المحسن
كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...
العربية
المؤلف | عبد الله بن عبد الرحمن البعيجان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
فإن ما قام به المعتدون الآثمون من استهداف للمواطنين والمقيمين، وترويع للآمنين وسفك لدماء الأبرياء والأطفال والنساء، وانتهاك لحرمة المقدَّسات العظام، وبلدِ اللهِ الحرامِ، جرائم تستنكرها جميعُ الأديانِ، وتتنافي مع مبادئ الإسلام، ردَّ اللهُ كيدَهم في نحورهم، وجعَل بأسَهم بينَهم، وقطَع دابِرَهم...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلن تجد له وَلِيًّا مرشِدًا.
أشهد ألا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، خلَق فسَوَّى، وقدَّرَ فهَدى، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، الذي بعثَه بالحقِّ والهدى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اقتفي أثرَه واتبع منهجَه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فإن خير الحديث كلام الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدِ بن عبد الله، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عبادَ اللهِ: اتقوا الله فيما أمَر، وكُفُّوا عمَّا نهى عنه وزجَر، واعلموا أنَّ كل صغير وكبير مستَطَر، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْحَشْرِ: 18].
عبادَ اللهِ: موسمُ بركةٍ وفضلٍ وخيرٍ وبِرٍّ، قد انقضت أيامُه، وطُويت أعمالُه، إنه شهرٌ عظيمٌ فضلُه، عجيبٌ في الأُمَّةِ أثرُه، رَبِحَ فيه الفائزونَ، وَغَنِمَ فيه المجتهدونَ، ليتَ شعري مَنِ المقبول فُنَهَنِّيه، ومن المردود فَنُعَزِّيه، فيا سعادةَ الفائزينَ، قد ألهمهم اللهُ التوبةَ، ووفقهم للطاعة، فنسأل الله لهم القبولَ والاستقامةَ، ويا ضيعةَ الخائبينَ، قد حُرِمُوا وحُجِبُوا عن ربهم، وضاعت عليهم فرصُ العمرِ ومواسمُ الخيرِ، فلم يغنموا إلا الحسرةَ والندامةَ.
لكن -معاشرَ المسلمينَ- أبوابُ التوبةِ لا زالت مفتوحةً لم تُغلق بعد رمضان، وربُّنا -جل وعلا- يقبل التوبةَ من عباده في كل زمان ومكان، (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)[الشُّورَى: 25]، صحَّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لَلَّهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبدِه المؤمنِ مِنْ رَجُلٍ في أرضِ دَوِيَّةٍ مُهلِكةٍ، معه راحلتُه عليها طعامُه وشرابُه، فنام فاستيقظ وقد ذهبَتْ، فطلَبَها حتى أدركه العطشُ، ثم قال: أَرْجِعُ إلى مكاني الذي كنتُ فيه فأنام حتى أموتَ، فوضَع رأسَه على ساعِدِه ليموتَ، فبَيْنا هو كذلك إذ براحلتِه عندَ رأسِه، وعليها زادُه وطعامُه وشرابُه، فأخَذ بخطامها وأخطأ من شدة الفرح فقال: اللهمَّ أنتَ عبدي وأنا رَبُّكَ"، وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مضى شطرُ الليلِ أو ثلثاه ينزل اللهُ -تبارك وتعالى- إلى السماءِ الدنيا فيقول: هَلْ مِنْ سائلٍ يُعطى؟ هل مِنْ داعٍ يُستجاب له؟ هل مِنْ مستغفرٍ يُغفر له؟ حتى ينفجر الصبحُ"(رواه مسلم).
فإلى مَنْ ضاعت عليه فرصةُ رمضانَ: بَادِرْ بالتوبة وَتَعَجَّلْ قبلَ فواتِ الأوانِ ومباغتةِ الأجلِ، ولا تَيْأَسْ فكلُّ ابنِ آدمَ خطَّاء، والعتب على مَنْ أَصَرَّ وله ربٌّ يغفر الذنوبَ فلم يستغفر، "ولولا أنكم تخطئون وتستغفرون لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم".
عبادَ اللهِ: اتقوا الله واستغفِروه، وأنِيبُوا إليه وأطيعوه، ولا تُؤَخِّرُوا التوبةَ؛ فإن الموتَ قد يأتي بغتةً، قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النُّورِ: 31]، وقال: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[الزُّمَرِ: 53-58].
معاشرَ المسلمينَ: إن للعبادة أثرًا في سلوك صاحبها، قال تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45]، ومن علامات قبول الأعمال تغيُّر الأحوال إلى أحسن حال، وفي المقابل فإن من علامات الحرمان وعدم القبول الانتكاس بعد رمضان، وتغيُّر الأحوال إلى الأسوأ، فالمعاصي يَجُرُّ بعضُها بعضًا، فلا أحسنَ الحسنةَ بعد السيئة تمحها، وأحسن منها الحسنة بعد الحسنة تتلوها، سَلُوا اللهَ الثباتَ على الطاعات إلى الممات، وتعوَّذوا به مِنْ تقلُّب القلوب ومن الحَوْر بعد الكَوْر، ما أوحشَ ذلَّ المعصيةِ بعد عِزِّ الطاعةِ، وأفحشَ فقرَ الطمع بعد غِنَى القناعةِ، فاسألوا اللهَ الثباتَ، صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إنَّ أحدَكم لَيعملُ بعملِ أهلِ الجنةِ حتى ما يكون بينَه وبينَها إلا ذراعٌ، فيسبِقُ عليه الكتابُ، فيعمَلُ بعملِ أهلِ النارِ فيدخلها، وإن أحدكم لَيعملُ بعملِ أهلِ النارِ حتى ما يكون بينَه وبينَها إلا ذراعٌ فيسبِقُ عليه الكتابُ فيعملُ بعملِ أهلِ الجنةِ فيدخُلُها"(رواه البخاري).
اللهم يا مُقَلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلوبَنا على دينِكَ، اللهم يا مُصَرِّفَ القلوبِ صَرِّفْ قلوبَنا على طاعتك.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي يقبل التوبةَ عن عباده، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون، (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ)[الشُّورَى: 26].
أيها المسلمون: الشهور كلها مواسم عبادة، وإن تفاوتت واختلفت بالفضل والوظائف، والعمر كله فرصةُ عملٍ وطاعةٍ، وكلٌّ يغدو فبائعٌ نفسَه فمعتقها أو موبقها، وكلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له، فَأَطِّنُوا أنفسكم على الطاعة، واستعينوا عليها بالتوبة والاستغفار والأوبة والانكسار، ومراقَبة الواحد القهار في السر والنجوى في الليل والنهار، (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ)[الْأَنْعَامِ: 120].
عبادَ اللهِ: أَقْرِضُوا اللهَ قرضًا حسنًا، وقدِّموا لأنفسكم نفعًا، (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ)[الْمُزَّمِّلِ: 20]، (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً)[الْبَقَرَةِ: 245].
ثم اعلموا أن الصومَ جُنَّةٌ، وكلُّ عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لله يجزي به، فمن استطاع منكم أن يصوم سِتًّا من شوال فإن ذلك من سُنَّةِ وفعلِ المصطفي -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ صَامَ رمضانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ"(رواه مسلم)؛ وذلك لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر، والستة بشهرين، وعدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا.
ولا بأسَ بصيامها متتابعةً أو متفرقةً، ما دامت في شوال، وهي بمنزلة السُّنَنِ الرواتبِ من فرائض الصلاة، تَجْبُرُ نقصَها.
عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ ما استطعتُم، واستمسِكوا بدينكم، وعَضُّوا على سُنَّةِ نبيِّكم، وأصلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ، وحافِظوا على وحدتكم وبلدكم، وكونوا يدًا على عدوكم، واسألوا الله أن يثبتكم ويوفقكم.
وبعدُ أيها المسلمون: فإن ما قام به المعتدون الآثمون من استهداف للمواطنين والمقيمين، وترويع للآمنين وسفك لدماء الأبرياء والأطفال والنساء، وانتهاك لحرمة المقدَّسات العظام، وبلدِ اللهِ الحرامِ، جرائم تستنكرها جميعُ الأديانِ، وتتنافي مع مبادئ الإسلام، ردَّ اللهُ كيدَهم في نحورهم، وجعَل بأسَهم بينَهم، وقطَع دابِرَهم.
اللهم احفظ هذه البلاد بحفظك، واكلأها برعايتك، اللهم مَنْ أراد بها سوءًا فَأَشْغِلْه بنفسه، ورُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه تدميرًا عليه يا سميعَ الدعاءِ، اللهم احفظها من شرِّ الأشرارِ، وكيدِ الفُجَّارِ، وشرِّ طوارقِ الليلِ والنهارِ، يا ربَّ العالمينَ.
اللهم اجعلها آمنةً مطمئنةً، وسائر بلاد المسلمين، اللهم وَفِّقْ وليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين بتوفيقك، وَأَيِّدْهُ بتأييدِكَ، اللهم وفقِّه ووليَّ عهده لِمَا تُحِبُّ وترضى، يا سميعَ الدعاءِ.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله: صَلُّوا وسَلِّمُوا على مَنْ أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنكَ حميد مجيد، وبارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنكَ حميد مجيد، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ.