العربية
المؤلف | محمد بن سليمان المهوس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - المنجيات |
فَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ تَفَقَّهَ فِي دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَعَلِمَ مَا يُعْلَمُ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَعَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهَؤُلاَءِ هُمُ الأَحْيَاءُ، وَوُجُودُهُمْ فِي الْمُجْتَمَعِ يُعَدُّ نِعْمَةً عَظِيمَةً، فَبِفَضْلِ اللهِ ثُمَّ بِهِمْ تُبْنَى الأَمْجَادُ، وَتُشَيَّدُ الْحَضَارَاتُ، وَتَسُودُ الشُّعُوبُ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: "إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا مِنْهَا، وَسَقَوْا، وَرَعَوْا، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ، وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ".
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ، يُشَبِّهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا بَعَثَهُ اللهُ بِهِ بِهَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ بِالْغَيْثِ -أَيِ: الْمَطَرِ- وَالنَّاسُ شَبَّهَهُمْ بِالأَرْضِ، فَإِذَا نَزَلَ الْمَطَرُ عَلَى الأَرْضِ؛ فَمِنْهَا أَرْضٌ تَقْبَلُ الْمَاءَ، وَتُنْبِتُ الْعُشْبَ الْكَثِيرَ الَّذِي يَنْتَفِعُ مِنْهُ النَّاسُ، وَمِنْهَا أَرْضٌ تُمْسِكُ الْمَاءَ فَقَطْ، فَيَنْتَفِعُ مِنْهُ النَّاسُ، وَمِنْهَا أَرْضٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلأً، لاَ تُفِيدُ وَلاَ تَسْتَفِيدُ، قِيعَانٌ كَمَا قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فَالنَّاسُ فِي دِينِ اللهِ وَمَا بُعِثَ بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لاَ يَخْرُجُونَ عَنْ إِطَارِ هَذَا التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ الْبَدِيعِ، فَكَمَا أَنَّ الْغَيْثَ يُحْيِي الْبَلَدَ الْمَيِّتَ فَكَذَا عُلُومُ الدِّينِ تُحْيِي الْقَلْبَ الْمَيِّتَ، وَقَدْ شَبَّهَ السَّامِعِينَ لَهُ بِالأَرْضِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي يَنْزِلُ بِهَا الْغَيْثُ، فَمِنْهُمُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الْمُعَلِّمُ الْمُتَّبِعُ لِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْمُلْتَزِمُ بِمَنْهَجِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الأَرْضِ الطَّيِّبَةِ شَرِبَتْ فَانْتَفَعَتْ فِي نَفْسِهَا وَأَنْبَتَتْ فَنَفَعَتْ غَيْرَهَا، وَمِنْهُمُ الْجَامِعُ لِلْعِلْمِ الْمُسْتَغْرِقُ لِزَمَانِهِ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِنَوَافِلِهِ أَوْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِيمَا جَمَعَ؛ لَكِنَّهُ أَدَّاهُ لِغَيْرِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الأَرْضِ الَّتِي يَسْتَقِرُّ فِيهَا الْمَاءُ فَيَنْتَفِعُ النَّاسُ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْمَعُ الْعِلْمَ فَلاَ يَحْفَظُهُ وَلاَ يَعْمَلُ بِهِ وَلاَ يَنْقُلُهُ لِغَيْرِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الأَرْضِ السَّبِخَةِ أَوِ الْمَلْسَاءِ الَّتِي لاَ تَقْبَلُ الْمَاءَ أَوْ تُفْسِدُهُ عَلَى غَيْرِهَا فَهِيَ أَرْدَى أَنْوَاعِ الأَرْضِ.
فَالنَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَبَّهَ مَا بَعَثَهُ اللهُ بِهِ إِلَيْنَا فِي هَذَا التَّشْبِيهِ؛ لِيُرَاجِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفْسَهُ، وَيُحَاسِبَهَا فِي مَجَالِ أَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ، وَلِيَتَدَارَكَ تَقْصِيرَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: "فَذلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ في دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ".
فَخَيْرُ النَّاسِ -عِبَادَ اللهِ- مَنْ تَفَقَّهَ فِي دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَعَلِمَ مَا يُعْلَمُ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَعَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهَؤُلاَءِ هُمُ الأَحْيَاءُ، وَوُجُودُهُمْ فِي الْمُجْتَمَعِ يُعَدُّ نِعْمَةً عَظِيمَةً، فَبِفَضْلِ اللهِ ثُمَّ بِهِمْ تُبْنَى الأَمْجَادُ، وَتُشَيَّدُ الْحَضَارَاتُ، وَتَسُودُ الشُّعُوبُ، وَتُبْنَى الْمَمَالِكُ، بَلْ لاَ يَسْتَطِيعُ الْمُسْلِمُ أَنْ يُحَقِّقَ الْعُبُودِيَّةَ الْخَالِصَةَ للهِ -تَعَالَى- عَلَى وَفْقِ شَرْعِهِ، فَضْلاً عَنْ أَنْ يَبْنِيَ نَفْسَهُ كَمَا أَرَادَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- أَوْ يُقَدِّمَ لِمُجْتَمَعِهِ خَيْرًا، أَوْ لأُمَّتِهِ عِزًّا وَمَجْدًا وَنَصْرًا – إِلاَّ بِالْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ، فَضْلاً عَنِ الْفَوْزِ وَالْفَلاَحِ وَالنَّجَاةِ وَالنَّجَاحِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[المجادلة:11]؛ فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاحْرِصُوا عَلَى أَنْ تَكُونُوا كَالأَرْضِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي تَحْمِلُ الْعِلْمَ وَتَنْفَعُ نَفْسَهَا وَغَيْرَهَا لِتَفُوزَ بِرِضَا رَبِّهَا.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الآيَاتِ وَالْحِكْمَةِ. أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى-، وَاحْذَرُوا الْجَهْلَ فِي الدِّينِ؛ فَهُوَ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ ضَعْفِ الإِيمَانِ: فَالْجَاهِلُ مُعَرَّضٌ لِلشُّبُهَاتِ الَّتِي تُزَعْزِعُ الإِيمَانَ وَتَنْقُصُهُ، وَالْجَاهِلُ يَرْتَكِبُ الْخُرَافَاتِ وَالْبِدَعَ الَّتِي تَهْدِمُ الدِّينَ وَتُقَوِّضُ أَرْكَانَ الْعَقِيدَةِ، وَالْجَهْلُ مَوْتٌ لِصَاحِبِهِ: فَالْجَاهِلُ مَيِّتُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا)[الأنعام:122].
فَأَهْلُ الْجَهْلِ هُمُ الصِّنْفُ الثَّالِثُ الَّذِينَ شَبَّهَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالأَرْضِ السَّبِخَةِ الَّتِي لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَهُمُ الَّذِينَ لاَ خَيْرَ فِيهِمْ، وَلاَ أَبْلَغَ فِي ذَمِّهِمْ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ"؛ فَهُمْ لَيْسَتْ لَهُمْ قُلُوبٌ حَافِظَةٌ، وَلاَ أَفْهَامٌ وَاعِيَةٌ، فَإِذَا سَمِعُوا الْعِلْمَ لاَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلاَ يَحْفَظُونَهُ لِنَفْعِ غَيْرِهِمْ.
فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ -عِبَادَ اللهِ- أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ وَخَاصَّةً عِنْدَ أَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ، وَيَنْظُرَ مَوْقِعَهُ وَأَيْنَ هُوَ مِنْ دِينِ اللهِ -سُبْحَانَهُ-.
أَسْأَلُ اللهَ لَكُمْ وَلَنَا الْعِلْمَ النَّافِعَ، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ الْخَالِصَ.
عَبَادَ اللهِ: صَلُّوا عَلَى نَبِيِّكُمْ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56]، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِم).