاوز النهر بهذا العدد القليل من المؤمنين ابتلوا باختبار رابع، وهو مشاهدة جيش العمالقة الجبارين المدجج بأنواع الأسلحة الفتاكة، فأصاب الخَوَر والهزيمة النفسية بعض المؤمنين و(قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) فانهزم من الذين تجاوزوا النهر الكثير، وكلهم من المؤمنين، وهذا أمر خطير ومخيف ولم يثبت ويصمد مع طالوت في وجه الجبارين الطاغين الباغين إلا ثلاثمائة وبضعة عشر من أربعة آلاف وكان عدد الذين مع رسول الله في غزوة بدر مثل عدد الذين خاضوا معركة الفرقان مع طالوت ضد جالوت وجنوده.

وهنا في هذا الموقف العصيب الشديد الرهيب برز أثر العقيدة الصافية الصادقة الخالصة في الثبات والصبر والمصابرة والمرابطة، ودور العقيدة الصالحة الهام في تحول التاريخ في هذا اليوم المشهود وتحطيم الموازين المادية الأرضية أمام الموازين الإيمانية الربانية و(قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) فهذه الفئة المؤمنة الصادقة القليلة في عددها والضعيفة في عدتها، ولكنها الموقنة بلقاء الله وقدرته والواثقة في نصره والمعتمدة على تأييده وحده دون سواه هزمت الفئة الكثيرة في العدد والقوية في العُدَد والتي تمتلك كل القدرات المادية الممكنة.

ومن الدروس المستفادة من هذا المشهد:
1– من حكمة القائد وحسن قيادته اختبار قدرات جنوده المعنوية ومدى قوة تربيتهم الإيمانية.
2 - يجب على القائد منع من لا يصلح للحرب سواء كان مرجفًا أو مخذلاً أو غيرهما. والمرجف: هو من يخوّف المسلمين من قوة عدوهم أو عدده أو استعداده. والمخذل: من يقول لن تنتصروا، أو رأيت في المنام هزيمتكم.

3 – على القائد أن يختبر قدرات جنوده بما يراه مناسبًا مع المحافظة على كرامتهم والبعد عن خدش عزتهم؛ لأن الكرامة إذا كسرت اتصفوا بالمهانة والتعود عليها والعزة إذا خدشت نزفت حتى يغرق الجندي في الذلة، ولن يثبت في المعركة إلا كريم عزيز، وأما من تعود على المهانة وأشرب في قلبه الذلة فسيشتري الحياة بثمن بخس ويكون في وقت الشدة من الذين يولون الدبر لأنه اعتاد المهانة والذلة وتربى عليها فهان عليه التولي والهزيمة.

3- من لم يجاهد نفسه وينتصر على شهواته ورغباته لا يمكن أن ينتصر على عدوه.

4– أن جنود طالوت اختبروا بنهر الماء المباح في شدة العطش وحاجتهم للشرب فسقط في الاختبار ستة وسبعون ألفًا !! فكيف تنتصر أمة ترسب يوميًّا في اختبار الفرائض والواجبات وترك المحرمات وهي لا تتضرر بفعل ما أمرت به بل تنتفع ولا تتضرر بترك ما نهيت عنه بل تسلم وتغنم!

إن حالنا في غاية الخطورة !

5– أن الطائع لله قليل والعاصي والمخالف لشرع الله كثير (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِّنْهُمْ). والكثرة مذمومة في كثير من الآيات.

فالقلة القليلة هي الناجية المفلحة المنتصرة وأن الكثير خاسر فعلى المؤمن أن لا يغتر بكثرة الهالكين، ولا يهوله كثرة المعارضين للحق والمخالفين له.

لا تخشَ كثرتهم فهم همج الورى

وذبابه، أتخاف من ذبان؟!

6 - إن ثبات هذه الفئة القليلة الضعيفة ماديًّا أمام الفئة الكثيرة القوية ماديا آية عظيمة على وجود الله وقدرته القاهرة وحكمته العظيمة الباهرة، وأن هؤلاء الضعفاء القلة لولا أن الله القوي القدير على كل شيء ليس معهم لما صبروا وثبتوا صامدين حتى انتصروا.

7 – إن البقاء والنصر لقوة العقيدة الربانية، وعلى قدر رسوخها في نفوس أصحابها واستقرارها في قلوبهم ولا بقاء ولا نصر للقوة المادية مهما انتفشت وانتشرت.

8 - دور الصادقين المخلصين الكبير والنافع في إصلاح الأمة الإسلامية وثباتها على دينها وصمودها في وجه عدوها (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) فإذا تخلى هؤلاء الربانيون عن مكانهم الصحيح وتنازلوا عن منزلتهم اللائقة وتركوا الفرصة للمتاجرين بقضايا الأمة الكبرى وأمورها المصيرية ووجد الرويبضة الفرصة للقفز على منابر التوجيه، وتسلق قمم القيادة أصاب الأمة الهوان والخزي والتفرق والتشرذم وألفت حياة الذلة واهتمت بتوافه الأمور وسافل الخصال وافتخرت بالقعود في القيعان وحاربت الصعود إلى قمم المعالي.

9 - أهمية الصبر ووجوب اتصاف المؤمن به وأن الله قد فرض الصبر علينا لأنه يعيننا على أمور الدين والدنيا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[البقرة: 153]، (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 146]، (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 249]، وجعل الله العاقبة الحسنة لأهله (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 155].

المشهد الخامس: تقابل الفريقان والتقاء الجمعان في يوم الفرقان: ( وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 250].

ونستفيد من هذا المشهد:
1 - التجرد من كل حول وقوة والتضرع إلى الله هو السبب الفاعل لنصر الله.

2 - إنهم لم يدعوا وهم في بيوتهم أو أعمال الدنيا وإنما دعوا الله وتضرعوا بعدما بذلوا ما في وسعهم وعملوا ما يقدروا على عمله وخرجوا إلى عدوهم كما فعل الرسول صلى الله عليهم وسلم في غزوة بدر.

3 – أهمية هذه المطالب الثلاثة التي تقدموا بطلبها من ربهم ومولاهم (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا) (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) (وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).

المشهد السادس: نصر الله أهل الإيمان أولياء الرحمن على أهل الطغيان أولياء الشيطان : (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: 251].

1 – هزموا الطاغي الباغي جالوت وجنوده بقوة الله (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ) فالله هو الذي أذِنَ بانتصار أوليائه وهزيمة أعدائه (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ) فهزيمة جالوت وجنوده انتصار لطالوت وجنوده، وقد بَيَّن الله أن هزيمة الطغاة بسبب أهل الإيمان، ونلاحظ هنا أن الله نَسَب انتصار أولياء الرحمن وهزيمة أولياء الشيطان إلى الجماعة المؤمنة، ولم ينسبه لطالوت؛ لأنهم أنصاره وأعوانه الذين كان لهم الدور البارز والأثر الفاعل في تحقيق النصر، وقد أخبرنا الله عن موقفهم حين تزلزل الناس (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) وأخبرنا الله عن تضرعهم ودعائهم ولجوئهم إلى ربهم (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا.....)، وفي كل هذين الموقفين نسب الله الفعل والعمل للجماعة المؤمنة جميعا، وهذا نستفيد منه أمور مهمة منها:

أ – أهمية دورهم – جميعًا - في الثبات والتثبيت.

ب – أهمية تضرعهم في الدعاء واجتهادهم فيما يقرب إلى الله واللجوء إليه بما يحب ويكون ذلك منهم جميعا.

ج – أهمية الأخذ بالأسباب المادية، ولكن الاتكال والاعتماد على الله وحده لا على الأسباب المادية ويتضح ذلك من قوله (بِإِذْنِ اللَّهِ) وقوله (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ).

2 – وهنا درس كبير من دروس هذا المشهد وحقيقة من حقائق التوحيد واليقين والتوكل على الله وهي إن النصر من الله وحده ومن خصائصه التي تفرد بها ولم يشاركه فيها أحد(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [ الأنفال: 10].

فعلى المؤمنين بذل ما في وسعه والأخذ بكل الأسباب المادية والشرعية الممكنة وليعلموا أن النصر بيد الله، ولكنه قريب بقدر قربهم من طاعته وبقدر بعدهم عن معصيته (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214].

3 - أظهر الله للناس حقارة وضعف الطاغية جالوت؛ لأنه قتله رجل واحد من جنود طالوت الذين يحتقرهم جالوت ولا يراهم في عينه شيئا (وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ)! وقيل: أن داود أصغر القوم سنا.

4 - فضل داود وشجاعته وموقفه البطولي الذي نقطة تحول في تاريخ ذلك الزمن.

5 - تواضع طالوت ورجاحة علمه وعقله وفضله حين اعترافه بفضل داود، وأشركه معه في الملك، وكان بإمكان طالوت أن يقصي داود حين ظهر أنه منافسا له قويا وجديرا بالملك، ثم صار الملك إلى داود ثم ابنه سليمان وصار عصرا ذهبيا لبني إسرائيل.

قال الله في ختام هذه القصة النافعة ( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [البقرة: 250]، ختم الله القصة بهذه الآيات التي بين فيها أن هذه القصة وما ذكر فيها من آيات الدالة على كمال ربوبيته، وآيات قدرته وحكمته وآيات نصره للمؤمنين، وآيات صدق رسوله وكمال رسالته وتصديقها لما قبلها وبين يديها من الكتب، (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) لأنك أخبرت بقصص الأولين كما وقعت وأنت أُمّي لا تقرأ ولا تكتب فدل ذلك على أن ما جئت به هو وحي أوحاه الله إليك.

الخطبة الثانية:

ونختم هذه النبذة الموجزة في ذكر هذه القصة بذكر بعض الدروس العامة من قصة طالوت:
1 - تقرير الحكمة الربانية من الجهاد، وأنه لم يشرع للسلب والمغنم كما يزعم أولياء الشيطان ولم يكتبه الله على عباده المؤمنين للزهو والاستعلاء وبناء مجد أمة على ذل أمة أخرى ولكن شرع الله الجهاد لإصلاح أهل الأرض وحفظ الضروريات التي لا تصلح الأرض ودين الناس وحياتهم إلا بها (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)[الأنفال: 39]، فالهدف من الجهاد إخضاع الناس لسلطان ربهم الذي خلقهم ورزقهم، وهو أرحم بهم من أنفسهم وتحريرهم من عبودية شياطين الإنس وحكمهم بشريعة السماء بدلا من شرائع الأهواء التي جعلتهم أذلة أهون وأحقر من الجعلان.

2 – أهمية التربية الجهادية وشحذ الهمم لدفع العدو الغازي، وقد كان لمثل هذه القصة من قصص الجهاد والتضحية في سبيل الله أكبر الأثر في حياة الصحابة وثباتهم أمام الأعداء من الوثنيين واليهود والروم والفرس وصبرهم على حفظ الدين ونشره، فانظر إلى أثر القرآن على أصحابه!

3 – أن الذل الذي أصاب بني إسرائيل في هذه الفترة من التاريخ بسبب فسقهم وما شاع بينهم من تبرج نسائهم وانتشار الزنا وأكل الربا وظلم الناس وتعطيل العمل بكتاب الله والإعراض عن هدي رسوله، فسلط الله عليهم عدوهم يسومهم سوء العذاب فأصبحوا مهجرين ولاجئين كحال الكثير من المسلمين اليوم.

4 – خطر أصحاب المصالح الشخصية على الإصلاح العام في الأمة وتحقيق مصالحها العامة؛ لأن هؤلاء النفعيين عائق كبير وخطير للإصلاح، وهم لا يقدمون للمناصب إلا من يحقق مصالحهم ولو كان من أسوأ الناس وأفسدهم، ودورهم الكبير في التخذيل والإرجاف وإثارة البلبلة بين الأمة وتفريق الصف، وذلك كله بسبب جهلهم وضعف إيمانهم وسطحية فهمهم وتقديمهم لأهوائهم على هدى الله.

5 – أهمية معرفة سنة الله في دفع الطغاة الغزاة المحتلين عن بلاد المسلمين وإزالتهم عنها لا يكون إلا بجهادهم حتى القضاء عليهم ونصر المسلمين عليهم والصمود أمام طغيان هذا العدو والصبر على جهاده (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7].

6 – قال الله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) [ البقرة: 243] المقارنة بين الفئة القليلة في قصة طالوت وبين الألوف الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الموت وطلبا للحياة (فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا) كما في الآية التي قبل آيات هذه القصة، فوقعوا فيما فروا منه وأتاهم الموت من حيث يظنون ويطلبوا السلامة !!

وأما هؤلاء المؤمنون الصادقون الصابرون الموقنون بنصر الله، ففروا من الحياة طلبا للموت في سبيل الله وتقدموا إلى الموت المحقق فحفظ الله حياتهم ووهب لهم حياة أكرم وأفضل وهي حياة النصر والعز والتمكين لدينهم في الأرض، فزادهم الله هذه الحياة بنصره المؤزر العظيم ليكون ذلك آية من آيات الخالق العظيم الكبرى الدالة على عظمة ربوبيته وبرهان ساطع قاطع على قوة سلطانه وشمول ملكه وإحاطة بكل شيء.

7 – إن هذه القصة مر أصحابها بابتلاءات متعددة من أول القصة إلى نهايتها، ابتلاهم الله بفرض القتال عليهم ثم بمعارضة مُلك طالت وما أثاره بعضهم من شبهات ثم ابتلاهم بالنهر ثم ابتلاهم بالرهبة من جالوت وجنوده، وكل ذلك في فترة زمنية وجيزة، فدل ذلك على أن المؤمن سيبتلى في جميع أموره وحياته (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35]، (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)[العنكبوت: 2]. فلا نصر ولا تمكين إلا بعد جهاد وتضحية وصبر وثبات وصمود وصدق.

8 - إن بني إسرائيل في هذه القصة هم من كان على الرسالة الربانية التي جاء بها موسى ويعملون بكتاب التوراة الذي أنزله الله عليه، وكذلك بني إسرائيل الذين امتن الله عليهم بنعمته وفضلهم على العالمين (يَا بَنِي إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) [ البقرة: 122]، فهم من كان على الدين الصحيح دين الإسلام ومتبعون للملة الحنيفة ملة إبراهيم وذريته من المرسلين.

وأما من تولى عن دين الله والعمل بكتابه وخالف رسله فهم الكفرة الفجرة الذين قال الله فيهم (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ) [ المائدة: 60]، ومن هؤلاء الكفرة الفجرة اليهود المحتلون لبيت المقدس وأرض فلسطين !

فهؤلاء – يهود اليوم - لا علاقة لهم بإسرائيل – يعقوب عليه السلام - لا من جهة الدين ولا من جهة النسب ! وإنما هم خليط اجتمعوا في فلسطين من أنحاء العالم من المرتزقة وأصحاب المصالح والحاقدين على الإسلام والمتعصبين لديانة اليهود الباطلة والعنصرين لقوميتهم.