المتعالي
كلمة المتعالي في اللغة اسم فاعل من الفعل (تعالى)، واسم الله...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أعلام الدعاة |
فكانت نعم المرأة صابرة محتسبة، وها هي تودع فلذة كبدها رقية -رضي الله عنها- زوج عثمان -رضي الله عنه- مهاجرة إلى الحبشة، وهي تكفكف دموعها الحرى، وتتجلد وتتصبر، فعندها، وفي قاموسها، فراق الأبناء، ومهج القلوب، يهون ما دام في مرضاة الله ونصرة دينه؛ ولهذا وغيره، حازت من الفضل ما لم تحزه امرأة غيرها...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: في زمن عمّ فيه الظلام، وكسى ربوع الكون، وخالط كل شيء، خالط البيوت وما تحوي، والعقول وما تحمل، بل خالط الدماء والعروق، وأعمى البصر والبصائر، حتى صار الإنسان يصنع إلهه من تمر فإذا جاع أكله. فيا عجبًا! أإله يؤكل؟!
في زمن تقوم الطاحنة وتشتعل الهيجا، وتعلو شعارات البغض والعِداء لسنوات طويلة، جيل يرث الحرب والغدر من جيل؛ كل هذا؛ لأن فرسًا سبقت أخرى، أو بعيرًا عقر.
في هذا الجو المشحون بزيف الباطل -يا عباد الله-، وركام الهمجية والجاهلية؛ ثمة عقلاء، أصحاب مبادئ وأخلاق قد عافوا حياة الجهل والطمع، ونقموا على قومهم رجعية في أخلاقهم، وسوء تعاملهم.
ومن بين هؤلاء كانت العاقلة الحصينة، النقية الطاهرة، صاحبة المال والتجارة، ترقب مجتمعها علّها تظفر برجل لا كالرجال، يرحل في تجارتها؛ إنها أم المؤمنين الرؤوم؛ خديجة بنت خويلد القرشية.
لقد كانت -رضي الله عنها- تعرف محمد بن عبد الله حق المعرفة، فعمّته صفيّة بنت عبد المطلب، زوجة أخيها العوام بن خويلد.
وقد ترامت إليها سيرته العطرة، وأخباره المباركة، وذكره العبق حين كان يدعى الأمين، فأرسلت إليه ليخرج بمالها إلى الشام مع غلامٍ لها يقال له: "ميسرة" على أن تعطيه أكثر مما تعطي غيره، فوافق وسافر مع غلامها، فعاد وكان الربح وفيرًا.
وكان إعجاب غلامها "ميسرة" بما قصه عليها من طيب خلقه وصدقه وأمانته أعظم وقعًا في قلبها من نجاح تجارتها وربحها.
فرأت فيه الزوج الذي كانت ترجوه منذ زمن، ولم تزل تلك الرغبة تختلج في صدرها حتى صارحت بها صديقتها نفيسة بنت منبه، فخرجت من ساعتها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وكلمته، فقالت: يا محمد، ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ما بيدي ما أتزوج به. قالت: فإن كُفيت ودُعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة؛ فهل تجيب؟ فرد متسائلاً: ومن؟ قالت: خديجة بنت خويلد. فقال: إن وافقت، فقد قبلت.
وأخبر -عليه الصلاة والسلام- أعمامه برغبته الزواج من خديجة، فذهب أبو طالب وحمزة وغيرهما إلى عم خديجة عمرو بن أسد، وخطبوا إليه ابنة أخيه، وساقوا إليه الصداق، فكانت الزيجة المباركة كأعظم زواج وأبركه.
ولقد سعُدت خديجة بهذا الزواج وفرحت فرحًا شديدًا، وكيف لا تفرح وقد حظيت بالأمين الرحيم زوجًا وشريكًا لحياتها؟
ورزق النبي -صلى الله عليه وسلم- منها الولد فولدت له: زينب، فرقية، فأمّ كلثوم، ثم سيدة نساء الجنة أم الحسنين فاطمة -رضي الله عنهن أجمعين-، ثم القاسم، ثم عبد الله.
وفي يوم جلس الزوجان الكريمان قبل بعثة الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، إذ بمولاة خديجة تخبر أن حليمة السعدية تستأذن بالدخول.
ولما سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحليمة السعدية، خفق قلبه الشريف حنانًا، وراحت الذكريات الحبيبة الحانية تجول في خاطره، ذكريات حبيبة إلى نفسه، تذكر بيداء بني سعد ورضاعته هناك.
كانت لحظة مفعمة بالمشاعر الفياضة، لحظة أحيت في مثل لمح البصر أو هو أقرب أيام طفولته، أيام نشأته بين ذراعي حليمة، وفي أحضانها.
قامت خديجة لتدخل حليمة، فطالما سمعت عنها من فم النبي -صلى الله عليه وسلم- مدحًا، وحبًا، وحسن وصف.
وما إن وقع بصره الشريف عليها، حتى امتلكه شعور الحب والوفاء، ولم يستطع فمه أن يعبر عما يخالج صدره، من الرأفة والحنان، إلا بكلمة واحدة تعني كل ما يضمر، قال: "أمي، أمي".
وفي غمرة اللقاء الحار بين الأم ورضيعها الأمين، سألها عن حالها، فراحت تشكو إليه قسوة الحياة والجدب الذي نزل ببادية بني سعد، فأفاض عليها من كرمه، ثم حدّث زوجه خديجة بما ألمّ بمرضعته من ضيق فتدفقت كنوز فؤاد خديجة بالعطف والرحمة.
فعادت حليمة إلى باديتها بأربعين رأسًا من الغنم وبعيرًا يحمل الماء، وزاداً ترجع به إلى أهلها.
معاشر المؤمنين: هكذا، كانت خديجة حتّى قبل الإسلام وبعده تبذل مالها خدمة للفقراء والمحتاجين، وإرضاءً لزوجها؛ فماذا تعني أربعين من الغنم في سبيل إرضاء زوجها، وبحثًا عما يحب وصلة لمن يحب؟
ومرّت الأيام سعيدة، حتّى حبّب إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- الخلوة، فكان يخلو بغار حراء شهرًا كاملاً من كل سنة يتعبد، ومكث على ذلك الحال ما شاء الله له أن يمكث.
ثم جاءه جبريل -عليه السلام- بالرسالة من السماء وهو بغار حراء، في شهر رمضان، وكان معه ما كان من أمر الوحي، ثم انطلق يلتمس بيته في غبش الفجر خائفًا، يقول: "زملوني، زملوني، دثروني، دثروني". واستوضحت خديجة -رضي الله عنها- منه الخبر، فقال: "يا خديجة لقد خشيت على نفسي".
عندها لم تزد خوفه رعبًا، ولا غمّه همًا، بل قالت -قولتها المشهورة التي تبقى على مر العصور والأيام مثالاً ومنهاجًا لثبات السائرين إلى الله -تعالى-، قالت: "كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلَّ، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
فاطمأن فؤاد الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، وسُرِّيَ عنه بهذه الكلمات الحانية، والعبارات الصادقة.
ثم انطلقت به إلى ابن عمها "ورقة بن نوفل"، وكان قد تنصّر فأخبرته الخبر، فقال: "هذا الناموس الذي نزل الله على موسى" (أخرجاه في الصحيحين).
حينها لم تتلكأ خديجة ولم تتأخر في أن تؤمن بوحي الله، وتصدق برسالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكانت أوّل المؤمنين؛ لتحوز قصب السبق في الإسلام والتصديق، قال الإمام البيهقي في الدلائل: "إن أول من أسلم من هذه الأمة خديجة بنت خويلد".
وبدأت الدعوة إلى الله، وسام المشركون رسول الله ومن معه من المؤمنين أصناف العذاب والتكذيب.
فكانت نعم المرأة صابرة محتسبة، وها هي تودع فلذة كبدها رقية -رضي الله عنها- زوج عثمان -رضي الله عنه- مهاجرة إلى الحبشة، وهي تكفكف دموعها الحرى، وتتجلد وتتصبر، فعندها فراق الأبناء، ومهج القلوب يهون ما دام في مرضاة الله ونصرة دينه؛ ولهذا وغيره، حازت من الفضل ما لم تحزه امرأة غيرها.
عباد الله: ومناقب أمّنا خديجة -رضي الله عنها- كثيرة وفيرة، تزينت بها كتب السنة والسيرة، فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أتى جبريل -عليه السلام- النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا محمد، هذه خديجة قد أتتك بإناء فيه إدام وطعام وشراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني"، زاد الطبراني: قالت خديجة: "هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام".
وشهد لها النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنها خير نساء الأرض والسماء فقال: "خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد". (أخرجه البخاري:3432، ومسلم:2430).
روى ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "خطّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربع خطوط في الأرض، ثم قال: "هل تعلمون ما هذا؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: "خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم زوجة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد" (رواه أحمد:4/409 وصححه الحافظ ابن حجر).
معاشر المسلمين: هل سمعتم عن امرأة تسير على الأرض وهي من أهل الجنة؟ إنها الصديقة خديجة، جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب".
فرضي الله عنها وأرضاها، هل كان لأنثى غيرها أن تجهز للنبي -عليه الصلاة والسلام- الجوّ المعين على التأمل، وأن تبذل له نفسها في إيثار نادر وتهيّء نفسه لتلقي رسالة السماء؟
هل كان لزوج عداها أن تستقبل دعوته التاريخية من غار حراء بمثل ما استقبلته هي به من حنان مستثار وعطف فياض وإيمان راسخ، دون أن يساورها في صدقه أدنى ريب، أو يتخلى عنها يقينها في أن الله غير مخزيه أبدًأ؟!
هل كان في طاقة سيدة غير خديجة، أن تتخلى راضية عن كل ما ألفت من راحة ورخاء لتقف إلى جانبه في أحلك أوقات المحنة وتعينه على احتمال أفدح ألوان الأذى وصفوف الاضطهاد في سبيل ما تؤمن به من الحق؟!
بل هي وحدها التي منّ الله عليها بأن ملأت حياة الرجل الموعود بالنبوة سعادة وصبورًا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
أيها المؤمنون: اشتدت عداوة قريش للمسلمين، فأعلنت مقاطعتها لهم؛ وعلّقت صحيفة المقاطعة في جوف الكعبة؛ لتضيّق عليهم سياسيًا واقتصاديًا، وحوصر المسلمون في شعب أبي طالب، وكان من بينهم الطاهرة المطهرة أمنّا خديجة زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
مضت ثلاث سنوات عجاف على حصار الكفار للمسلمين، لاقوا فيها الجوع والمحن والجور، واستقبلوها بالصبر والمصابرة والثبات؛ حتى فرّج الله عنهم.
ولكن أُمنا خديجة -رضي الله عنها- لم تلبث إلا قليلاً بعد الخروج من الحصار الظالم، حتى ذبُلت ودبَّ الوهن في جسدها الطاهرة.
وفي يوم موعود لبّت خديجة نداء ربها، راضية مرضية قبل الهجرة بثلاث سنين، ودفنت في جبل بأعلى مكة عند مدافن أهلها، وأدخلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبرها بيده الشريفة.
وقد بقي النبي -عليه الصلاة والسلام- وفيا لها، محييا لذكراها، باعثا لسيرتها، روى مسلم في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -عليه السلام- كان إذا ذبح الشاة، قال: "أرسلوا إلى أصدقاء خديجة" وذكرت له يومًا، فقال: "إني لأحب حبيبها". وفي رواية: "إني رُزقت حبها".
وروى أحمد بسندٍ جيد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت: فغرت يومًا، فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدقين، قد أبدلك الله -تعالى- خيرًا منها، فقال: "ما أبدلني الله -عز وجل- خيرًا منها، قد آمنت بي وكفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله -تعالى- أولادها إذ حرمني أولاد النساء".
هذه خديجة، يعلونا الفخر والعز إذ نعلم أنها أمنا، فلتقتدي بها نساء المسلمين ورجالها، فالخير كل الخير في اتباع من مضى ورضي عنهم المولى، وخلد ذكرهم في الآخرة والأولى.
فلو كان النساء كما ذكرنا | لفضلت النساء على الرجال |
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...