العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | عدنان مصطفى خطاطبة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصيام |
كانت حاله -صلى الله عليه وسلم- على النقيض من أحوال بعض الصائمين في زماننا؛ حيث يصيبهم الفتور، ويلحق بهم التراجع، ويطوف بهم التكاسل منذ أن يحاذوا العشر الأوائل، مع أن سرّ العبادات يقول غير ذلك، يقول: إن المفروض بعبادات الصائم وقُرباته في الأيام الأوَل أن تشحنه وتدفعه وتقوي إيمانه وتزيد رغبته، فما أن يصل العشر الأواخر إلا وقد اشتاقت نفسه لمعانقة ليلة القدر، وقطف ثمار العشر الأواخر، وجمع بركاتها ..
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: "اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا".
أيها الصائمون والصائمات: قضت حكمة الله تعالى في ترتيب هذا الشهر الفضيل، وتقسيم أزمنته، أن يجعل في ثلثه الأخير، في خاتمته، ما يبعث على علوّ الهمة وتجديد الغدوة والروحة؛ نكاية بالشيطان الذي يقعد في طريق الصوّام، وبالنفس الأمارة التي تثبط القوّام، وبالمقابل محبة لعباده وإكرامًا لهم، فاختار الله الحكيم أن يُودِع الثلث الأخير من الشهر الفضيل العشرَ الأواخر، خلاصةَ رمضان وتاجَه، من الخير والأسرار والمنازل والفضائل ما يسر به عباده الصوّام، إذا ما هم اجتهدوا وجدوا وطلبوا ما فيها من البركات، إرضاءً لرب البريات -سبحانه وتعالى-.
أيها الصائمون والصائمات: لقد كان للعشر الأواخر من رمضان عند النبي -صلى الله علية وسلم- وأصحابه وقفة وهمة، ولهم فيها هدى وجِدّة، فقد كانوا أشد ما يكونون حرصًا فيها على الطاعة والعبادة والقيام والذكر والدعاء والتضرع وسائر القرب.
واعلموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما كان يحرص على العشر الأواخر كل هذا الحرص إلا لما يعلم من أمرها وشأنها وجلالة قدرها ما الله -عز وجل- وحده به عليم؛ تقول عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي تصف لنا حاله في الثلث الأخير من رمضان كما في صحيح مسلم: "كان رسول الله يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيرها".
وتأمّلوا جيدًا في كلامها، إنها تصف اجتهاده -صلى الله عليه وسلم- في العشر الأواخر مقارنة باجتهاده في العشر الأوائل، والثانية بأنه يفوقهما ويزيد عليهما، مع علمنا بعظيم طاعته وحرصه وتعبده في أوائل وأواسط رمضان، إلا أنه كان يزيد جهده ويضاعفه ويقويه في الأواخر؛ تقربًا لربه، وعبودية وطاعة له سبحانه، رجاء أن يظفر بالفضل والخير المودع فيها من قبل الله سبحانه.
ولذلك كانت حاله -صلى الله عليه وسلم- على النقيض من أحوال بعض الصائمين في زماننا؛ حيث يصيبهم الفتور، ويلحق بهم التراجع، ويطوف بهم التكاسل منذ أن يحاذوا العشر الأوائل، مع أن سرّ العبادات يقول غير ذلك، يقول: إن المفروض بعبادات الصائم وقُرباته في الأيام الأوَل أن تشحنه وتدفعه وتقوي إيمانه وتزيد رغبته، فما أن يصل العشر الأواخر إلا وقد اشتاقت نفسه لمعانقة ليلة القدر، وقطف ثمار العشر الأواخر، وجمع بركاتها.
فهذا ما نريده أيها الصوام القوام، الراغبون الراهبون، العابدون الحامدون، الجادّون المجتهدون، المقتفون لآثار نبيكم -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام.
أيها الصائمون والصائمات: تعالوا بنا ندخل إلى بيت رسولنا -صلى الله عليه وسلم- في العشر الأواخر، ندخله لنرى ليله وليل من حوله، تصف لنا ذلك زوجُه الكريمة عائشةُ -رضي الله عنها- فتقول –كما في الصحيحين-: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد مئزره". وزاد مسلم: "وجَدَّ وشد مئزره".
فقولها: "وشد مئزره": كناية عن الاستعداد للعبادة والاجتهاد فيها زيادة على المعتاد، ومعناه التشمير في العبادات. وقيل: هو كناية عن اعتزال النساء وترك الجماع.
وقولها: "أحيا الليل": أي استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها، والمراد أنه يحيي معظم الليل.
وقولها: "وأيقظ أهله" أي: أيقظ أزواجه للقيام، ومن المعلوم أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يوقظ أهله في سائر السنة، ولكن كان يوقظهم لقيام بعض الليل، ففي صحيح البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استيقظ ليلة فقال: "سبحان الله، ماذا أُنزل الليلة من الفتن؟! ماذا أُنزل من الخزائن؟! من يوقظ صواحب الحجرات؟! يا ربّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة". وفيه كذلك أنه كان -عليه السلام- يوقظ عائشة -رضي الله عنها- إذا أراد أن يوتر، لكن إيقاظه -صلى الله عليه وسلم- لأهله في العشر الأواخر من رمضان كان أبرز منه في سائر السنة.
فافعلوها -أيها الآباء الكرام- اقتداءً بنبيكم -صلى الله عليه وسلم-، ولن يكون اقتداؤكم به في إيقاظ زوجاتكم وأبناءكم وبناتكم إلا خيرًا لكم وبركة على أسرتكم وحياتكم، ونفعًا لآخرتكم، فهذا نبيكم وهذا ليله، وهؤلاء أهله في العشر الأواخر، فهل أنتم آخذون بطريقه وسالكين سبيله؟!
ومن فضائل العشر الأواخر: اختصاص الاعتكاف فيها في المساجد طاعة الله تعالى وقربة له سبحانه، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتكف في هذه العشر الأواخر من كل رمضان.
أيها الصائمون والصائمات: إن فعله -صلى الله عليه وسلم- هذا يدل على اهتمامه بطاعة ربّه، ومبادرته الأوقات، واغتنامه الأزمنة الفاضلة، فينبغي علينا جميعًا الجِدّ والاجتهاد في عبادة الله، وأن لا نضيّع ساعات هذه الأيام والليالي الفضيلة، فإننا لا ندري ماذا سيفعل بنا في قابل الأيام وما الذي سنحياه من الأزمان.
أيها الصائمون والصائمات: ومن فضائل هذه العشر الأواخر من رمضان وخصائصها ومزاياها أن فيها ليلة القدر، تلك الليلة المباركة التي وصفها الله تعالى في سورتين كريمتين: في سورة الدخان حيث قال سبحانه: (حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الدخان: 1-6]، وفي سورة القدر حيث قال سبحانه: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [سورة القدر]، فسماها الله تعالى ليلة القدر؛ وذلك لعظم قدرها وجلالة مكانتها عند الله، ولكثرة مغفرة الذنوب وستر العيوب فيها، فهي ليلة المغفرة، وقد خصها الله تعالى بخصائص وفضائل لا تجتمع لسواها:
ففيها أنزل القرآن العظيم، كلام رب العالمين.
وفيها تنزل الملائكة، والروح -وهو جبريل عليه السلام-، وقد خصَّه بالذكر لشرفه، فيكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها وعظيم قدرها.
وصفها الله سبحانه بأنها مباركة؛ فقال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) وذات قدر، فقال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ).
وصفها بأنها ليلة التقدير، فقال سبحانه: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)، "أي يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السَّنة، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وما يكون فيها إلى آخرها، كل أمر محكم لا يبدل ولا يغير". كما في تفسير ابن كثير. فيُكتَب فيها الأحياء والأموات، والناجون والهالكون، والسعداء والأشقياء، والعزيز والذليل، والجدب والقحط، وكل ما أراده الله تعالى في تلك السنة. "وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به وكتابته له، ولكن يُظهر للملائكة ما سيكون فيها، ويأمرهم بفعل ما هو وظيفتهم". كما في شرح صحيح مسلم للنووي.
أكرم الله تعالى من قامها إيمانًا واحتسابًا بمغفرة ما تقدم من ذنبه، كما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه". متفق عليه. وقوله: "إيمانًا واحتسابًا"، أي تصديقًا بوعد الله بالثواب عليه، وطلبًا للأجر لا لقصد آخر من رياء أو سمعة.
وصفها بمضاعفة الأجر فيها: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) تنويهًا بشأنها، وإظهارًا لعظمتها (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، أي إحْياؤها بالعبادة فيها خير من عبادة ثلاث وثمانين سنة، وهذا فضل عظيم لا يقدره قدره إلا رب العالمين -تبارك وتعالى-، وفي هذا ترغيب للمسلم وحث له على قيامها وابتغاء وجه الله بذلك، ولذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يلتمس هذه الليلة ويتحراها مسابقة منه إلى الخير، وهو القدوة للأمة، فقد تحرّى ليلة القدر.
وصفها بأنها سلام، أي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا أو يعمل فيها أذى كما قاله مجاهد، وتكثر فيها السلامة من العقاب والعذاب بما يقوم العبد من طاعة الله -عز وجل-.
علامتها البارزة والثابتة في الأحاديث هي ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبيّ بن كعب -رضي الله عنه- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن من علاماتها أن الشمس تطلع صبيحتها لا شُعاع لها". فهمتك همتك -أخي الصائم- في تحريها وتحصيل فضلها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المجتبى.
وبعد:
أيها الصائمون والصائمات: يستحب تحري ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان خاصة؛ جاء في صحيح مسلم من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وفيه أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي: إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ"، فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ، قَالَ: "وَإِنِّي أُرْيْتُهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ، وَإِنِّي أَسْجُدُ صَبِيحَتَهَا فِي طِينٍ وَمَاءٍ"، فَأَصْبَحَ مِنْ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَقَدْ قَامَ إِلَى الصُّبْحِ فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ، فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ، فَأَبْصَرْتُ الطِّينَ وَالْمَاءَ، فَخَرَجَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ وَجَبِينُهُ وَرَوْثَةُ أَنْفِهِ فِيهِمَا الطِّينُ وَالْمَاءُ، وَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِر.
وليلة القدر في العشر الأواخر كما في حديث عائشة وحديث ابن عمر في الصحيح، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان".
وفي أوتار العشر آكد؛ لحديث عائشة في البخاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر"، وفي الأوتار منها بالذات، أي ليالي: إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين.
وليلة القدر في السبع الأواخر أرجى، ولذلك جاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنه- قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه كما في الصحيحين: "أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر".
وهي في ليلة سبع وعشرين أرجى ما تكون، فقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث ابن عمر عند أحمد ومن حديث معاوية عند أبي داود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليلة القدر ليلة سبع وعشرين"، لكن كونها ليلة سبع وعشرين أمر غالب والله أعلم وليس دائمًا، ورجّح علماء السّنة أنها تتنقل في العشر الأواخر وليست في ليلة معينة.
وإنما أخفى الله تعالى هذه الليلة ليجتهد العباد في طلبها، ويجدّوا في العبادة، كما أخفى ساعة الجمعة وغيرها، فينبغي للمؤمن أن يجتهد في أيام وليالي هذه العشر طلبًا لليلة القدر، اقتداءً بنبينا -صلى الله عليه وسلم-، وأن يجتهد في الدعاء والتضرع إلى الله، وانظروا إلى المرأة العاقلة العالمة العابدة عائشة -رضي الله عنها-، ماذا كان همّها وماذا كان مبتغاها ورجاها وحاجتها؟! روى الإمام أحمد بسند صحيح عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت: يا رسول الله: أرأيت أن وافقت ليلة القدر ما أقول؟! قال: قولي: "اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني".
فالهمة الهمة في العشر الأواخر -أيها الصوام القوام-، واعلموا أنّ ما تفعلونه من خير إنّما هو لأنفسكم، وإنما هو اقتداء بالسنة، فمن جدّ واجتهد وعبد وتقرّب وجمع الأجر فأكثر إنما هو لنفسه، ومن منا لا يحب الخير لنفسه.
"اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا".
والحمد لله رب العالمين.