الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله بن مشاري المشاري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الزكاة |
عباد الله: إنَّ العبد الموفق هو الذي يغتنم الأوقات الفاضلة لزيادة القرب من الله, وكثرة عبادته, ولقد كان الصحابة الكرام وتابعيهم وصالحي الأمة وعبَّادها -رحمهم الله ورضي عنهم- يجعلون هذه الأيام أيام عبادة, ويتخففون من...
الخطبة الأولى:
الحمدلله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى, فإنَّ أجسادكم على النار لا تقوى.
معاشر المسلمين: ها نحن قريبا نستقبل العشر الأواخر -إن شاء الله- ومن فضل الله على عبده أن يبلغه إيَّاها؛ لما فيها من فضل عن سائر أيام السنة, والعمل الصالح فيها يضاعف أكثر من غيرها؛ لذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها, عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ"(أخرجه الشيخان)، وكذلك فإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف في المسجد في العشر الأواخر, عن عائشة -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ الله"(أخرجه الشيخان).
وعن عائشة -رضي الله عنها- أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقوم من الليل حتى تتفطر" أي: تتشقق "قدماه" فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أحبُّ أن أكون عبداً شكوراً؟"(أخرجه الشيخان).
وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ لِلإِثْمِ"(أخرجه الترمذي والحاكم وحسنه الألباني).
معاشر المسلمين: كلما كان العبد أكثر عبادة لله كلَّما أحبَّه الله, كتب أبو الدرداء -رضي الله عنه- إلى مسلمة بن مخلد: "أما بعد: فإنَّ العبد إذا عمل بطاعة الله أحبَّه الله، فإذا أحبَّه الله، حبَّبه إلى خلقه، وإنَّ العبد إذا عمل بمعصية الله أبغضه الله، فإذا أبغضه الله بغَّضه إلى خلقه".
وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل".
وقال الحسن -رحمه الله-: "يتوسّدُ المؤمنُ ما قدَّمَ من عمله في قبره إن خيراً فخير، وإن شرَّاً فشر، فاغتنموا المبادرة رحمكم الله في المهلة".
فعلى المسلم أن يكون مسابقاً في هذه العشر إلى الخيرات؛ لينال غداً أرفع الدرجات, فالجنة درجاتٌ, كلما ارتفع المرء درجة كلما زاد نعيمه, وأعلى هذه الدرجات, الفردوس الأعلى, وأهل هذه الدرجة هم الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام-, وغيرهم ممن اختصهم الله بكرمه ونعيمه الذي لا نعيم أكبر منه, جعلني الله وإياكم ووالدينا وذرياتنا من أهلها.
عباد الله: إنَّ العبد الموفق هو الذي يغتنم الأوقات الفاضلة لزيادة القرب من الله, وكثرة عبادته, ولقد كان الصحابة الكرام وتابعيهم وصالحي الأمة وعبَّادها -رحمهم الله ورضي عنهم- يجعلون هذه الأيام أيام عبادة, ويتخففون من مشاغل الدنيا, فينصرفون عنها, شغلاً بنوافل الصلوات, ونوافل العبادات, ويحييون ليالي العشر بالقيام, فيدركون قيام ليلة القدر, ليس كحال الكسالى الذين لا يقومون جميع ليالي هذه العشر, فيندمون على تفريطهم وتقصيرهم, ويتحسرون على عدم قيام جميع لياليها, إنَّه لعجبٌ أن يفرِّط في قيام ليلة القدر مفرِّط, إذ كيف يُزهد في قيام ليلة هي خير من ألف شهر؟! قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[القدر: 1-5].
ومن قام هذه الليلة إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه, فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"(أخرجه البخاري).
وليلة القدر ليلةٌ مباركةٌ فيها تقدير مقادير الخلائق, قال تعالى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)[الدخان: 4-5].
معاشر المسلمين: إنَّ على المرء أن يزداد نشاطاً في العبادة وفي قيام الليل في شهر رمضان وخصوصاً العشر الأواخر منه, وعلى الفتى والفتاة أن يعوِّد نفسه على ذلك, قال محمد بن عبدالعزيز السائح: "حدثنا أبي قال: كان فتى من المتعبدين له ورد من الليل يقومه ففتر عن ورده ذلك، قال: فبينما أنا ذات ليلة راقد رأيت في منامي كأنَّ فتىً وقف علي فقال لي:
تيقَّظ لساعاتٍ من الليل يا فتى | لعلك تُحبى في الجنان بحورهـا |
فتنعُمَ في دارٍ يدومُ نعيمُها | محمدٌ فيها والخليل بدورهــا |
فقم فتيقَّظ ساعةً بعد ساعةٍ | عساك تقضي ما بقي من مهورها |
وكان عبد العزيز بن روَّاد -رحمه الله- إذا جن عليه الليل يأتي فراشه فيُمرُّ يده عليه ويقول: "إنك للين, ووالله إنَّ في الجنة لألين منك, ولا يزال يصلي الليل كله".
وقال مالك بن دينار -رحمه الله-: "سهوت ليلة عن وردي ونمت فإذا أنا في المنام بجارية كأحسن ما يكون وفي يدها رقعة فقالت لي: أتحسن تقرأ؟ فقلت: نعم فدفعت إلي الرقعة فإذا فيها:
أألهتكَ اللذائذُ والأماني | عن البيضِ الأوانسِ في الجنان |
تعيشُ مُخلَّداً لا موتَ فيها | وتلهو في الجنانِ مع الحسان |
تنبَّه من منامك إنَّ خيراً | من النوم التهجدَ بالقران” |
عبد الله: اعِقدِ العزم على الاجتهاد في العشر الأواخر, ودع عنك كل مُلهٍ عن طاعة الله, ليكن سهرك في هذه العشر على قيام الليل وتلاوة القرآن والذكر والدعاء، وإنَّك أن قمت ليالي العشر فستدرك قيام ليلة القدر, فلا تفرِّط أو تتهاون أو تنشغل عن كثرة العمل الصالح فيها.
إنَّه لمحروم من حُرم قيام ليلة القدر, محروم من الخير كله, محروم ذلك الذي ألهاه جواله عن قيامها, محروم ذلك الذي ألهته شهواته عن العمل الصالح فيها, محروم ذلك الغافل الساهي اللاهي عن اغتنام أوقاتها, متى يصحو قلب يُفرِّط في ساعات ليالي العشر؟!
وفيها: ليلة العمل الصالح فيها خير من العمل خير من العمل في ثلاث وثمانين عاماً ليست فيها ليلة القدر.
أيها المُضيِّع لليالي رمضان الماضية: لا تُضيِّع لياليها الباقية في الملهيات والغفلات, فإنَّما هي عشر ليالٍ اجتهد فيها بالأعمال الصالحات, ولا تُفوِّت منها ساعة في غير عمل صالح, ولتعلم يقيناً أنَّ الحياة الطيبة هي حياة من آمن بالله وعمل صالحاً: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل: 97].
اللهم اجعلنا ممن يقوم ليلة القدر إيماناً واحتساباً، اللهم أعنَّا على قيام ليالي العشر أعنَّا فيها على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.