المجيد
كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | العقيدة - أركان الإيمان |
إن استحلال ما حرمه الله من أنواع السلوك والأفكار الظاهر حرمتها في الكتاب والسنة والمجمع عليها عند علماء المسلمين، يعد من أشد أنواع الكفر وأقبحها؛ لأنه تعد محض على خصائص الألوهية وصفات الربوبية؛ فالله تعالى...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ حَق تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُن إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا الناسُ اتقُوا رَبكُمُ الذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَث مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتقُوا اللهَ الذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِن اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
عباد الله: دين الله شرعٌ مُنزّل، ووحْي أوحاه الله إلى نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ أحل الله تعالى لعباده الحلال بفضله وحرم عليهم الحرام بحكمته، ولم يتركهم هملا؛ بل أكمل لهم دينهم وبين حلاله من حرامه، قال تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ)؛ وموقف المسلم من الحرام أن يعتقد بقلبه اعتقادا جازما أن الله تعالى هو الذي حرم هذا الشيء أو ذاك السلوك أو الفكر، ثم يجتنب الوقوع فيه قولا وعملاـ وسواء بأعمال القلب أو الجوارح.
أيها المسلمون: وإن من أعظم وأصدق حقائق الإيمان والاعتقاد في ديننا، أن تعتقد أيها المؤمن اعتقادا كاملا صادقا جازما أن صاحب الحق في التحليل والتحريم هو الله وحده ولا أحد غيره -سبحانه-، وأن الذي يضع للشيء صفة الحرمة ويجعله محرما على عباده هو خالقهم -سبحانه-، قال الله -سبحانه- في بيان تحريمه لأمور اختارها: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)[الأنعام:151].
ماذا يقول القرآن؟ (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)؛ فالذي يحرم مَنْ؟ إنه ربكم -سبحانه-، إنه سيدكم وخالقكم ومُربّيكم ورازقكم -سبحانه-، وهو وحده من يجعل الشيءَ والقولَ والاعتقادَ حراماً، لا أنا ولا أنت ولا أي مخلوق بلا إذن من الخالق.
وقال -سبحانه-: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[الأعراف: 33]؛ (قُلْ)، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- إنما يقول الوحي وإنما ينقل الوحي، والذي يأذن بالتحريم هو الله -سبحانه- وحده. فالنبي إنما يحرم ويحلل بإذن ووحي من الله، قال الله تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يوحى)[النجم:3-4].
أيها المؤمنون: المسلم قد يفعل الحرام وهو يعتقد حرمته، وأنه قد أخطأ بفعله؛ كمن يأكل الربا مع اعتقاده بحرمته، فهذا مرتكب لكبيرة ولكنه ما مازال مسلما، فارتكاب كبيرة الربا مع اعتقاد حرمتها لا يخرج من الملة، ولكن الآفة والطامّة عند أولئك الذين يتجرّأون على الحرام؛ فيعتقدونه حلالا، ويستحلّون فعله؛ كمن يستحلّ الربا، ويعتقد في باطنه أن الربا حلال؛ ولا شك أن هذا قد أقدم على موقف زلزل إيمانه وعقيدته من جذورها، فأيّ دين يبقى لمن يعتقد بأن الربا حلال، وأن الزنا حلال، وأن الشرك بالله حلال، وأن دم المسلم حلال، وأن السحر حلال، وأن لحم الخنزير حلال، أي دين يبقى له؛ ولكن الدين ما أحله الله وما حرمه الله.
ولا ريب أين هؤلاء الصنف؛ كما قال السعدي -رحمه الله- في تفسيره: "لا يؤمنون إيمانا صحيحا يصدقونه بأفعالهم وأعمالهم، ولا يحرمون ما حرم الله؛ فلا يتبعون شرعه في تحريم المحرمات، (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ )؛ أي: لا يدينون بالدين الصحيح وإن زعموا أنهم على دين؛ فإنه دين غير الحق".
عباد الله: لا بد لنا من أن نضع أولئك الذين يستحلون المحرمات في ميزان الوحي؛ فنقول لهم:
يا من تستحل ما حرّم الله: أنت تضادّ الله تعالى في حكمه -سبحانه- وأنت جعلت من نفسك ندّاً للخالق العظيم -سبحانه-؛ بل ورأيت نفسك أعدل وأرحم وأعلم من الله -سبحانه- فاستمع إلى كتاب ربك ماذا يقول: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)[البقرة:275]؛ قال ابن كثير في تفسيره: "وهذا اعتراض منهم على الشرع، أي: هذا مثل هذا، وقد أحل هذا وحرم هذا".
وقال القرطبي: "إن التحليل والتحريم إنما هو لله -عز وجل-؛ وليس لأحد أن يقول أو يصرح بهذا في عين من الأعيان؛ إلا أن يكون الباري تعالى يخبر بذلك عنه".
فيا من تستحل ما حرّم الله: استمع ماذا يقول الخالق العظيم -سبحانه-: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ)[يونس: 59]؛ يقول السعدي: "يقول تعالى منكرًا على المشركين، الذين ابتدعوا تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم، ومن المعلوم أن الله لم يأذن لهم، فعلم أنهم مفترون".
وفي الآية توبيخ للمستحل وكأنه يقوله له: يا من تستحلّ المحرمات تريد التوصل لشهواتك، تريد تحقيق مصالحك، تريد فعل المنكرات، باسم المباحات، باسم الدين، فلا ربك أذن لك، ولا الشرع وافقك، ولا الصدق كان حليفك؛ فلا يحق لأحد من الخلق أن يبيح للخلق ما حرمه الله؛ فإذا جعل الله شهادة الزور حراما ومنكرا عظيما، فلا يحق لأحد أن يجعل من شهادة الزور المحرمة موقفا حلالا باسم البطولة وباسم الدعم للأقارب وباسم مناصر ابن البلد وابن العشيرة، وباسم الاقتصاد. إن هذا كله افتراء عظيم على الله -تعالى-.
ويا من تستحل ما حرّم الله: اعلم أنك في ميزان القرآن صاحب طرح ظالم، وصاحب قلم كاذب؛ مهما حاولت تزويق أفكارك، وتحْلِية لغتك، وتجميل مبرراتك، فلا شيء يعلو على كلمة الله -سبحانه-، واستمع إلى كلام الله تعالى إذ يقول: (ولا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)[النحل: 117]؛ قال السعدي: "أي: لا تحرموا وتحللوا من تلقاء أنفسكم، كذبا وافتراء على الله وتقولا عليه".
ويا من تسْتحلّ ما حرّم الله: استمع إلى كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: (لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ (أي: فرج المرأة وهو الزنا) وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ)؛ جاء في فتح الباري: "قوله: يستحلون يعتقدون ذلك حلالا".
عباد الله: إن استحلال ما حرمه الله من أنواع السلوك والأفكار الظاهر حرمتها في الكتاب والسنة والمجمع عليها عند علماء المسلمين؛ ويعد من أشد أنواع الكفر وأقبحها؛ لأنه يعد من خصائص الألوهية وصفات الربوبية؛ فالله تعالى هو خالق الخلق وله الحق مطلقا في أن يحرم ما يشاء على خلقه، وهو -سبحانه- الإله المعبود فله الحق -سبحانه- في أن يُعبَدَ باجتناب الحرام، فكيف بهؤلاء الذين يدعون الإسلام ثم يحادّون الله في ربوبيته وألوهيته فيستحلّون ما حرّم الله.
ولقد أطبق علماء الأمة على تكفير هؤلاء وتقبيحه صنيعهم، فالمستحلّ لما حرّم الله كافر ولو لم يفعل ذلك؛ لأن الأمر متعلق باعتقاده أن الحرامَ حلالٌ.
قال الشربيني: "إن من حلّل محرماً بالإجماع كفر؛ كمن استحل الزنا واللواط والظلم وشرب الخمر".
وقال ابن قدامة: "من اعتقد حلّ شيء أجمع على تحريمه وظهر حكمه بين المسلمين وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر".
وقال سليمان بن عبد الله: "وأما استحلال المحرمات المجمع على حرمتها فهو كفر اعتقادي".
وقال القاضي عياض: "وقد أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل أو شرب الخمر أو الزنا مما حرم الله بعد علمه بتحريمه"، وقال ملا قاري: "من استحل حراماً وقد علم في دين النبي -صلى الله عليه وسلم- تحريمه كنكاح ذوي المحارم أو شرب الخمر أو أكل ميتة أو دم أو لحم خنزير من غير ضرورة فكافر".
فيا من تستحل ما حرّم الله: اعلم انك نَصّبت نفسك ربّاً على الناس، وماثلتَ الأحبار الذين جعلوا أنفسهم أربابا من دون الله، ألم تقرأ قول الله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)[التوبة:31]؛ وقد جاء في مسند أحمد؛ أنه لما تلاها -صلى الله عليه وسلم- على عدي بن حاتم قبل أن يسلم قال له عدي: إنهم لم يعبدوهم فقال: "بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام؛ فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم".
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
عباد الله: إن استحلال ما حرّم الله يعد من نواقض العقيدة القلبية؛ لأنه ليس مجرد فعل للمعصية؛ بل اعتقاد الحرام حلالا، وقد يقع في هذا الأمر الجلل بعض من انتسب إلى الإسلام، وفاخر بأنه من المسلمين مع أن الإسلام كما سبق هو الاستسلام والخضوع والانقياد، وأعظم الاستسلام يكون في الانقياد لشرع الله تعالى.
أيها المسلمون: لنحذر من دعوات هؤلاء المستحلين للمحرمات ولنسأل أهل العلم، ولنزنْ الأقوال والدعوات بميزان الحق -سبحانه- .
فيا من زيّن لكم الشيطان، وغرتكم عقولكم؛ فاستحللتم الحرام؛ أذكركم بحق العبودية وحق الطاعة لله وحق الاتباع لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، واعلموا أنّ الحلال يبقى حلالا والحرام حراما مهما حصل من خداع؛ فعودوا إلى الله، وتوبوا إليه.
اللهم اهدنا الصراط المستقيم، واجعلنا من عبادك المخلصين.
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).