الجواد
كلمة (الجواد) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعال) وهو الكريم...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إذا غاب الورع من حياتنا فإن الإنسان لا يُبالي من أينَ أتَت دنياه، وبأيّ طريقٍ وصَلَت لُقمتُه، وعلى أيّ حال كانت مُتعته، وعلى أيّ محرّمٍ كانت شهوتُه!! وإذا غاب الورع من حياتنا ساءت أخلاق الناس؛ فلا ترى...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: مع خُلق عظيم من أخلاق هذا الدين العظيم؛ به يطيب المطعم والمشرب، وفيه استبراءٌ للدين والعِرْض، مع سمة من سمات العُبّاد، وصفة من صفات أهل الفضل والشرف.. إنه الوَرَع، مرتبة عليا من مراتب الإيمان، وأفضل درجات الإحسان، يُحقِّق للمؤمن هَدْأَة البال، وطُمأنينة النفس، وراحة الضمير.
والورع -عباد الله- هو تركُ ما يريبُك ونفيُ ما يعيبك، تجنُّب الشُّبُهات، ومراقبة الخطرات، ولا يكون المرء ورعًا حتى يجتنب الشُبُهات خشية الوقوع في المحرمات، ويترك كل ما يخشى ضرره في الآخرة؛ طاعة لله وخوفًا من عقابه وطمعًا في جنته؛ يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: "جلساء الله غدًا أهل الورع والزهد".
إن الورع طوْق للنجاة في الدنيا والآخرة، به تُحفظ الأعراض والدماء والأموال، وهو سبب لبذل المعروف وقناعة النفس وسخاء اليد، وبه يُحفظ اللسان عن القيل والقال والغيبة والنميمة وإثارة الفتن وتأجيج الصراعات، وبالورع يختفي الجشع والطمع والاحتكار بين الناس.
ونظرًا لأهمية الورع كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يغرس هذا الُخلق في نفوس أصحابه؛ لأن به تستقيم الحياة؛ فعن النعمان بن البشير -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام"(متفق عليه).
وكان -صلى الله عليه وسلم- يحث أصحابه على الورع حتى يكون خُلقًا وسلوكًا يُمارَس في واقع الحياة، وتظهر ثمرته على الفرد والمجتمع والأمة؛ فعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع"(صحيح الترغيب والترهيب 3308).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؛ كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ"(أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني في صحيح الجامع 7833).
وقد تمثل سلف الأمة بهذا الخلق العظيم، فها هو صدِّيق الأمة أبو بكر يضرب صورة رائعة من صور الورع؛ فعن عائشة -رضي الله عنها-: قالت: "كان لأبي بكر غُلام يخرجُ له الخراجَ، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوما بشيء ووافق من أبي بكر جوعا، فأكل منه لُقمة قبل أن يسألَ عنه، فقال له الغلام : تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر وما هو؟ قال: كنتُ تكهَّنت لإنسان في الجاهلية، وما أحُسِنُ الكهانة، إلا أني خدَعتُه، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر إصبَعَه في فيه فقاء كل شيء في بطنه"(صحيح البخاري).
وقال معاوية بن قرة: "دخلت على الحسن البصري وهو متكئ على سريره، فقلت: يا أبا سعيد: أي الأعمال أحب إلى الله؟! قال: الصلاة في جوف الليل والناس نيام. قلت: فأي الصوم أفضل؟! قال: في يوم صائف. قلت: فأي الرقاب أفضل؟! قال: أنفسها عند أهلها وأغلاها ثمنًا. قلت: فما تقول في الورع؟! قال: ذاك رأس الأمر كله".
عباد الله: إذا غاب الورع من حياتنا فإن الإنسان لا يُبالي من أينَ أتَت دنياه، وبأيّ طريقٍ وصَلَت لُقمتُه، وعلى أيّ حال كانت مُتعته، وعلى أيّ محرّمٍ كانت شهوتُه!! وإذا غاب الورع من حياتنا ساءت أخلاق الناس فلا ترى إلا غشًّا وخداعًا في المعاملات، وظلمًا وعدوانًا وهضمًا للحقوق والواجبات، وتعديًا على الأعراض والنفوس والممتلكات.
إننا بحاجة إلى خلق الورع لتقوى الروابط وتزيد الألفة بين أبناء المجتمع، ويحفظ كل واحد منا ود صاحبه وأخيه، إن الأمم لا تسود إلا بقيم، وإن الحياة لا يبنيها إلا العظماء عند يحملون غاياتٍ عظيمة وأخلاقٍ نبيلة، ولهذا سادت أمتنا وانتشر فضلها وخيرها في آفاق الدنيا.
عباد الله: ما أحوج الناس اليوم إلى الورع، في زمن قلّ فيه الورع، في زمن أصبح فيه الإنسان في غاية الجَشع والطمع؛ فالورع يحرس صاحبه ويمنعه عن الوقوع في المحرمات أو التقصير والتفريط في أداء الواجبات، وهو طوق للنجاة في الدنيا والآخرة.. به تحفظ الأعراض والدماء والأموال، وهو سبب لبذل المعروف وقناعة النفس وسخاء اليد، وبه يُحفظ اللسان عن القيل والقال والغيبة والنميمة وإثارة الفتن وتأجيج الصراعات، وبالورع يختفي الجشع والطمع والاحتكار بين الناس، فلنزكِّي نفوسنا بهذا الخلق العظيم ونجعله سلوكًا في حياتنا، نحفظ مجتمعنا وأخوتنا.
فاللهم املأ قلوبَنا بتقواك، واجعلنا نخشَاك كأنّا نراك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
أيها المسلمون: يحفل تاريخ أمتنا بمواقف رائعة في الورع، ومن أروع مواقف الورع، ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اشترى رجلٌ من رجل عقارًا، فوجد الذي اشترى العقار في عقاره جَرَّة فيها ذهب، فقال الذي اشترى العقار للبائع: خذ ذهبك، أنا اشتريت منك الأرض، ولم أشترِ الذهب؛ وقال الذي باع له الأرض: إنما بعتُك الأرض وما فيها؛ فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟! قال أحدُهما: نعم؛ وقال الآخر: لي جارية -أي بنت-؛ قال: أنكحا الغلام الجارية، وأنفقا على أنفسهما منه؛ فانصرفا".
إن من يقرأ هذا الحديث لا يدري بأيهما يعجب أكثر؛ من البائع، أم من المشتري، أم الحكم؟! فكل واحد منهم أشد عجبًا، أي خلق هذا الذي يضبط النفوس ويوجه السلوك ويولد القناعات!! إنه خلق الورع الذي به تزكو النفوس، وبه يرتقي العبد في مراتب الإيمان ودرجاته، وبه ينال العبد محبة الله ومحبة خلقه، وبه تعم السعادة حياة الأفراد والمجتمعات، وبه يعرف الحق من الباطل والخير من الشر والحلال من الحرام.
قدم على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مسك وعنبر من البحرين، فقال عمر: "والله لوددت أني أجد امرأة حسنة، تزن لي هذا الطيب حتى أفرقه بين المسلمين، فقالت له امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل: أنا جيدة الوزن، فهلم أزن لك؟! قال: لا. قالت: ولم؟! قال: إني أخشى أن تأخذيه هكذا -وأدخل أصابعه في صدغيه- وتمسحين عنقك، فأصيب فضلاً عن المسلمين". أ حمد بن حنبل: الورع ص37.
أي ورع هذا وأي عظمة هذه؟! إن الورع هو أن تجد الخير والحق والمعروف فتلتزمه، والشر والباطل والحرام فتجتنبه؛ طاعة لله وخوفًا من عقابه وطمعًا في جنته؛ يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: "جلساء الله غدًا أهل الورع والزهد".
جاءت أخت بشر الحافي إلى الأمام أحمد بن حنبل وقالت: "إنا نغزل على سطوحنا فتمر بنا مشاعل الظاهرية -وهي أضواء بيت جيرانهم-، ويقع الشعاع علينا، أيجوز لنا الغزل في شعاعها؟! فقال أحمد: من أنتِ عافاك الله تعالى؟! فقالت: أخت بشر الحافي: فبكى أحمد، وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزلي في شعاعها".
عباد الله: إن خلق الورع يُكتسب بمراقبة الله والاستعداد للقائه والخوف منه، ويتزين به العبد ويعيشه واقعًا في الحياة إذا غض بصره وسمعه عن الحرام، وحفظ لسانه عن الغيبة والنميمة والسخرية من الآخرين، وأن يكون مطعمه ومشربه وملبسه من الحلال، وقام بالفرائض وتزوّد بالنوافل، وأن يتفقه المرء في دينه فيعلم الحلال والحرام، والواجب من المسنون، والمصلحة من المفسدة.
ولنحذر من سوء عقوبة ترك الورع والتخلق به في الدنيا، ويا لها من عقوبة؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس: إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَاتِ وَعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)[المؤمنون:51]. وقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)[البقرة:172]. ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!"(رواه مسلم 1015).
ولنملأ قلوبنا بحب الله والخوف منه، ولنتذكر لقاءه يوم لا ينفع إلا العمل الصالح والحق والخير بين الناس؛ عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي لكم على نحو مما أسمع منكم؛ فمن قضيت له من أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة". فارتعب الرجلان وخافا؛ لأن هناك يومًا آخِر لا مفر منه؛ ولأن المطلع على ما في الضمائر هو الله الذي لا تخفى عليه خافية، فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لأخي! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما إذا قلتما، فاذهبا فاقتسما؛ ثم توخيا الحق، ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه".
اللهم ردّنا إليك ردًّا جميلاً، ولا تفتنا في ديننا ولا دنيانا.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله ..