العربية
المؤلف | عبد الله اليابس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الزكاة - الصيام |
إن رمضان إذ يرحل -أيها الإخوة- يبين لنا أن داخل كل واحد منا نفسًا طيبة، صالحة، مقبلة على الخير، راغبة فيه؛ فتعاهدوا هذه النفس، وارعوها حق رعايتها، واصبروا وصابروا؛ فغدًا -بإذن الله- تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي من علينا بشريعة الإسلام، وشرع لنا ما يقرب إليه من صالح الأعمال، الحمد لله الذي أنعم علينا بتيسير الصيام والقيام، وجعل ثواب من فعل ذلك تكفير الخطايا والآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل من صلى، وزكى، وحج، وصام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما كثيرًا.
أما بعد: فإن الله -تعالى- جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكورًا، فالليل والنهار هما خزائن الأعمال، ومراحل الآجال، يودعهما الإنسان ما قام به فيهما من عمل، ويقطعهما مرحلةً مرحلةً حتى ينتهي به الأجل، فاتقوا الله عباد الله، وانظروا ماذا تودعونهما، فستجد كل نفس ما عملت، وتعلم ما قدمت وأخرت، في يوم لا تستطيع به الخلاص مما فات: (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)[القيامة:13-15].
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: إن الله -تعالى- قد شرع لنا في ختام هذا الشهر عبادات جليلة نزداد بها إيماننا، وتَكملُ بها عباداتنا، وتتمُ بها علينا نعمة ربنا، شرع لنا ربنا في ختام هذا الشهر زكاة الفطر وهي صاع من طعام، أي صاع من البر أو الرز أو التمر أو غيرها من قوت الآدميين، وهو ما يقارب ثلاثة كيلو جرامات، قال أبو سعيد -رضي الله عنه-: "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر صاعًا من طعام"، وكلما كان الطعام أطيب وأنفع للفقراء، فهو أفضل وأعظم أجرًا، فطيبوا بها نفسًا، وأخرجوها من أطيب ما تجدون، فلن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وهي ولله الحمد قدر بسيط لا يجب في السنة إلا مرة واحدة، فكيف لا يحرص الإنسان على اختيار الأطيب مع أنه الأفضل عند الله وأكثر أجرًا.
ويجوز للإنسان أن يوزِّع الفطرة الواحدة على عدة فقراء، وأن يعطي الفقير الواحد فطرتين فأكثر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قَدَّر الفطرة بصاع، ولم يبين قدر مَن يعطى، فدل على أن الأمر واسع.
وزكاة الفطر فرض على جميع المسلمين، على الصغير والكبير، والذكر والأنثى، فأخرجوها عن أنفسكم، وعمن تنفقون عليه من الزوجات والأولاد والأقارب، ولا يجب إخراجها عن الحمل الذي في البطن، فإن أخرج عنه فهو خير، كما فعل ذلك أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-.
والأفضل إخراج الفطرة يوم العيد قبل الصلاة، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، ولا تجزئ بعد صلاة العيد، إلا إذا كان الإنسان جاهلاً؛ فهذا تجزئه بعد الصلاة، ولا يجزئ دفع زكاة الفطر إلا للفقراء خاصة، والواجب أن تصل إلى الفقير، أو وكيله في وقتها، ويجوز للفقير أن يوكل شخصًا في قبض ما يدفع إليه من زكاة، فإذا وصلت الزكاة إلى يد الوكيل، فكأنها وصلت إلى يد موكله، فإذا كنت تحب أن تدفع فطرتك لشخص، وأنت تخشى أن لا تراه وقت إخراجها، فمره أن يوكل أحدًا يقبضها منك، أو يوكلك أنت في القبض له من نفسك، فإذا جاء وقت دفعها، فخذها له بكيس أو غيره، وأبقها أمانة عندك حتى يأتي.
اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا، وتجاوز اللهم عن تقصيرنا وتفريطنا، واجعلنا من عتقائك من النار.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي شرع لعباده الشرائع لحكم بالغة وأسرار، ورتب على صيام رمضان وقيامه إيمانًا واحتسابًا مغفرة الذنوب والأوزار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الغفار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان آناء الليل والنهار، وسلم تسليمًا.
أما بعدُ: فاتقوا الله عباد الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
فيا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: اليوم هو السادس والعشرون من شهر رمضان، وصدق الله -تعالى- إذ قال: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)[البقرة:184]؛ بالأمس كنا نستقبله، واليوم نودعه، ستٌ وعشرون ليلة، من أحسن فيها وجد واجتهد؛ فقد ذهب التعب وبقي الأجر إن شاء الله.
لقد كانت الأيام تحمل في طياتها دروسًا وعبرًا لمن يعتبر. ففي رَمَضَانَ حُبِسَتِ الأَعيُنُ وَالآذَانُ عَن كثير من فُضُولِ النَّظَرِ وَفُضُولِ السَّمَاعِ، وَحُفِظَتِ الأَلسِنَةُ عَنِ كثير من اللَّغوِ وَالرَّفَثِ وَقَولِ الزُّورِ، وَكُفَّتِ الجَوَارِحُ عَنِ كثير من الجَهلِ وَالتَّعدِي. فإذا كنت غضضت بصرك وصنت سمعك وجوارحك؛ فما الذي يمنع أن يكون هذا دأبك طول العام؟!
لقد أثبتت لنفسك أن نفسك المطمئنة قادرة أن تغلب نفسك الأمارة بالسوء؛ فلماذا ترخي العنان للأخيرة طول العام؟
في رَمَضَانَ هُذِّبَتِ الأَخلاقُ وَقُوِّيَتِ الإِرَادَاتُ وَشُدَّتِ العَزَائِمُ، وَاكتَشَفت بِصِيَامِك كل يوم قرابة خَمسَ عَشرَةَ سَاعَةً قدرتك على الصيام، فلماذا يكون آخر عهدك بالصيام شهر رمضان؟ داوم الصيام بعد رمضان، ولا تترك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام كما أوصى بذلك حبيبك -صلى الله عليه وسلم-.
في الأيام الماضية تبين لك قدرتك على قيام الليل، فكنت تقوم مع الإمام أول الليل ساعة وآخر الليل مثلها، فهل تكون ليالي رمضان آخر عهد بقيام الليل وقد تذوقت حلاوته؟
في الأيام الماضية كنت من أهل القرآن، وكان لك ورد يومي بحمد الله من كتاب الله -تعالى-، فهل ستستمر بعد مضي هذا الشهر ضمن قائمة الشرف بحمل راية القرآن؟ أم ستنضم إلى قائمة الذين اتخذوا القرآن مهجورًا؟
إن رمضان إذ يرحل -أيها الإخوة- يبين لنا أن داخل كل واحد منا نفسًا طيبة، صالحة، مقبلة على الخير، راغبة فيه؛ فتعاهدوا هذه النفس، وارعوها حق رعايتها، واصبروا وصابروا؛ فغدًا -بإذن الله- تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا.
اللهم اختم لنا شهر رمضان برضوانك، والعتق من نيرانك. اللهم أعد علينا رمضان أعوامًا عديدة وأزمنة مديدة يا رب العالمين.
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: اعلموا أن الله -تعالى- قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام، فاللهم صلِّ وسَلِّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.