الباطن
هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
في مشهد تعلوه الرحمة، وتكسوه الشفقة، ويُجلله البر بجلبابه الفضفاض، ويختمره الإحسان بدثاره الرقراق، في مشهد لرجل يجرُّ الخُطى في الصحراء قد اشتد به عطشه، وتقرَّحت منه كبده، وبلغ به الظمأُ مبلغه، وهو يسير يتلمظ الماء، ويبحث عن السِقَاء، فإذا هو...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: بين أيديكم عمل يسير، وهو في الميزان جليل، هذا العمل سببٌ من أسباب النجاة، وبابٌ من أبواب البر والفلاح، ألا وهو سقي الماء، وقد رغَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، ورَغِبَ في هذا العمل يوم الحج الأكبر، ومع رغبته فيه إلا أنه تركه، وما تركه -صلى الله عليه وسلم- إلا خشية أن يُقتدَى به في ذلك الموضع، وفي ذلك مشقة لأهله، ومنازعة لهم، يقول -صلى الله عليه وسلم- في حَجة الوداع: "انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلاَ أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ"، فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ" (رواه مسلم).
ومما يدل على أهمية الماء ما ذكره الله سبحانه في وصف الجنة من إجراء الأنهار العذبة التي يشرب منها أهل الجنة ويتلذذون بمائها، فقال سبحانه: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى)[محمد:15].
وكذلك مما يدل على أهمية الماء أن الله -عز وجل- جعل من صور عذاب أهل النار حرمانهم من الماء، قال جل وعلا: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)[الأعراف:50].
عباد الله: لا شك أن أعمال البر تزداد مرتبتها ويعظم أجرها إذا زادت الحاجة إليها، ولا شك أن سقيا الماء وخاصة في مواسم الحرّ من أعظم أعمال البر، ولذا جاءت نصوص الشرع تحث على سقي الماء، وأن من سقى محتاجًا الماء على الظمأ جزاؤه أن يسقيه الله من الرحيق المختوم في الجنة، يقول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الحسن: "أَيّمَا مُسْلِمٍ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَأ سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ"(رواه أحمد وأبو داود والترمذي).
أيها الإخوة: وسقي الماء أعظم الصدقات؛ فعن سعد بن عبادة -رضي الله عنه- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت، أفأتصدق عنها؟ قال: "نعم"، قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: "سَقْيُ الْمَاء"(رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وحسنه الألباني).
قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى- مُعَلِّقًا على هذا الحديث: "فدل على أن سقي الماء من أعظم القُرُبَات عند الله -تعالى-".
أيها المسلمون: في مشهد تعلوه الرحمة، وتكسوه الشفقة، ويُجلله البر بجلبابه الفضفاض، ويختمره الإحسان بدثاره الرقراق، في مشهد لرجل يجرُّ الخُطى في الصحراء قد اشتد به عطشه، وتقرَّحت منه كبده، وبلغ به الظمأُ مبلغه، وهو يسير يتلمظ الماء، ويبحث عن السِقَاء، فإذا هو ببئرٍ في الصحراء فابتدرها ابتدار السَّبُع، فنزل فيها وشرب حتى ارتوى، فذاق العُذُوْبَة، وتلذذ بالماء، مع أن الماء لا طعم له على اللسان، إنما طعمه ولذته ببرودته على الأكباد.. وعندما أذهب الله ظمأه، خرج من البئر وهو يتذوق طعم الحياة، وكأنه لن يموت، فخرج وهو ينظر للحياة بنظرة أخرى قبل نزوله للبئر.
وعندما كان يُقلب طرفه في الفضاء إذ بكلبٍ يَلْهَثُ مِنَ شدة الْعَطَشِ، يأكل التراب بحثًا عن الماء، فَتَأمَّل هذا الرجل في هذا المشهد، وقال: "لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي"، مع أن الكلب دابة نجسة الريق، لكنها خلق من خلق الله -عز وجل- ذات كبد رطبة، فرجع إلى البئر، ولكنه لم يجد ما يجعل الماء فيه، فهداه الله لِخُفِّه فملأه، وجاء إلى الكلب ثُمَّ سَقَاه، فشرب الكلب وهو يسابق نفسه.
يقول -صلى الله عليه وسلم-: "بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟! قَالَ: "فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ"(متفق عليه).
وفي هذا المشهد الذي تجلت فيه معاني الرحمة في أسمى صورها، فيكون الجزاء من جنس العمل، هنا تجلت رحمة الرحيم الرحمن، اللطيف الجليل، الذي يرى كل شيء، ويسمع كل شيء، ولا يخفى عليه شيء، فشكر -سبحانه- صنيع هذا الرجل، فرضي عنه، فغفر له ورحمه.
بل الأعجب من هذا ما جاء في الصحيحين من أن امرأةً زانية سقت كلبًا فغفر الله لها، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ -أي: يدور حول بئر- قَدْ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ؛ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا -أي: خُفّها- فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ". فيا لله! كم من نفحات لله لا يعلمها إلا هو جعلها للرحماء المخلصين من عباده.
ومن هذا نعلم -عباد الله- أن تبريد الأكباد بسقي الماء وإطفاء حرارة الظمآن، من أعظم الأبواب التي تقود إلى الجنان، ومن أسباب تكفير الآثام، وهو باب عظيم لإذهاب الأسقام، وبه تكون الصدقة جارية عن النفس والْوَالِدَيْنِ والْوِلْدَان.
عباد الله: وسقي الماء وتوزيعه فيه فوائد كثيرة بخلاف الأجر الأخروي عند الله تعالى، وأهم هذه الفوائد: أنّ سقي الماء سببٌ لعلاج الأمراض، وشفاء الأسقام، بإذن الله -سبحانه-، يقول ابن شقيق: "سمعت ابن المبارك وسأله رجلٌ عن قرحةٍ خرجت في ركبته منذ سَبْعِ سنين، وقد عالجها بأنواع العلاج، وسأل الأطباء فلم ينتفع بما أعطوه، فقال له ابن المبارك: اذهب فاحفر بئرًا في مكان يحتاج الناس فيه إلى الماء، فإني أرجو أن ينبع هناك عين ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ بإذن الله"(أخرجه البيهقي في الشعب).
فقد كان سقي الماء من هذا الرجل سببًا لشفائه بعد إذن الله -سبحانه وتعالى-. وقد روي هذا عن الإمام الحاكم صاحب المستدرك.
عباد الله: على المسلم أن يحذر أشد الحذر من البخل بالماء، أو منعه عمن يحتاجه، أو حبس فضل الماء عن زرع غيره؛ فإن فعل فإنه إذن من الآثمين، الموعودين بغضب رب العالمين، والمطرودين من رحمته التي وسعت كل شيء، يقول-صلى الله عليه وسلم-: "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ -وذكر منهم- وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ"(رواه البخاري).
وعند البخاري أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ -وذكر منهم- وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ، فَيَقُولُ اللَّهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ"(متفق عليه).
وصدق الله إذ يقول: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[سبأ:39].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا بأن خير عباد الله (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)[الزمر:18].
وبعد بيان فضائل السقي والتحذير من منعه، فإليك وسائل وطرائق لسقي الماء؛ منها:
أولاً: السعي في حفر الآبار في الأماكن التي يحتاج إليها الناس، وهذا أمر ميسور، فَيُطِيْقُ الإنسان أن يحفر له بئرًا بثمن بخس في بلد فقير معوز تجري عليه بركته وبره، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ حَفَرَ مَاءً لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَبِدٌ حَرَّى مِنْ جِنٍّ وَلاَ إِنْسٍ وَلاَ طَائِرٍ إِلاَّ آجَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(أخرجه ابن خزيمة في صحيحه).
ثانياً: توفير المضخات لتنقية المياه لتكون صالحة للشرب بدلاً من شرب المياه الآسنة كما في بعض الدول الفقيرة.
ثالثاً: وضع الماء في المساجد، أو الأسواق، أو الطرق، وتعاهده، بل وعند البيوت، ولها أثر في حفظ البيت من السرقة لبركة الصدقة، ولكثرة الشاربين؛ جاء في "الترغيب والترهيب" أن الإمام الحاكم أصابته قرحة في وجهه قريبًا من السنة، فتصدق على المسلمين بوضع سقاية على باب داره، فشرب منها النَّاس، فما مر عليه أُسبوع إلا وظهر الشفاء، وعاد وجهه أحسن ما كان، وبرئ بإذن الله.
رابعاً: حمل الماء في السيارة وتوزيعه على من يحتاجه؛ فإن "أفضل الصدقة سقي الماء" كما في الحديث الصحيح.
خامساً: وضع البرادات في الأماكن العامة وتعاهدها بالماء الصالح.
سادساً: استغلال تجمعات الناس سواء في الحج أو العمرة، أو في المقابر أثناء دفن الأموات، أو في اللقاءات التي يحتاجون فيها إلى الماء فيسابق للسقاية.
سابعاً: وضع ماء في إناء للهوام والدواب، وللطير والكلاب، "ففِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ".
فيا أيها الراغب في البر والأجر، وبذل المعروف والخير: سابق إلى الصدقات الجارية، عن الآباء والأمهات، والبنين والبنات، والأنفس والذوات، ولا تعجز عن هذا الفضل الكبير، وأسأل ربك أن يعينك على فعل الخير، وأن يتقبله منا إنه جواد كريم.
اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأعنا على استعماله في الخير، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله ..