الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - المنجيات |
اعلمُوا أَنَّ الله أمرَكُم بالإِكثار من ذكره، وخصَّص -سبحانه- الأمرَ بذكره بعد أداء العبادات، فأمرَ بذكره بعد الفراغ من الصلوات، وأمر بذكرِهِ بعد إكمال صيام رمضان، وأمر بذكره بعد قضاء مناسك الحج، وذلك -والله أعلم- جبرٌ لما...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واعلمُوا أَنَّ الله أمرَكُم بالإِكثار من ذكره عموماً، فقال -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[الأحزاب:41-42].
وخصَّص -سبحانه- الأمرَ بذكره بعد أداء العبادات، فأمرَ بذكره بعد الفراغ من الصلوات، فقال -سبحانه-: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ)[النساء:103]، وقال -سبحانه-: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الجمعة:10].
كما أمر الله بذكرِهِ بعد إكمال صيام رمضان، فقال -سبحانه-: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة:185].
وأمر بالإكثار من ذكره –جل وعلا- بعد قضاء مناسك الحج، فقال -سبحانه-: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)[البقرة:200]؛ وذلك -والله أعلم- جبرٌ لما يحصُلُ في العبادة من النقص والوساوس، ولإِشعار الإِنسان أنَّهُ مطلوبٌ منه مواصلةُ الذكر والعبادة؛ لئلاَّ يَظُنَّ أنه إذا فَرَغَ من العبادة فقد أدَّى ما عليه.
عباد الله: والذكرُ المشروع بعد صلاة الفريضة: يجبُ أن يكونَ على الصفةِ الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ففي صحيح مسلم عن ثوبان -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا انصرَفَ من صلاته، استغفرَ الله، ثلاثاً، وقال: "اللهُمَّ أنتَ السلامُ، ومنك السلامُ، تباركتَ يا ذا الجلالِ والإِكرام".
ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، ففي الصحيحين عن المغيرةِ بن شُعبة -رضي الله عنه-: أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- كانَ إذا فَرَغَ من الصلاةِ، قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، اللهُمَّ لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا معطيَ لما مَنَعْتَ، ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ منكَ الجَدُّ".
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-: أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- كانَ يُهَلِّلُ دُبُرَ كل صلاةٍ حينَ يُسَلِّمُ بهؤلاء الكلمات: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمدُ وهو على كل شيء قدير، لا حولَ ولا قوة إلا بالله. لا إله إلا الله، ولا نعبُدُ إلا إيَّاهُ، له النعمة، وله الفضلُ، وله الثناءُ الحسن، لا إله إلا الله مخلصينَ له الدين ولو كَرِهَ الكافرون".
وفي السنن من حديث أبي ذر: أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ قال في دُبُرِ صلاة الفجر وهو ثانٍ رجلَيْه قبل أن يتكلَّمَ: لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ، يحيي ويميتُ وهو على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، عشر مرات، كُتِبَ له عشر حسنات، ومُحِيَ عنه عشرُ سيئات، ورُفِعَ له عشرُ درجات، وكان يومهُ ذلك كلُّه في حِرْزٍ من كل مكروهٍ وحرس من الشيطانِ، ولم ينبغِ لِذَنْبٍ أن يُدرِكَه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله"(رواه الترمذي، وقال: "هذا حديث حسنٌ صحيح). وَوَرَدَ أيضا: أنَّ هذه التهليلات العشر تُقالُ بعدَ صلاةِ المغرب أيضاً، من حديثِ أم سلمة عند أحمد وحديثِ أبي أيوب الأنصاري في صحيح ابن حبان.
ويقول بعد المغرب والفجر أيضاً: "ربِّ أجِرْني من النارِ" سبعَ مرات، لِما رواه أحمدُ وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
ثُم يسبِّحُ الله بعدَ كلِّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين، ويحمَدُه ثلاثاً وثلاثين، ويكبره ثلاثاً وثلاثين، ويقولُ تمامَ المئةِ: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٌ"؛ لِما روى مسلم: أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ سَبَّحَ الله في دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين، وحَمِدَ الله ثلاثاً وثلاثين، وكبَّرَ الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعةٌ وتسعون، ثم قالَ تمامَ المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير؛ غُفِرَتْ له خطاياه، وإن كانت مثلَ زَبَدِ البحر".
ثم يقرأُ: آيةَ الكرسي، وقل هو الله أحد، وقُل أعوذ بربِّ الفلق، وقل أعوذُ بربِّ الناس؛ لِما رواه النسائي والطبراني عن أبي أُمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قرأَ آيةَ الكرسي دُبُرَ كُلِّ صلاة لم يمنَعْهُ من دخولِ الجنة إلا أن يموتَ". يعني: لم يكن بينَه وبينَ دخول الجنة إلا الموتُ. وفي حديث آخر: "كانَ في ذِمَّةِ الله إلى الصلاة الأخرى".
وفي السنن عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: "أمرني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أقرأَ المعوذتين دُبُرَ كل صلاةٍ".
عبادَ الله: وقد دلَّت هذه الأحاديث الشريفة على حث الناس على قراءة هذه الأذكار بعد الصلواتِ المكتوبة، وعلى ما يحصُلُ عليه مَنْ قالَها من الأجرِ والثواب. فينبغي لنا المحافظةُ عليها، والإِتيان بها على الصفةِ الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن نأتيَ بها بعدَ السلام من الصلاة مباشرةً قبلَ أن نقومَ من المكان الذي صلَّينا فيه، مرتبة كما أوردناها.
ويُسْتَحَبُّ الجَهْرُ بالتهليل والتسبيح والتحميد والتكبير، عَقِبَ الصلاة، لكن لا يكون بصوتٍ جماعي، وإنَّما يرفع به كلُّ واحدٍ صوتَه منفرداً.
ويستعين العبد على ضبط عدد التسبيح والتحميد والتكبير، بعقد الأصابعِ؛ لأنَّ الأصابعَ مسؤولات مُستنطَقات يومَ القيامة.
ويُباحُ استعمالُ السبحةِ، لِيَعُدَّ بها الأذكارَ، والتسبيحات من غيرِ اعتقاد أنَّ فيها فضيلةً خاصةً، وإن اعتقد أنَّ لها فضيلةً، فاتخاذُها بدعةٌ، وذلك مثلُ السُّبَحِ التي يتخذُها البعض، ويعلِّقُونها في أعناقِهم، أو يجعلونها كالأسورةِ في أيديهم. وهذا مع كونه بدعةً، فإنَّ فيه رياءً وتكلُّفاً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
عبادَ الله: اتقوا الله -تعالى-، وأكثروا من الحسنات، وتوبُوا من الخطايا والسيئات، وحافظوا على الصلوات، قال -تعالى-: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)[هود:114].
ثم بعدَ الفراغ من هذه الأذكار يدعو سرًّا بما شاء، ولا يجهَرُ بالدعاءِ، بل يُخفيه؛ لأنَّ ذلك أقربُ إلى الإِخلاص والخشوع، وأبعدُ عن الرياء.
وما يفعلُه بعض الناس من الدعاء الجماعي بعد الصلوات بأصوات مرتفعة مع رفعِ الأيدي، أو يدعو الإِمام والحاضرون يؤمِّنونُ رافعي أيديهم، فهذا العملُ بدعةٌ منكرةٌ؛ لأنَّه لم يُنْقَلْ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كانَ إذا صلَّى بالناسِ يدعو بعدَ الفراغِ من الصلاة على هذه الصفة لا في الفجر ولا في العصر، ولا غيرهما من الصلوات.
ولم يستحَبَّ ذلك أحدٌ من الأئمة. قالَ شيخُ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: "مَنْ نَقَلَ ذلك عن الإِمام الشافعي فقد غَلِطَ عليه، فيجبُ التقيدُ بما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك وفي غيره؛ لأنَّ الله -تعالى- يقول: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[الحشر:7]، ويقول -سبحانه-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)[الأحزاب: 21]".
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد...
المصدر: الذكر بعد الصلاة للشيخ د. صالح بن فوزان الفوزان