المؤخر
كلمة (المؤخِّر) في اللغة اسم فاعل من التأخير، وهو نقيض التقديم،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | العقيدة - المنجيات |
للإعراض عن الله تعالى أسباب، منها: الاغترار بالدنيا وتوالي النعم: فطبع الجهلاء من البشر؛ ما أن يتفضل الله -تعالى- عليهم ويتكرم برزق من مال أو ولد أو صحة أو منصب... إلا ويظن العبد -واهمًا- أنه في غنى عن ربه! قال -تعالى- مصورًا هذا...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها العبد العاجز الضعيف: إن كل ذرة في كيانك لتفتقر إلى خالقها ورازقها وحافظها -سبحانه-؛ فكيف تُعرض عمن لا قوام لك إلا به! وليس لك عنه غنى عنه طرفة عين!.
إن الخلق مهما بلغوا من الغنى فهم فقراء إلى الله -تعالى-، قال ربنا -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[فاطر:15]، وأدركها نبي الله موسى فقال كما حكى الله عنه: (إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)[القصص:24].
عباد الله: ومع شدة حاجة الناس إلى خالقهم -جلا وعلا- إلا أننا نشاهد إعراضاً عن الله وآياته الشرعية والكونية، قال -سبحانه-: (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ)[الأنبياء: 42].
وللإعراض عن الله تعالى أسباب، منها:
الاغترار بالدنيا وتوالي النعم: فطبع الجهلاء من البشر؛ ما أن يتفضل الله -تعالى- عليهم برزق من مال أو ولد أو صحة أو منصب؛ إلا ويظن الواحد منهم -واهمًا- أنه في غنى عن ربه! قال -تعالى- مصورًا هذا الجهل: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)[العلق: 6-7]؛ أي: "يَتَجَاوَزُ حَدَّهُ وَيَسْتَكْبِرُ عَلَى رَبِّهِ حين يرى نَفْسَهُ غَنِيًّا"(تفسير البغوي).
وقال -تعالى-: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا)[الإسراء: 83]؛ فهو يعرف ربه في البلاء وينساه في الرخاء؛ اغتر بلعاعة زائلة من متاع الدنيا والتهى بها، فأنسته ذكر ربه -والعياذ بالله-!.
ومن ذلك -أيضا-: اكتساب العلم مع فساد السريرة؛ وهذا من عجيب أسباب الإعراض عن الله؛ فإن الأصل في العلم أن يقرِّب من الله لا أن يُبعِد عنه، وقد قصَّ علينا القرآن قصة أحد المعرضين عن الله لهذا السبب؛ كما قال الله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الأعراف: 175-176].
ومنها: خصلة سوء دفينة؛ كالبخل والشح ونقض العهد مع الله؛ كذاك الذي حكى الله لنا حكايته في قوله -سبحانه-: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)[الْتَّوْبَةَ: 75-77]؛ فكان بخله وشحه سببَ نقضه العهد مع ربه وإعراضه عنه -سبحانه-.
وكذا تقديم الهوى على الشرع: فيعرض أصحاب الهوى شرع الله على ما وافق أهواءهم؛ فإذا خالف الشرع هواهم أعرضوا عن الله وعن شرعه، واتبعوا الهوى!، قال -تعالى- مصورًا حالهم: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ)[النور: 48-50].
وصرَّح الله في آية أخرى أن هذا هو حال المنافقين؛ فقال -سبحانه-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا)[النساء: 60-61].
أيها المسلمون: من خلال معرفة أسباب الإعراض عن الله تعالى يتبين لنا أن الإعراض ليس نوعًا واحدًا، بل أنواعاً؛ فالأول: الإعراض عن الله بالقلب مع اللسان: وهذا حال الكافرين -والعياذ بالله-، قال -تعالى-: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)[النمل: 14].
النوع الثاني: الإعراض بالقلب فقط مع الإقبال باللسان، وهذا حال المنافقين -والعياذ بالله-، وقد فضحهم -عز وجل- قائلًا: (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)[آلعمران:167]، وقال -عز من قائل-: (الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ)[المائدة:41]، وزاد فضيحتهم حين قال: (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ)[التوبة: 8]
النوع الثالث: قبول بعض الشريعة، والإعراض عن بعضها إما جهلًا بأنه من الشريعة، أو تغليبًا لهوى النفس، أو تقليدًا للجهلاء، قال -سبحانه-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ)[آل عمران: 23]، ومن هذا حاله توعده الله بقوله: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[البقرة:85].
النوع الرابع: إعراض العبد عمن يُذكَّره بالله، وكراهية الاستماع إلى المواعظ، وحال هذا يشبه حال من قال الله تعالى عنهم: (وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)[الزمر: 45]، وقد شبَّه الله تعالى حال هؤلاء في القرآن بقوله سبحانه: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ)[المدثر: 49-51].
عباد الله: وإن الله تعالى رتب عن الإعراض عنه -سبحانه- عقوبات كثيرة، ومنها:
العقوبة الأولى: أن الإعراض عنه سبحانه سبب الهلاك؛ فما من أمة أهلكها الله إلا حين أعرضت عنه، وهذا نموذج ضربه الله بمملكة سبأ، فقال: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)[سبأ: 15-17]، وقد حذَّر الله -عز وجل- المعرضين عنه تحذيرًا مباشرًا فقال -سبحانه -: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ)[فصلت: 13].
العقوبة الثانية: إعراض الله عن المعرضين؛ فعن أبي واقد الليثي قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأما أحدهما: فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر: فجلس خلفهم، وأما الثالث: فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه"(متفق عليه)، فمن أعرض عن الله، أعرض الله عنه، ومن نسيه نسيه، كما قال -تعالى-: (نَسُوا اللَّهَ فنَسِيَهُمْ)[التوبة: 67].
العقوبة الثالثة: الخيبة والخسران وحمل الأوزار يوم القيامة، قال -تعالى-: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا)[طه: 99-101]؛ أي: حملاً ثقيلاً من الآثام.
العقوبة الرابعة: المعيشة الضنك في الدنيا، والعمى في الآخرة، قال -عز وجل-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا)[طه: 124-125]، لما كان المعرض عن الله في عمىً عن الله وآياته الشرعية وعبره الكونية؛ كان جزاءه من جنس عمله، قال -سبحانه-: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا)[الإسراء: 72].
وأما العقوبة الخامسة: توعد الله للمعرض بالانتقام ووصفه بالإجرام، يقول -سبحانه وتعالى-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ)[السجدة: 22].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: حري بمن علم عواقب الإعراض عن الله تعالى وشرعه أن يقبل على ربه سبحانه، وأن يكون مستجيبا له ومنقادا لأمره، كي ينجو من تلك العواقب وينال فضائل الاستجابة لأمر الله تعالى وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وللإقبال على الله تعالى والرجوع إليه وسائل عدة، من ذلك:
الوسيلة الأولى: معرفة الله وإدراك عظمته وكبريائه، واستغنائه عن خلقه؛ فإن كثيرًا من الناس لا يعرفون الله حق المعرفة، قال -تعالى-: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)[الزمر: 67].
فالله تعالى بيده الكون كله يصرِّفه كيف يشاء، ولولاه -سبحانه- لانهار توازنه وانفرط عقده، قال -تعالى-: (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحج: 65]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يطوي الله -عز وجل- السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟"(متفق عليه)؛ فمن عرف الله -عز وجل- حق المعرفة، أحبه وعظمه وتقرب إليه.
الوسيلة الثانية: إدراك ضعفنا وافتقارنا وحاجتنا إليه -سبحانه-؛ فمهما بلغنا من العلم فإنَّا جهلاء، ومهما بلغنا من الغنى فإنا فقراء، ومهما بلغنا من العقل فإنَّا حيارى إلا أن يهدينا الله بهدايته.
وأول ما يتراءى أمام أعيننا من ضعفنا هو أصل خلقتنا، قال الله -تعالى-: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ)[الطارق: 5-7]؛ فبداية الإنسان ضعفٌ ونهايته ضعف، روى أحمد في مسنده أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَصَقَ يَوْمًا فِي كَفِّهِ، فَوَضَعَ عَلَيْهَا أُصْبُعَهُ، ثُمَّ قَالَ: "قَالَ اللهُ: بَنِي آدَمَ، أَنَّى تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ، حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ، مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ، وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ قُلْتَ: أَتَصَدَّقُ، وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ"(حسنه الأرناؤوط).
فإذا أحسسنا بضعفنا وعوزنا، ومن قبلها أيقنا أن المعطي الكريم والقوي المتين هو الله وحده، لم نرتحل عن بابه أبدًا، ولم تلتفت قلوبنا عن الاستعانة به أبدًا، فمنه -عز وجل- جبر كسرنا وستر عيبنا وقضاء حوائجنا وسد فاقتنا وحاجتنا، ويلزم من ذلك أن نستجيب له وننقاد لأمره سبحانه، فنعمل بما أمر ونجتنب ما نهى.
اللهم ألهمنا رشدنا وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
وصلوا وسلموا على أمرتم بالصلاة والسلام عليه، كما أمركم الله تعالى بقوله فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].