الغفار
كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
في عالم النجاح لا بقاء إلا لأصحاب العزائم القوية، والهمم العالية المتوقدة، ولا يشترط في ذلك أن يكون ضخمًا في البدن، كبيرًا في الجسم، فإن النملة مضرب المثل في الصبر والتجلُّد والجدية وقوة...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
عباد الله: ما من أحد في هذه الحياة إلا وله هدف وغاية، على تباين بين الناس في منزلة هذا الهدف وتحقيقه، والأهداف العظيمة لا تنال إلا بعزم عظيم، وإصرار قوي؛ فالآمال لا تتحقق إلا بالعزيمة والإصرار، وإن من أشد القيود التي تحول بين الإنسان وبين تحقيق أهدافه: خور العزيمة وضعف الهمة؛ فقد يضع الإنسان لنفسه أهدافًا عالية، لكنه حينما يبدأ في العمل من أجل تنفيذها يُفاجأُ بحجم الجهد الكبير الذي يتطلبه النجاح، فتضعف همته، ويقلُّ صبره، وتنْحلُّ عزيمته، فيترك أهدافه ويقعد عن العمل، ومن ثَمَّ فلا يحاول أن يضع له أهدافًا مرة أخرى؛ حيث ارتبط وضع الأهداف في ذهنه بالمشقة والتعب.
إن العزم: هو قصد فعل الشيء، والنية بالمضي فيه، والشروع في تحقيقه؛ وسمي عزماً؛ لأن صاحبه قد عقد النية في قلبه على فعل الشيء، ويقال: ليس لفلان عزيمة؛ لتردده في أمره وعدم الإقبال عليه.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "لابد للسالك من همَّة تسيِّره وترقِّيه، وعلم يبصِّره ويهديه".
فصاحب العزيمة العالية، والهمة الصادقة تحوم أمانيه حول معالي الأمور وكبارها، وتترفع عن سفاسفها وصغارها.
عباد الله: لقد تواردت النصوص في الحث على ارتياد معالي الأمور، والتسابق في الخيرات، وصدق العزيمة في كل الأمور، والتحذير من سقوط الهمة، وخور العزيمة، فمن ذلك:
قوله تعالى مثنيًا على أصحاب العزيمة العالية، وفي طليعتهم الأنبياء والمرسلون، وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل، وعلى رأسهم خاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم-: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)[الأحقاف: 35].
ومنها: أن الله -عز وجل- أثنى على أهل العزيمة من أهل الإيمان، ووصفهم بوصف الرجولة التي لم تطلق في القرآن إلا على من قويت عزيمته، وتسامت همته، فقال: (فِيْ بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)[النور: 36-37].
وفي السنة أيضًا كثير من النصوص التي تحث على العزيمة الصادقة، وتندب للهمة العالية؛ فمن ذلك:
قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة؛ فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها"(رواه البخاري)؛ ففي هذا استنهاض لاستمرار العزم في الموطن الذي يمكن أن ينهار فيه.
ومنها: قوله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "إن الله -تعالى- يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها"(رواه الطبراني في الأوسط).
وأيضًا: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إِذَا تَمَنَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُكْثِرْ، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ"(رواه الطبراني في الأوسط). وغير ذلك من النصوص الكثيرة في الحث على صدق العزيمة وعلو الهمة.
ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو الله أن يعينه على المضي في عزمه، ويطلب منه التوفيق والسداد على ذلك، فكان يَقُولُ فِي صَلاَتِهِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةِ عَلَى الرُّشْدِ"(رواه النسائي)؛ والمراد بذلك لزوم طريق الرشد ودوامها والاستقامة عليها.
إذا كنتَ ذَا رأيٍ فكُنْ ذَا عزيمةٍ | فإنَّ فسادَ الرأْيِ أن تتردَّدَا |
وفي عالم النجاح لا بقاء إلا لأصحاب العزائم القوية، والهمم العالية المتوقدة، ولا يشترط في ذلك أن يكون ضخمًا في البدن، كبيرا في الجسم؛ فإن النملة مضرب المثل في الصبر والتجلُّد والجدية وقوة العزيمة، وهي مخلوق صغير لا يؤبه له.
وقد ذكر المؤرخون هذه القصة العجيبة عن القائد "تيمور لنك"، فقد دخل معركة من المعارك هو وجنوده، ومع بداية المعركة هُزِم جيشه وتفرق عنه؛ فما كان منه إلا أن هام على وجهه حزينًا كسيرًا كئيبًا لهذه الهزيمة المنكرة، ولكنه لم يرجع إلى بلده، بل ذهب إلى مغارة في إحدى الجبال وجلس فيها يتأمل حاله التي وصل إليها، وجيشه الذي تفرق عنه. وبينما هو مستغرق في تفكيره؛ إذ رأى نملة تريد أن تصعد على حجرة ملساء لكنها تنطلق محاولة للمرة الثانية وتسقط، وتحاول الثالثة وتسقط، فالرابعة، وهكذا، فشدَّته وانقطع تفكيره، وبدأ بالتركيز مع النملة، يعُدُّ محاولاتها للصعود، حتى وصلت إلى ست عشرة مرة تصعد وتسقط، وتبادر بالصعود من جديد، وفي المحاولة السابعة عشرة نجحت النملة في الصعود.
فقال: عجيب هذا الأمر، نملة تكرر المحاولة سبع عشرة مرة ولا تيأس حتى تنجح، وأنا لأول مرة أنهزم أنا وجيشي فأُصاب باليأس والإحباط! فنزل من المغارة وقد صمم على أن يجمع فُلول جيشه، وأن يدخل المعركة مرة أخرى، وألَّا ينهزم ما دام حيًّا، وكل هذا وصورة النملة لا تفارق مخيلته وتعيش في رأسه.
فجمع جنوده، وتعاهدوا على الثبات والصبر في المعركة، وألَّا ينهزموا أبدًا ما داموا أحياء، فدخلوا المعركة بهذه العزيمة وهذا التوجه والتصميم فانتصروا.
وتتمثل هذه العزيمة والصرامة في عبد الرحمن الداخل (صقر قريش)؛ إذ خرج من البحر أول قدومه على الأندلس، وأهديت له جارية بارعة الجمال، فنظر إليها وقال: إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا شُغلت عنها بما أهمُّ به ظلمتُها، وإن أنا اشتغلت بها عما أهمُّ به ظلمت همتي، فلا حاجة لي بها الآن. وردَّها على صاحبها.
إذا غامرت في شرف مروم | فلا تقنع بما دون النجوم |
فطعم الموت في أمر حقير | كطعم الموت في أمر عظيمِ |
وفي كتب التاريخ أن المنصور بن أبي عامر الذي جذب عنان الملك من يد هشام بن الحكم في قرطبة قد غزا ستًّا وخمسين غزوة دون أن تنتكس له راية أو يتخاذل له جيش، أو يصاب له بعث، أو تهلك له سرية، ومن دَرَس سيرته لم يعجب لهذا الانتصار المطرد؛ إذ يجد فيها عدلًا ومساواة يأخذان النفوس إلى أن تلقي إليه بالمودة والامتثال.
إن من طبيعة خلق الإنسان أنه يقع في الذنب، ويقارف المعصية، لكن الله جعل له أسبابًا تمحو عنه ذلك الذنب، وتمسح عنه تلك الخطيئة، فإذا عزم الإنسان على التوبة وبادر إليها، وعزم على فعل الخيرات وسابق نحوها، وعزم على ترك المعاصي والبعد عنها، وعزم على الصعود نحو المعالي ونافس فيها غفر الله له ذنوبه، وبدل سيئاته حسنات.
ومن الناس من يضعف عن القيام بما أوجبه الله عليه، ويتكاسل عن التقرب إلى الله بما افترضه عليه؛ فكيف له أن يكون صاحب عزيمة؟! يعجز عن القيام لصلاة الفجر وينهض بعدها لأجل الدوام والدنيا.
إن الذي يريد أن يستيقظ لصلاة الفجر وعنده عزم على ذلك فإنه سيستيقظ، ومن عزم على صيام بعض الأيام المستحبة فسيصومها، ومن عزم على الخروج في سبيل الله فسيخرج، ومن عزم على ترك الدخان فسيتركه، ومن عزم على فعل أي خير والبعد عن أي شر فإنه سيفعل، إذا كانت عزيمته صادقة: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)[التوبة : 46]، أي لو أرادوا الخروج وعزموا عليه لتجهزوا له وتأهبوا، ولكن أنفسهم لا تريد الخروج أصلاً، وليس لديها عزم ورغبة فيه.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم | وتأتي على قدر الكرام المكارم |
عباد الله: ينبغي على الإنسان أن يكون حازماً في أمره، ماضياً في عزمه غير متردد فيه؛ فإن التردد والحيرة ليس من شيم الرجال وأخلاقهم، وما دام المسلم لا ينوي إلا خيراً، ولا يعزم على فعل شر فإنه لا ينبغي له التردد والتحير.
يقول الله -تعالى-: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[آلعمران:159]؛ أي إذا عزمت على أمر من الأمور بعد الاستشارة فيه، فتوكل على الله في تنفيذه، واعتمد على حول الله وقوته في تطبيقه، ولا تتردد في ذلك، وتبرأ من حولك وقوتك ووكل الأمر إليه؛ فإن الله يحب المتوكلين عليه، الملتجئين إليه.
فإياكم والتردد والحيرة والتناقض والاضطراب، وتوكلوا على الله، وامضوا فيما عزمتم على فعله وتنفيذه ولا تترددوا، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، وَلاَ يَقُولَنَّ: اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي؛ فَإِنَّهُ لاَ مُسْتَكْرِهَ لَهُ"(رواه البخاري).
اللهم حقق عزائمنا، وسدد خطانا، واغفر لنا ذنوبنا أجمعين.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
أيها المؤمنون: إن العزم المنفعل، والتفاعل غير المنضبط سيقود إلى الضرر لصاحبه، وكم رأينا من شخص عنده عزم قوي وإرادة جبارة, لكنه عشوائي في تصرفاته، غير منضبط في تحركاته، فكانت نهايته الضعف والتقهقر والتراجع، فالأناة الأناة، ولابد مع العزم من الحكمة والتعقل والتريث والصبر.
عباد الله: كلنا يعترينا الضعف، فتكلّ عزائمنا، وتمل أنفسنا، وقد يجد الإنسان في نفسه فترة من الفترات عزيمة متقدة وهمة عالية، وتمر عليه أوقات أخرى يجد نفسه قد اعتراه التراخي والضعف والفتور؛ فهذه طبيعة النفس البشرية، ولكن ينبغي للإنسان العاقل اللبيب أن يجدد نيته، ويشد من عزمه، ويبعث في نفسه التغيير والإصلاح ما استطاع، يقول مُجَاهِد -رحمه الله-: "دَخَلْتُ أَنَا وَيَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم-، فقَالَ: ذَكَرُوا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَوْلَاةً لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالوا: إِنَّهَا تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَكِنِّي أَنَا أَنَامُ وَأُصَلِّي، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، فَمَنْ اقْتَدَى بِي فَهُوَ مِنِّي، وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي، إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً ثُمَّ فَتْرَةً، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى بِدْعَةٍ فَقَدْ ضَلَّ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّةٍ فَقَدْ اهْتَدَى"(رواه أحمد).
اللهم اجعل فترتنا إلى سنته، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه...