الأكرم
اسمُ (الأكرم) على وزن (أفعل)، مِن الكَرَم، وهو اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | عبداللطيف بن عبدالله التويجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - التوحيد |
لقدْ كانَ التوحيدُ في حياةِ الصالحين مشروعًا ممتدًا، لمْ يتوقفْ حتى آخر رمقٍ منْ أيامِ حياتِهم، وإذ كانَ للموتِ سكرات، فتلك السكراتُ لمْ تكنْ حائلاً بينَهم وبينَ تلقينِ التوحيد..
الخطبة الأولى:
ركبُوا البحر، فلجتْ بهمُ السفينةُ واضطرَبت، وثقلتْ بمَا فيها، فألقَى بهِ صحبُه في البحر، حيثُ الموتُ المحقق، والهلاكُ الأكيد. ابتلعه حوتُ البحر، فاجتمعتْ عليه الظلمات، وهناكَ في عالمِ البحار، سمعَ تسبيحَ الحيتانِ للرحمن، وسمعَ تسبيحَ الحصى للملكِ الديان.
سبَّحَ مع المسبحين، ونادَى معَ المنادين، وعرفتْ صوتَه الملائكةُ في السماء: "يَا رَبِّ أَوَلَا يُرْحَمُ بِمَا كَانَ يَصنَعُ فِي الرَّخَاء، فَتُنْجِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ؟".
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)[الأنبياء:87-88].
كلمةُ التوحيدِ -يا عبادَ الله- كلمةٌ عظيمة، قد يُغيِّرُ اللهُ بها سَننَ الكون، فينقلبُ بطنُ الحوتِ الموحشُ إلى رحمِ النجاةِ والفرج.
التوحيدُ -يا عبادَ الله- ينفلقُ معه البحر، فيكونُ طريقَ النجاة: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)[الشعراء:62-63].
التوحيدُ: عِدةٌ في الرخاء، وذخرٌ في السماء، ومَا دُفِعَتْ شدائدُ الدنيا بمثلِ التوحيد؛ كمَا يقولُه ابنُ القيم.
إنه لَا يُلقِي في الكربِ العظامِ إلا الشرك، ولَا يُنجِّي منَ المحنِ سوى التوحيدِ: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هم يشركُونَ)[العنكبوت:65].
التوحيدُ -يا عبادَ الله- بهِ تُعطِي السماءُ بركتَها، والأرضُ نباتَها (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)[الأعراف:96].
التوحيدُ -يا عبادَ الله- مفتاحُ الرزق؛ (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[العنكبوت:17]، وسرُّ الأمنِ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)[الأنعام:82].
بالتوحيدِ يكونُ الاستعلاءُ على الدنيا، والانعتاقُ منْ متاعِ الدنيا، والشجاعةُ في وجهِ أقوى البشر: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين)[التحريم:11].
التوحيدُ: صلةٌ إيمانية، تتجاوزُ الزمان؛ (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)[الحشر:10]، وهوَ رابطة، تعلو علائقَ المكان (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) [الحشر:9]، قال كعب الأحبار: "رُبَّ قَائِمٍ مَشْكُورٌ لَه، وَرُبَّ نَائِمٍ مَغْفُورٌ لَه".
وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ يَتَحَابَّانِ فِي اللَّه، فَقَامَ أَحَدُهُمَا يصَلِّي، فَرَضِيَ اللَّهُ صَلاتَهُ وَدُعَاءَه، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مِنْ دُعَائِهِ شَيْئًا، فَذَكَرَ أَخَاهُ ذَلِكَ فِي دُعَائِهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أَخِي فُلانٌ اغْفِرْ لَه، فَغَفَرَ اللَّهُ لَه، وَهُوَ نَائِم.
التوحيدُ -يا عبادَ الله- خلاصةُ دعوةِ الرسل (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)[النحل:36]، وهو أول وصايا الله (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)[الأنعام:151].
التوحيدُ: منبعُ أخلاقِ الإسلام، يقولُ أبو سفيانَ -رضيَ اللهُ عنهُ- في جوابِه عنْ سؤالِ هرقلَ عظيمِ الروم "فَمَاذَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ؟ قَالَ: يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَه، لاَ نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالعَفَافِ، وَالوَفَاءِ بِالعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، فقال هرقل: وَهَذِهِ صِفَةُ النَّبِيِّ"(رواه البخاري).
أيها المسلمون: وأهلُ السماءِ سائرونَ في سلكِ التوحيدِ والعبادة "أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِط، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ"(رواه الترمذي)، أفليسَ قلبُ المؤمنِ أحرى بأنْ يجريَ في فلكِ التوحيد، ويدورَ عليه؟!
أيها الكرام: لقدْ كانَ التوحيدُ في حياةِ الصالحين مشروعًا ممتدًا، لمْ يتوقفْ حتى آخر رمقٍ منْ أيامِ حياتِهم، وإذ كانَ للموتِ سكرات، فتلك السكراتُ لمْ تكنْ حائلاً بينَهم وبينَ تلقينِ التوحيد، أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)[البقرة:133].
الخطبة الثانية:
أمَّا بعد، عبادَ الله: إنَّ ممَّا افترقَ بهِ إصلاحُ الأنبياءِ للبشرية، عنْ سائرِ دعاوى الإصلاح، التي ادعاهَا البشر، هوَ العنايةُ بأساسِ الإصلاحِ وهو التوحيد؛ فقدْ كانَ التوحيدُ هوَ مشروعُهم الإصلاحيُ الواضحُ (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء:25].
والإصلاحُ المنطلقُ منَ التوحيد، شاملٌ لخيرِ الدنيا والآخرة، قالَ نوحُ -عليهِ السلامُ- لقومِه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا)[نوح:10-12]، ورُوِيَ عن خاتمِ الأنبياءِ -عليهِ الصلاةُ والسلام- أنه قال: "أُرِيدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً تَدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمُ العَجَمُ الجِزْيَةَ، قَالَ: كَلِمَةً وَاحِدَةً؟ قَالَ: كَلِمَةً وَاحِدَةً، قَالَ: يَا عَمِّ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"(أخرجه الترمذي وحسنه).
والتوحيدُ قِوامُ كلِ مشروعٍ إصلاحي، وهوَ مَنارةُ خيريةِ هذه الأمة (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)[آل عمران:110]، فينبغي أنْ يكونَ الموضوعُ الرئيسُ لأيِّ مشروعٍ هوَ تمكينُ المعروفِ بكلِ أنواعِه، ويأتي في طليعةِ ذلك إرساءُ قواعدِ أعرفِ المعروفات، وهوَ التوحيد، وهدمُ قواعدِ المنكراتِ بأنواعِها، وفي مقدمتِها أساسُ المنكر، وهو الشركُ والكفرُ بالله.
عباد الله: إننا اليومَ بحاجةٍ إلى ترتيبِ أولوياتِنا، وجدولةِ مشاريعِنا؛ ليكونَ في رأسِ مشاريعِنا وأولى أولوياتِنا هوَ التوحيد، وتعليمُه للناسِ جميعًا، وتبليغُه للخلقِ أجمعين، وبثُ الوعيِ في حقائقِه وأصولِه وموانعِه.
إنه لنْ يلمَّ شتاتَ المسلمين، ويؤلفَ بينَ قلوبِهم إلا بمَا ألفَ اللهُ بهِ قلوبَ أوائلِ الأمة، على كلمةِ التوحيد (لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ)[الأنفال:63].
إننَا بحاجةٍ جميعًا -أيُّها الإخوةُ- في اللهِ للاهتمامِ بموضوعِ التوحيدِ في قلوبِنا أولاً، وفي أعمالِنا وفي شأنِنا كلِّه.
إن المتأملَ في مسيرةِ النجاحِ والناجحين عبرَ التاريخِ كلِّه، وفقَ المفهومِ الحقيقيِّ للنجاح، وهوَ الفلاحُ في الدنيا والآخرة، يجدْ أنَّ التوحيدَ والإخلاصَ هوَ رونقُ ذلك النجاح، وهوَ أساسُ ذلك الفوز، فما أجملَ التوحيدَ وأهلَه، وما أجملَ الموحدين.. أفلحتْ وجوهُهم، وأفلحتْ مشاريعُهم، وأفلحتْ جهودُهم.
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم، بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم* (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[المؤمنون:1-11].
اللهم تَوَفَّنَا مُسْلِمِين، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِين.