الحليم
كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد - أسماء الله |
ومن دلالات اسم الله الباعث: أنه -سبحانه- باعث الرسل إلى الخلق، فلقد بعث الله الأنبياء والرسل؛ ليدلوا العباد على ربهم وخالقهم، وما هي واجباتهم تجاهه -سبحانه-، وأن يبنوا للناس من أحوال الآخرة ما لابد لهم من علمه، وأن يبلغوا عنه شرائع عامة تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1], (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنون: إن الله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه، وهذا هو الغاية المطلوبة منهم، قال ابن القيم -رحمه الله-: "مفتاح دعوة الرسل، وزبدة رسالتهم، معرفة المعبود بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ إذ على هذه المعرفة تبنى مطالب الرسالة كلها من أولها إلى آخرها"، فالاشتغال بمعرفة الله، اشتغال بما خلق له العبد، وتركه وتضييعه إهمال لما خلق له، وليس معنى الإيمان هو التلفظ به فقط دون معرفة الله؛ لأن حقيقة الإيمان بالله أن يعرف العبد ربه الذي يؤمن به، ويبذل جهده في معرفة أسمائه وصفاته، وبحسب معرفته بربه يزداد إيمانه.
وإن من أسماء الله التي ينبغي أن نتدبر معناها ودلالاتها وآثارها الإيمانية اسم الله "الباعث".
قال الليث: والبعث في كلام العرب على وجهين: أحدهما: الإرسال؛ كقول الله -تعالى-: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ)[الأعراف:103].
والبعث أيضاً الإحياء من الله للموتى، ومنه قوله -جل وعز-: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة: 56]، قال أبو هلال: بعث الخلق: اسم لإخراجهم من قبورهم إلى الموقف, ومنه قوله تعالى: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)[يس: 52].
ومما يدل على أن الباعث من أسماء الله، ما يلي:
أن الله باعث الخلق يوم القيامة: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)[الأنعام:36]، وقال -تعالى-: (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ)[الحج:7]، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاء العاص بن وائل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعظم حائل ففته بيده فقال يا محمد، يحيي الله هذا بعد ما أرم؟ قال: "نعم يبعث الله هذا ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم"، فنزلت الآيات من آخر يس (أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ...)[يس:77]"(قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين).
والإيمان بالبعث واجب لا يقبل الله إيمان عبد إلا به, وهو جزء من أحداث يوم القيامة الركن السادس من أركان الإيمان، المسمى باليوم الآخر، والمسمى بيوم القيامة، والمسمى بيوم البعث، وقد تعددت وتنوعت أسماؤه وأوصافه؛ لتنوع الأحداث التي تكون فيه, فهو اليوم الآخر لأن ما قبله سابق وهو الأخير.
وهو يوم القيامة لأن الناس جميعاً يقومون من قبورهم لرب العالمين, ويقومون في محشرهم لمجيء الرب -سبحانه- لفصل القضاء، وهو يوم البعث لأن الناس يبعثون فيه من قبورهم ويخرجون إلى محشرهم.
ثبتت حقيقة البعث في الكتاب والسنة وتتابعت نصوص الوحي بوجوب الإيمان به, فصار الإيمان به من الأمور المعلومة بالضرورة عند أهل الملة, وقد استفاضت نصوص الكتاب والسنة للتأكيد عليه والتكفير لمنكره، ولم تحظَ قضية في القرآن والسنة بالتدليل والتأكيد عليها مثل قضية البعث؛ فمن نصوص الكتاب العزيز قوله -تعالى-: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)[التغابن:7].
وعن أبى هريرة -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- بارزاً يوماً للناس فأتاه رجلُ فقال: ما الإيمان؟ قال: "الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وبلقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث"(البخاري).
معاشر المسلمين: إن الحياة الدنيا بدون الحياة الأخرى تكون عبثاً، وتعالى الله عن العبث؛ فالحكمة ظاهرة في تضاعيف هذا الكون وبنائه, وفي جميع خلايا الإنسان وأجهزته, وكل جزء في كيان الإنسان قد خلق لحكمة، فكيف تكون الحياة بأكملها عبثاً لا حكمة من ورائها؟ فلابد أن هناك حكمة، وإذا كانت لا تظهر في الدنيا فلابد من يوم آخر تظهر فيه، قال -تعالى-: (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)[القيامة:36-40]، لذلك كان الباعث -سبحانه- هو الله.
ومن العدل: أن يثاب المحسن ويعاقب المسيء، فإذا عرفنا أن عدل الإنسان يأبى التسوية بين الظالم والمظلوم والمطيع والعاصي، وعلمنا أن الله هو صاحب العدل المطلق والكمال الأعلى ورأينا موازين العدل لا تتحقق كاملة في الحياة الدنيا, جزمت العقول بأن الله سيقيم العدل الكامل في حياة أخرى؛ كما قال -سبحانه-: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)[الجاثية:21]، وقال -تعالى-: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)[القلم:35, 36]، وقال -تعالى-: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا)[الأنبياء:47]، لذلك كان الباعث -سبحانه- هو الله.
أيها المؤمنون: ومن دلالات اسم الله الباعث: أنه -سبحانه- باعث الرسل إلى الخلق؛ فلقد بعث الله الأنبياء والرسل؛ ليدلوا العباد على ربهم وخالقهم، وما هي واجباتهم تجاهه -سبحانه-، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لابد لهم من علمه، وأن يبلغوا عنه شرائع عامة تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)[النحل: 36], وقال -تعالى-: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)[يونس:74]، وقال -تعالى-: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ)[آل عمران:164].
ومن الدلالات كذلك: أنه يبعث عباده عند العجز يعينهم ويغيثهم؛ فالله -تعالى- يبعث الله جنوده من الجن والإنس والطير والرياح وغيرها، إما لمناصرة مظلوم أو قصم ظالم، أو كرامة لولي من أوليائه, قال -تعالى-: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا)[البقرة:274]، وقال -تعالى-: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ)[المائدة:31].
قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم, فاستغفروه..
الخطــبة الثانـية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: وإن لاسم الله "الباعث" آثاراً إيمانية تتجلى في حياة الفرد المسلم, من ذلك:
إذا تأدُّبِ العبد باسم الباعث أن يبعث نفسه بما يُرْضي ربَّه، فيحملها على ما يقربها من الله -تعالى-؛ لترقى النفس وتدنو من الكمال, وأن يجعل أعماله متوافقةً مع منهج ربَّه؛ فالعبد إذا سعى لمعرفة الله، وطاعته والإقبال عليه، والاستنارة بنوره، فقد بعث نفسه من الموت إلى الحياة، هذا من تخلُّق أخلاق العبد باسم الباعث.
ومن ذلك: اتباع الرسل والإيمان بهم ومناصرتهم؛ لأن الذي بعثهم هو الله، فتستقيم أعماله وسائر حياته.
ومن هذه الآثار: الطمأنينة بمعية الله وتوفيقه ونصره لعباده إذا هم استقاموا على أمره ونهيه.
ومن ذلك: الخوف من لقاء الله؛ لا على سبيل القنوط من رحمته -فرحمة الله واسعة-، ولكن على سبيل الإشفاق الذي وصف به أهل الجنة أنفسهم عند تزاورهم؛ كما قال الله: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ)[الطور:25-26]، والإشفاق هو: الحذر، فلربما استنفد المؤمن جزاء عمله بما أعطى من الدنيا مع أنه لا يسلم من الغفلة التي بها ينال منه الشيطان ما ينال؛ لذلك فإن المؤمن بالبعث يستحضر مشاعر الخوف دائما.
وقد كتب محمد بن النصر الحارثي إلى أخ له: "أما بعد: فإنك في دار تمهيد، وأمامك منزلان لابد من أن تسكن أحدهما، ولم يأتك أمان فتطمئن، ولا براءة فتقصر والسلام".
مثِّـل لنفسـِكَ أيُّها المغــرورُ | يـوم القيامةِ والسَّـمـاءُ تمـورُ |
قد كُوِّرت شَمسُ النَّهارِ وأُدنيَـت | حتي علـى رأس العبـادِ تفـُورُ |
وإذا الـجنـينُ بأُمِّـهِ مُتـعَلِّـقٌ | يخشى الحِسابَ وقلبـهُ مذعـُورُ |
هـذا بـلا ذنبِ يخـافُ لهـولِهِ | كيفَ المُقيمُ على الذُّنوبِ دُهُورُ؟! |
وإذا الـصـحائـف نشــرت | وتطايرت وتهتكت للعالمين ستـور |
وإذا الجـلـيل طـوي السـماء | بيمينه طي السجل كتابه المنشـور |
وإذا الجـحيم تسعـرت نـيرانها | ولها علي أهـل الذنـوب زفـير |
وإذا الجنـان تزخرفت وتطيـبت | لـفتي علي طول الـبلاء صـبور |
ومن ذلك: أنه إذا تحقق العبد وأيقن أن الله -سبحانه وتعالى- يبعث الناس بعد الموت ثم يجزيهم بالثواب والعقاب، فعندئذٍ يشغل وقته كلّه بطاعته، والتزود للدار الآخرةِ وتصفُّحِ أعماله, ومحاسبة نفسه حساباً دقيقاً.
كان مطرف بن عبد الله بن الشخير يقول: "يا إخوتي! اجتهدوا في العمل؛ فإن يكن الأمر كما نرجو من رحمة الله وعفوه كانت لنا درجات في الجنة، وإن يكن الأمر شديد كما نخاف ونحاذر لم نقل: ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل، نقول: قد عملنا فلم ينفعنا "، هذا هو حال أهل العزم والكياسة ممن وجلت قلوبهم فرقا من لقاء الله، وهم الموصوفون بقوله: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[المؤمنون:60-61].
أيها المسلمون: ليكن لنا حظ من اسم الله الباعث الذي يبعث الأمل والخير والاستنارة لمن عاش في ظلاله في الدنيا، والأمن والفوز في الآخرة.
هذا وصلوا وسلموا على أمرتم بالصلاة والسلام عليه، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].