البحث

عبارات مقترحة:

الرفيق

كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...

الطيب

كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...

الحافظ

الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...

وعاد الموظفون إلى أعمالهم

العربية

المؤلف عبد الله بن محمد البصري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. حكم ومنافع تعدد وظائف البشر وأعمالهم .
  2. ارتهان نجاح المؤسسات بنجاح أفرادها في أعمالهم .
  3. اتصاف الموظف بالقوة والأمانة .
  4. خيانة الموظف لوظيفته خيانة للأمة .
  5. تيسير الموظفين على المسلمين .
  6. الشفاعة السيئة مما يضيع بها حقوق الناس .
  7. الشفاعة في حدود الله تعالى .
  8. الرشوة من آفات مجتمعات الموظفين .

اقتباس

غَدًا يَرجِعُ كَثِيرُونَ مِنَّا إِلى أَعمَالِهِم، وَتَعُودُ كَثِيرٌ مِنَ المُؤَسَّسَاتِ إِلى نَشَاطِهَا، يُصَبِّحُ الوَزِيرُ وِزَارَتَهُ، وَيَغدُو القَاضِي إِلى مَحكَمَتِهِ، وَيَدلُفُ المُوَظَّفُ إِلى مَكتَبِهِ، وَالمُعَلِّمُ إِلى مَدرَسَتِهِ، وَيَتَسَلَّمُ الجُندِيُّ مَركَزَهُ، وَيَقِفُ الحَارِسُ في حِرَاسَتِهِ، وَلَو تَأَمَّلَ مُتَأَمِّلٌ حَالَ النَّاسِ وَقَد عَدَّدَ اللهُ مَشَارِبَهُم وَنَوَّعَ تَخَصُّصَاتِهِم، وَحَبَّبَ إِلى كُلٍّ مِنهُم عَمَلَهُ وَرَغَّبَهُ في التَّرَقِّي في دَرَجَاتِهِ، لَوَجَدَ حِكَمًا بَاهِرَةً وَمَنَافِعَ ظَاهِرَةً ..

 

 

 

 

أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُحسِنُونَ) [النحل: 128].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: غَدًا يَرجِعُ كَثِيرُونَ مِنَّا إِلى أَعمَالِهِم، وَتَعُودُ كَثِيرٌ مِنَ المُؤَسَّسَاتِ إِلى نَشَاطِهَا، يُصَبِّحُ الوَزِيرُ وِزَارَتَهُ، وَيَغدُو القَاضِي إِلى مَحكَمَتِهِ، وَيَدلُفُ المُوَظَّفُ إِلى مَكتَبِهِ، وَالمُعَلِّمُ إِلى مَدرَسَتِهِ، وَيَتَسَلَّمُ الجُندِيُّ مَركَزَهُ، وَيَقِفُ الحَارِسُ في حِرَاسَتِهِ، وَلَو تَأَمَّلَ مُتَأَمِّلٌ حَالَ النَّاسِ وَقَد عَدَّدَ اللهُ مَشَارِبَهُم وَنَوَّعَ تَخَصُّصَاتِهِم، وَحَبَّبَ إِلى كُلٍّ مِنهُم عَمَلَهُ وَرَغَّبَهُ في التَّرَقِّي في دَرَجَاتِهِ، لَوَجَدَ حِكَمًا بَاهِرَةً وَمَنَافِعَ ظَاهِرَةً، إِذْ بِهَذَا يَخدِمُ بَعضُهُم بَعضًا، وَيَقضِي كُلٌّ مِنهُم حَاجَةَ غَيرِهِ، فَيَتَكَامَلُ بِنَاءُ المَصَالِحِ، وَتَدُورُ عَجَلَةُ الحَيَاةِ.

وَإِنَّ مِن تَوفِيقِ اللهِ لِكَثِيرٍ مِنَّا في هَذِهِ الوَظَائِفِ أَن يَسَّرَ لَهُم بها أرزَاقَهُم، وَفَتَحَ لَهُم بِسَبَبِهَا مَجَالاتٍ لِنَفعِ أُمَّتِهِم، وَجَعَلَ لَهُم بهَا مَرَاكِزَ وَمَقَامَاتٍ في مُجتَمَعِهِم، غَيرَ أَنَّ مِمَّا يَحُزُّ في النَّفسِ أَن يُصبِحَ بَعضُ المُوَظَّفِينَ كَالأَعدَاءِ لِمُرَاجِعِيهِم، وَأَن يَصِيرَ القَوِيُّ الأَمِينُ فِيهِم عُملَةً نَادِرَةً، وَأَن يُتَحَدَّثَ عَن تَقصِيرِ هَذِهِ الدَائِرَةِ أَو يُشتَكَى مِن إِهمَالِ تِلكَ المُؤَسَّسَةِ، وَأَن تَرَى النَّاسَ يَضِيقُونَ لِتَعَطُّلِ مَصَالِحِهِم وَيَغضَبُونَ لِلتَبَاطُؤِ في إِنهَاءِ مُعَامَلاتِهِم.

وَلَو تَفَكَّرَ كُلٌّ مِنَّا في مَنشَأِ ذَلِكَ في الغَالِبِ وَسَبَبِهِ، لَوَجَدَ لِنَفسِهِ مِنهُ حَظًّا وَنَصِيبًا يَقِلُّ أَو يَكثُرُ، وَلَعَرَفَ أَنَّهُ قَبلَ أَن يَلُومَ وَزِيرًا أَو يَذُمَّ مُدِيرًا، أَو يُحَمِّلَ المَسؤُولِيَّةَ رَئِيسًا أَو يَنتَقِدَ مُشرِفًا، فَإِنَّهُ مَسؤُولٌ عَن إِنجَاحِ العَمَلِ وَإِظهَارِهِ بِالمَظهَرِ اللاَّئِقِ، إِذِ النَّجَاحُ الأَكبَرُ لِلدُّوَلِ مَا هُوَ إِلاَّ نَجَاحَاتٌ كَبِيرَةٌ لِوِزَارَاتِهَا وَمُؤَسَّسَاتِهَا العُليَا، وَنَجَاحُ تِلكَ الوِزَارَاتِ وَالمُؤَسَّسَاتِ مَا هُوَ إِلاَّ نَجَاحَاتٌ صَغِيرَةٌ لأَقسَامِهَا، وَهَذِهِ الأَقسَامُ لا تَنجَحُ إِلاَّ بِنَجَاحِ القَائِمِينَ عَلَيهَا وَالعَامِلِينَ فِيهَا.

وَمِن ثَمَّ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- فَإِنَّنَا مُطَالَبُونَ فَردًا فَردًا بِأَنَّ يَتَّقِيَ كُلٌّ مِنَّا رَبَّهُ فِيمَا تَحتَ يَدِهِ مِن مَسؤُولِيَّةٍ، وَأَن يُؤَدِّيَ بِإِخلاصٍ مَا ائتُمِنَ عَلَيهِ؛ فَـ(إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُم أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلى أَهلِهَا) [النساء: 58]، وَ"كُلُّكُم رَاعٍ وَكُلُّكُم مَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ"، وَهَذَا مَا لَن يَحصُلَ إِلاَّ إِذَا نَظَرنَا لِلعَمَلِ عَلَى أَنَّهُ تَكلِيفٌ وَلَيسَ بِتَشرِيفٍ، وَأَنَّهُ قَيدٌ وَلَيسَ بِصَيدٍ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّكُم سَتَحرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَومَ القِيَامَةِ، فَنِعمَتِ المُرضِعَةُ وَبِئسَتِ الفَاطِمَةُ". وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "مَا مِن رَجُلٍ يَلِي أَمرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوقَ ذَلِكَ إِلاَّ أَتَى اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- مَغلُولاً يَومَ القِيَامَةِ يَدُهُ إِلى عُنُقِهِ، فَكَّهُ بِرُّهُ أَو أَوبَقَهُ إِثمُهُ، أَوَّلُهَا مَلامَةٌ، وَأَوسَطُهَا نَدَامَةٌ، وَآخِرُهَا خِزيٌ يَومَ القِيَامَةِ".

إِنَّ لِكُلِّ مُوَظَّفٍ صَغُرَ أَو كَبُرَ صِفَتَينِ رَئِيسَتَينِ لا بُدَّ مِنهُمَا، إِنَّهُمَا القُوَّةُ وَالأَمَانَةُ، قَالَ سُبحَانَهُ: (إِنَّ خَيرَ مَنِ استَأجَرتَ القَوِيُّ الأَمِينُ) [القصص: 26]، أَمَّا القُوَّةُ فَهِيَ القُدرَةُ عَلَى تَحَمُّلِ الأَعبَاءِ وَالتَّبِعَاتِ، فَتَشمَلُ قُوَّةَ الجِسمِ وَالشَّخصِيَّةِ، وَقُوَّةَ الفِكرِ وَالإِرَادَةِ، وَالقُدرَةَ عَلَى الإِدَارَةِ وَالقِيَادَةِ، وَالاتِّصَافَ بِالحَزمِ وَعَدَمَ التَّهَاوُنِ في تَنفِيذِ القَرَارَاتِ، وَالابتِعَادَ عَنِ المُجَامَلَةِ عَلَى حِسَابِ المَصلَحَةِ العَامَّةِ، وَأنْ لا يَخَافَ المُوَظَّفُ في إِعطَاءِ الحَقِّ لَومَةَ لائِمٍ.

وَقَد كَانَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- لا يُوَلِّي عَلَى الأَعمَالِ إِلاَّ الأَقوِيَاءَ، وَلم يَكُنْ يَكتَفِي بِالاعتِذَارِ مِن الضُّعَفَاءِ وَتَطيِيبِ خَوَاطِرِهِم، بَل كَانَ يُحَذِّرُهُم مِن تَحمُّلِ المَسؤُولِيَّةِ وَالأَمَانَةِ، جَاءَهُ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- يَطلُبُ الإِمَارَةِ، فَضَرَبَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- عَلَى مَنكِبِهِ وَقَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ: إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَومَ القِيَامَةِ خِزيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلاَّ مَن أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيهِ فِيهَا".

وَأَمَّا الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ الأَمَانَةُ، فَهِيَ أَدَاءُ الحُقُوقِ وَالتَّعَفُّفُ عَمَّا سِوَاهَا، وَكَم مِن رَجُلٍ قَوِيٍّ في إِدَارَتِهِ، حَازِمٍ في عَمَلِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ ضَعِيفٌ أَمَامَ إِغرَاءِ المَالِ وَبَرِيقِ الجَاهِ وَأَسرِ المَدحِ، فَيَأخُذُ مَا لا حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَيُعطِي مَا لا يَملِكُهُ، وَيَستَعمِلُ المُمتَلَكَاتِ العَامَّةَ في أَغرَاضِهِ الخَاصَّةِ، وَرُبَّمَا استَخدَمَ صَلاحِيَّاتِهِ في خَارِجِ حُدُودِهَا، وَمِن ثَمَّ فَلا بُدَّ لأَيِّ عَامِلٍ أَن يَتَّصِفَ بِالقُوَّةِ وَالأَمَانَةُ، وَإِذَا وُكِّلَ غَيرُ الأُمَنَاءِ وَالأَقوِيَاءِ عَلَى الوَظَائِفِ وَالعَمَلِ، حَصَلَ التَّقصِيرُ وَاتَّضَحَ الخَلَلُ، قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "إِذَا وُسِّدَ الأَمرُ إِلى غَيرِ أَهلِهِ فَانتَظِرِ السَّاعَةَ".

إِنَّ الوَظِيفَةَ عَقدٌ مُبرَمٌ بَينَ طَرَفَينِ، يَنطَوِي عَلَى وَاجِبَاتٍ وَمَسؤُولِيَّاتٍ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيهِ حُقُوقٌ لأَطرَافٍ كَثِيرَةٍ، يَجِبُ أَدَاؤُهَا وَالوَفَاءُ بها، قَالَ سُبحَانَهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ) [المائدة: 1]، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "لا إِيمَانَ لِمَن لا أَمَانَةَ لَهُ، وَلا دِيَنَ لِمَن لا عَهدَ لَهُ".

فَيَا مُوَظَّفًا في دَائِرَتِهِ، وَيَا مُرَبِّيًا في مَدرَسَتِهِ، وَيَا عَامِلاً في مُؤَسَّسَتِهِ: أَخلِصُوا للهِ في الأَعمَالِ، وَأَدُّوهَا كَمَا طُلِبَ مِنكُم، وَتَحَرَّوُا الإِتقَانَ وَالإِنجَازَ، وَخَلِّصُوا مَكاسِبَكُم مِن شُبهَةِ الحَرَامِ، فَـ"إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُم عَمَلاً أَن يُتقِنَهُ"، وَ"أَيُّمَا جَسَدٍ نَبَتَ مِن سُحتٍ فَالَنَّارُ أَولى بِهِ". فَابذُلُوا فِيمَا بَينَ حُضُورِكُم وَانصِرَافِكُم مَا تُطِيقُونَ، وَاتَّقُوا اللهَ قَدرَ مَا تَستَطِيعُونَ، وَلا تَحتَجُّوا بِحَالِ مُدِيرٍ أَو زَمِيلٍ لَتُقَصِّرُوا أَو تُهمِلُوا، فَإِنَّ كُلاًّ سَيُبعَثُ وَحدَهُ، وَسَيُسأَلُ عَمَّا عَمِلَ وَاكتَسَبَت يَدُهُ، وَ(كُلُّ نَفسٍ بما كَسَبَت رَهِينَةٌ)، (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزرَ أُخرَى) [الأنعام: 164]، وَإِنَّهُ لا عُذرَ لأَحَدٍ في التَّقصِيرِ بِأَنِ انهَارَ العَمَلُ مِن أَسَاسِهِ أَو تَآكَلَ مِن رَأسِهِ، أَو أَنَّ رَاتِبَهُ قَلِيلٌ، أَو لم تَحصُلْ لَهُ تَرقِيَتُهُ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "أَدِّ الأَمَانَةَ إِلى مَنِ ائتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَن خَانَكَ".

إِنَّهُ لا نَجَاحَ لِلعَمَلِ إِلاَّ إِذَا شَعَرَ المُوَظَّفُ أَنَّهُ وَهُوَ في وَظِيفَتِه في عِبَادَةٍ وَطَاعَةٍ، وَأَنَّ لَهُ أَجرًا إِنْ هُوَ أَدَّى مَا عَلَيهِ، نَعَم، لا قِيَامَ لِلعَمَلِ إِلاَّ إِذَا احتَسَبَ المُوَظَّفُ التَّعَبَ وَالنَّصَبَ، وَصَبَرَ عَلَى سَاعَاتِ الدَّوَامِ، وَحَرِصَ عَلَى إِتقَانِ عَمَلِهِ، فَمَتَى نَصِلُ إِلى ذَلِكَ فَنَشعُرَ بِأَنَّ أَعمَالَنَا أَمَانَةٌ في أَعنَاقِنَا؟! مَتى نُحِسُّ أَنَّ خِيَانَةَ وَظَائِفِنَا خِيَانَةٌ لِلأُمَّةِ، وَأَنَّ أَعظَمَ الخِيَانَاتِ إِثمًا وَأَشَدَّهَا شَنَاعَةً وَجُرمًا مَا أَصَابَ الدِّينَ أَوِ اكتَوَى بِنَارِهِ جُمهُورُ المُسلِمِينَ؟! قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَومَ القِيَامَةِ يُرفَعُ لَهُ بِقَدرِ غَدرَتِهِ، أَلا وَلا غَادِرَ أَعظَمُ غَدرًا مِن أَمِيرِ عَامَّةٍ".

فَهَنِيئًا لِمَنِ التَزَمَ حُدُودَ اللهِ في وَظِيفَتِهِ، وَأَحَسَّ بِالوَاجِبِ الَّذِي في رَقَبَتِهِ، قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "العَامِلُ إِذَا استُعمِلَ فَأَخَذَ الحَقَّ وَأَعطَى الحَقَّ، لم يَزَلْ كَالمُجَاهِدِ في سَبِيلِ اللهِ حَتَّى يَرجِعَ إِلى بَيتِهِ". وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "خَيرُ الكَسبِ كَسبُ العَامِلِ إِذَا نَصَحَ".

وَإِنَّهُ لَمِنَ المُحزِنِ حَقًّا أَن تَرَى كَثِيرِينَ يُمَاطِلُونَ وَيَتَبَاطَؤُونَ، أَو يَحضُرُونَ مُتَأَخِّرِينَ وَيَنصَرِفُونَ مُبَكِّرِينَ، فَإِذَا مَا تَسَرَّبَ خَبَرٌ عَن وُجُودِ مُفَتِّشِينَ أَو مُرَاقِبِينَ، أو حَضَرَ مَسؤُولٌ كَبِيرٌ لِزِيَارَةِ تِلكَ الجِهَةِ، رَأَيتَ مِثَالِيَّةً مُصطَنَعَةً وَتَمَيُّزًا لا نَظِيرَ لَهُ، فَأَينَ مُرَاقَبَةُ اللهِ؟! أَينَ الخَوفُ مِنهُ سُبحَانَهُ وَتَعظِيمُهُ؟! (فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخشَوهُ إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ) [التوبة: 13].

وَكَيفَ نُرِيدُ إِنتَاجًا أَو نَرُومُ تَقَدُّمًا وَمُعَدَّلُ عَطَاءِ بَعضِ مُوَظَّفِينَا لا يَتَجَاوَزُ في الوَاقِعِ وَالحَقِيقَةِ نِصفَ سَاعَةٍ مِن ثَمَانِ سَاعَاتٍ هِيَ مُدَّةُ الدَّوَامِ اليَومِيَّ؟! بَل إِنَّهُ لا يَحِقُّ لَنَا أَن نَتَسَاءَلَ: لِمَاذَا تَفَوَّقَت دُوَلٌ في الغَربِ أَو الشَّرقِ عَلَى أُمَّتِنَا في الإِدَارَةِ وَالعَمَلِ الوَظِيفِيِّ وَنحنُ نَرَاهُم يَنظُرُونَ إِلى العَمَلِ كَأَنَّهُ عِبَادَةٌ مُقَدَّسَةٌ، فَيَستَثمِرُونَ سَاعَاتِهِ وَدَقَائِقَهُ بِجِدٍّ وَإِخلاصٍ وَأَمَانَةٍ، بَينَمَا لا يَكُونُ نَظَرُ مُوَظَّفِينَا إِلاَّ لِلرَّاتبِ وَالتَّرقِيَاتِ وَالانتِدَابَاتِ دُونَ إِعطَاءِ الحَقِّ مِنَ النَّفسِ.

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَاعلَمُوا أَنَّهُ لَوِ التَزَمَ كُلُّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ وَاجتَهَدَ كُلُّ مُوَظَّفٍ في وَظِيفَتِهِ، لَو حَفِظَ كُلُّ مُؤتَمَنٍ أَمَانَتَهُ وَأَوفَى كُلٌّ بِعَهدِهِ، لَصَلَحَت أَحوَالُ المُسلِمِينَ وَقَامَت مَصَالِحُهُم وَقُضِيَت حَاجَاتُهُم، وَلَتَقَدَّمُوا في مَجَالاتٍ كَثِيرَةٍ، لَكِنَّ المَرَضَ إِذَا انتَشَرَ وَالعَدوَى إِذَا اتَّسَعَت، صَعُبَ العِلاجُ إِلاَّ أَن يَتَدَارَكَ اللهُ النَّاسَ بِرَحمَتِهِ، إِلاَّ فَليُوَطِّنْ كُلٌّ مِنَّا نَفسَهُ عَلَى الإِخلاصِ وَبَذلِ الوُسعِ لإِتقَانِ عَمَلِهِ وَخِدمَةِ مُجتَمَعِهِ، وَلْيَتَدَرَّبْ عَلَى أَن يَعِيشَ وَظِيفَتَهُ هَمًّا يَشغَلُ بَالَهُ، فَإِنِ استَطَاعَ أَن يَجعَلَهَا مُتعَةً لَهُ وَأُنسًا فَحَسَنٌ، لِيَلزَمِ الخُلُقَ الرَّفِيعَ وَالأَدَبَ الجَمَّ في تَعَامُلِهِ، وَلْيَعتَنِ بِحَاجَاتِ النَّاسِ وَلْيُسَارِعْ إِلى إِنجَازِهَا بِامتِنَانٍ دُونَ مَنٍّ وَلا أَذًى، لِيَكُنْ كُلٌّ مِنَّا سَهلاً هَينًا لَينًا لَطِيفًا، مَادًّا يَدَ العَونِ لِمَن يَحتَاجُهُ، مَرِنًا في حُدُودِ النِّظَامِ وَدُونَمَا ضَرَرٍ أَو ضِرَارٍ.

وَلْنَتَذَكَّرْ أَنَّ مَن يَسَّرَ عَلَى مُسلِمٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيهِ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، وَأَنَّ مَن كَانَ في حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ في حَاجَتِهِ، وَأَنَّ "مَن وَلاَّهُ اللهُ شَيئًا مِن أُمُورِ المُسلِمِينَ فَاحتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِم وَخَلَّتِهِم وَفَقرِهِم، احتَجَبَ اللهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقرِهِ يَومَ القِيَامَةِ"، وَالرِّفقَ الرِّفقَ، فَـ"الرِّفقُ لا يَكُونُ في شَيءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلا يُنزَعُ مِن شَيءٍ إِلاَّ شَانَهُ"؛ قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "اللَّهُمَّ مَن وَلِيَ مِن أَمرِ أُمَّتي شَيئًا فَشَقَّ عَلَيهِم فَاشقُقْ عَلَيهِ، وَمَن وَلِيَ مِن أَمرِ أُمَّتي شَيئًا فَرَفَقَ بِهِم فَارفُق بِهِ".

وَالعَدلَ العَدلَ مَعَ مَن أَحبَبتُم وَمَن أَبغَضتُمُ، وَلا يَحمِلَنَّكُمُ الهَوَى وَالعَصَبِيَّةُ وَبُغضُ النَّاسِ إِلَيكُم عَلَى ظُلمِهِم وَبَخسِهِم حُقُوقَهُم، بَلِ الزَمُوا العَدلَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَو عَلَى أَنفُسِكُم أَوِ الوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَو فَقِيرًا فَاللهُ أَولى بهمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعدِلُوا وَإِن تَلوُوا أَو تُعرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بما تَعمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء: 135]، وقَالَ تَعَالى: (وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنَئَانُ قَومٍ عَلَى أَن لا تَعدِلُوا اعدِلُوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوَى) [المائدة: 8]، وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "إِنَّ المُقسِطِينَ عِندَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِن نُورٍ عَن يَمِينِ الرَّحمَنِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَكِلتَا يَدَيهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعدِلُونَ في حُكمِهِم وَأَهلِهِم وَمَا وَلُوا".

اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ، وَأَطعِمْنَا حَلالاً وَبَارَكَ لَنَا فِيمَا رَزَقتَنَا، وَاعفُ عَنَّا وَتَجَاوَزْ عَن تَقصِيرِنَا.

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

أَمَّا بَعدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُم، وَاعمَلُوا لِمَا فِيهِ نَجَاتُكُم، وَإِيَّاكُم ومَا يُعتَذَرُ مِنهُ غَدًا يَومَ تَقِفُونَ بَينَ يَدَي مَولاكُم، فَـ(إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا لَعِبٌ وَلَهوٌ وَإِنْ تُؤمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤتِكُم أُجُورَكُم وَلا يَسأَلْكُم أَموَالَكُم) [محمد: 36].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: هَا هُنَا مُصِيبَتَانِ ضَاعَت بهما حُقُوقٌ كَثِيرَةٌ، وَظُلِمَت عَن طَرِيقِهِمَا جُمُوعٌ غَفِيرَةٌ، أَوَّلُهُمَا: الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ وَالوَسَاطَةُ الظَّالِمَةُ، وَهَذِهِ مِمَّا يَخلِطُ فِيهِا كَثِيرُونَ وَيَتَجَاوَزُونَ المَشرُوعَ وَيَتَعَدَّونَ، وَالحَقُّ أَنَّ الشَّفَاعَةَ في ذَاتِهَا أَمرٌ مَحمُودٌ وَمَندُوبٌ إِلَيهِ وَمُرَغَّبٌ فِيهِ، إِذَا لم يَنتُجْ عَنهَا ضَيَاعُ حَقٍّ لأَحَدٍ أَو نُقصَانُهُ، قَالَ سُبحَانَهُ: (مَن يَشفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنهَا) [النساء: 85]، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "اِشفَعُوا تُؤجَرُوا"، وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "مَنِ استَطَاعَ مِنكُم أَن يَنفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفعَلْ".

وَأَمَّا إِذَا نَتَجَ عَنِ الوَاسِطَةِ ضَيَاعُ حَقٍّ لأَحَدٍ أَو نُقصَانُهُ، أَو حِرمَانُ مَن هُوَ أَولى بِالعَمَلِ وَأَحَقُّ بِتَعيِينٍ أَو قَبُولٍ أو خِدمَةٍ، فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ حِينَئِذٍ مُحَرَّمَةٌ، وَصَاحِبُهَا مَأزُورٌ غَيرُ مَأجُورٍ؛ لأَنَّهُ ظَلَمَ المُستَحِقَّ وَهَضَمَهُ، وَغَمَطَهُ بِتَقدِيمِ مَن هُوَ دُونَهُ عَلَيهِ، بَل وَظَلَمَ وَلِيَّ الأَمرِ بِحِرمَانِهِ مِن ذَوِي الكِفَايَةِ، بَل وَظَلَمَ الأُمَّةَ بِأَكمَلِهَا وَاعتَدَى عَلَيهَا بِحِرمَانِهَا مِمَّن يَقُومُ بِشُؤُونِهَا في عَمَلٍ مِنَ الأَعمَالِ عَلَى خَيرِ حَالٍ، وَمِثلُ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ تُوَلِّدُ الضَّغَائِنَ وَتُنبِتُ الأَحقَادَ، وَتُورِثُ الظُّنُونَ السَّيِّئَةَ وَعَدَمَ الثِّقَةِ بِالآخَرِينَ.

وَيَشتَدُّ الأَمرُ سُوءًا وَيَعظُمُ خَطَرًا، إِذَا كَانَتِ الشَّفَاعَةُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللهِ، فَمَتَى وَصَلَتِ القَضِيَّةُ لِوَليِّ الأَمرِ أَو مَن يَنُوبُ عَنهُ مِن مَرَاكِزِ الشُّرَطِ أَوِ المَحَاكِمِ وَغَيرِهَا، فَلا يَجُوزُ لأَحَدٍ أَن يَشفَعَ أَو يَتَدَخَّلَ، وَمَن فَعَلَ فَقَد أَسَاءَ لِمُجتَمَعِهِ أَشَدَّ الإِسَاءَةِ، وَعَرَّضَ نَفسَهُ وَأُمَّتَهُ لِغَضَبِ اللهِ وَلِلهَلاكِ، عَن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- أَنَّ قُرَيشًا أَهَمَّهُم شَأنُ المَرأَةِ المَخزُومِيَّةِ الَّتي سَرَقَت فَقَالُوَا: مَن يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-؟! فَقَالُوَا: وَمَن يَجتَرِئُ عَلَيهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بنُ زَيدٍ حِبُّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-!! فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "أَتَشفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللهِ؟!"، ثُمَّ قَامَ فَاختَطَبَ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا أَهلَكَ الَّذِينَ قَبلَكُم أَنَّهُم كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيهِ الحَدَّ، وَايمُ اللهِ لَو أَنَّ فَاطِمَةَ بِنتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَت لَقَطَعتُ يَدَهَا".

وَأَمَّا الآفَةُ الثَّانِيَةُ الَّتي ضَاعَت بِسَبَبِهَا الحُقُوقُ فَهِيَ الرِّشوَةُ، وَهِيَ مَالٌ حَرَامٌ وَسُحتٌ وَغَضَبٌ وَمَقتٌ، ذَمَّ اللهُ تَعَالى اليَهُودَ وَشَنَّعَ عَلَيهِم بِأَكلِهِم إِيَّاهَا، فقَالَ سُبحَانَهُ: (سَمَّاعُونَ لِلكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحتِ) [المائدة: 42]، وَقَالَ تَعَالى عَنهُم: (وَتَرَى كَثِيرًا مِنهُم يُسَارِعُونَ في الإِثمِ وَالعُدوَانِ وَأَكلِهِمُ السُّحتَ لَبِئسَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ * لَولا يَنهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحبَارُ عَن قَولِهِمُ الإِثمَ وَأَكلِهِمُ السُّحتَ لَبِئسَ مَا كَانُوا يَصنَعُونَ) [المائدة: 62، 63]، وَقَالَ تَعَالى: (فَبِظُلمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمنَا عَلَيهِم طَيِّبَاتٍ أُحِلَّت لَهُم وَبِصَدِّهِم عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا * وَأَخذِهِمُ الرِّبَا وَقَد نُهُوا عَنهُ وَأَكلِهِم أَموَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ) [النساء: 160، 161]، وَعَن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- الرَّاشِيَ وَالمُرتَشِيَ"، وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "مَنِ استَعمَلنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقنَاهُ رَزقًا، فَمَا أَخَذَ بَعدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ".

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَأَخلِصُوا، وَخَلِّصُوا أَنفُسَكُم وَانجُوا بِرِقَابِكُم، وَلا تَأخُذُوا الأَمرَ مِن غَيرِ مُحَاسَبَةٍ وَلا مُرَاقَبَةٍ، وَلا يَغتَرَّنَّ أَحَدٌ بِمَنصِبٍ فَيَظلِمَ النَّاسَ بِأَخذِ حُقُوقِهِم، أَو يَظلِمَ نَفسَهُ بِأَكلِ مَا لا يَحِلُّ لَهُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الغَرُورُ * إِنَّ الشَّيطَانَ لَكُم عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدعُو حِزبَهُ لِيَكُونُوا مِن أَصحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر: 6].