الرقيب
كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | محمود بن أحمد الدوسري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
أن يُحِبَّ لهم الخير، ويُحِبَّ لهم الهدايةَ والاستقامةَ والثباتَ على الحق، ويَكرَه لهم الكفرَ والفسوقَ والعصيان. ويَنصحهم ويُرشدهم للحق، ويُوجِّههم لمصالحهم، ويُعلِّمهم أمور دينهم ودنياهم، ويحمي أنفسَهم، ويَصون أعراضَهم، ويحفظ أموالَهم، ويرفع الأذى عنهم،
الخطبة الأولى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: النصيحة هي القيام بحقوق المنصوح له مع المحبة الصادقة، يُقال: نصحتُ القولَ لفلانٍ، أي: قصدتُ مصلحتَه ومنفعتَه، والنصيحة فريضة لازمة بين عموم المسلمين؛ لذا جاء الأمر بها في الشرع، وكأنها ركن من أركان الإسلام، كما في حديث تَمِيمٍ الدَّارِيِّ -رضي الله عنه-؛ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ". قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: "لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ"(رواه مسلم). فبيَّن الحديث أن النصيحة واجبة على المسلمين للمسلمين.
والنصيحة من خُلُق الأنبياء؛ لأنهم أنصَح الخَلق، وأبرُّهم وأنقاهم، قال الله تعالى عن نوح -عليه السلام- أنه قال لقومه: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ)[الأعراف:62]. وقال عن هود -عليه السلام-: (وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ)[الأعراف:68]. وكلمة النصيحة من الكلمات التي يرتاح إليها السمع، وتطمئن إليها النفس، وتميل إليها المشاعر النقيَّة؛ لأنها تهدف إلى الود والصلاح، وإلى ما ينفع الناس.
ونبينا الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- هو أعظم الخلق نُصحاً، وأكثرهم شفقة على أُمته، ونصحاً لهم، وخوفاً عليهم، وكان أصحابه -رضي الله عنهم- يُبايعونه على الصلاة والزكاة والنصيحة لكل مسلم، كما جاء في قول جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ: "بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ"(رواه البخاري ومسلم).
عباد الله: النصيحة من حقوق الأُخوَّة بين المسلمين، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ"(رواه مسلم)، وقال أيضاً: "إِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؛ فَلْيَنْصَحْ لَهُ"(رواه البخاري).
وجاء التحذير من ردِّ النصيحة وعدمِ قبولها؛ كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ أَبغَضَ الكَلاَمِ إِلى اللهِ؛ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: اتَّقِ اللهَ. فيقولُ: عَلَيْكَ نَفْسَكَ!" (رواه النسائي في "عمل اليوم والليلة"، والبيهقي في "الشعب").
وقال ابن مسعودٍ -رضي الله عنه-: "إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الذَّنْبِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ: اتَّقِ اللهَ، فَيَقُولَ: عَلَيْكَ نَفْسَكَ، أَنْتَ تَأْمُرُنِي؟"(رواه الطبراني في "الكبير" والبيهقي في "الشعب"). وبالنصيحة تُحيى شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في واقع الناس.
والنصيحة هي صفة الصالحين المُصلحين، قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "ما أدرك عندنا مَنْ أدرك بكثرةِ الصلاة والصيام، وإنما أدرك عندنا بسخاوةِ الأنفس، وسلامةِ الصدر، والنُّصح للأُمَّة".
أيها الإخوة الكرام: ومن أهمِّ مجالات النصيحة: كما بيَّنها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ".
1- فالنصيحة لله تعالى: هي عبادتُه وحدَه لا شريك له، قال الله -تعالى-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)[النساء:36]، ومن النصيحة لله: الإيمان بصفاته سبحانه التي وصف بها نفسَه أو وصفَه بها رسولُه، وإثباتها كلُّها لله إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهُه -تعالى- عمَّا لا يليق به تنزيهاً بلا تعطيل للصفات، وتفرُّده -سبحانه- بالخَلق والتدبير، (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[الأعراف:54]. ومن النصيحة لله: التقرُّب إليه بكلِّ فريضة ونافلة، ومجانبةُ محرَّماته، ومراقبته في السر والعلن، فمَنْ قام بهذه الحقوق فقد نصح لخالقه.
2- والنصيحة لكتاب الله: الإيمان بأنَّه كلامُ الله -تعالى-، والتَّصديق بما جاء فيه. وشِدَّةُ حُبِّه وتعظيمُ قدرِه. والعملُ بمُحكمِه، والتَّسليمُ لِمُتشابهه. وحِفْظُ حدودِه، والعملُ بما فيه. وشِدَّةُ الرَّغبةِ في فَهمِه وتدبُّرِه، وتلاوتِه، وتعلُّمِه وتعليمِه. والاعتبارُ بمواعِظه، والتَّخلُّقُ بأخلاقِه، والتأدُّبُ بآدابِه. وذَبُّ تحريفِ المُبطلين عنه.
3- والنصيحة للرسول -صلى الله عليه وسلم-: طاعة أمره، واجتناب نهيه، وتصديق أخباره، وعبادة الله بشرعه، ونُصرة سُنَّته والذبُّ عنها، والعنايةُ بهديه تعلُّماً وتعليماً، وبُغض مَنْ يكره سُنَّته، والاقتداء به ظاهراً وباطناً، ومحبَّته أكثر من النفس والمال والأهل والولد.
4- والنصيحة لأئمة المسلمين: بالدعاءِ لهم بالخير والصلاح والتوفيق، والتعاونِ معهم وشدِّ أزرِهم، والقيامِ معهم فيما يُصلح الأُمَّة ويرد عنها كيد الكائدين، وإذا وفَّقَ اللهُ الوُلاةَ للخير سَعِدَت الأُمَّة.
وما حصلت القلاقل والاضطرابُ وسفك الدماء والفتن وانتقاص الأرزاق إلاَّ لمَّا فُقِدت طاعةُ ولاةِ الأمر، ومَنْ أراد نُصحَهم فلتكن نصيحةً هادفة بِرِفْقٍ، يُقصد منها الخيرُ والإصلاح، لا الانتقام والشماتة.
5- والنصيحة لعامَّة المسلمين: أن يُحِبَّ لهم الخير، ويُحِبَّ لهم الهدايةَ والاستقامةَ والثباتَ على الحق، ويَكرَه لهم الكفرَ والفسوقَ والعصيان. ويَنصحهم ويُرشدهم للحق، ويُوجِّههم لمصالحهم، ويُعلِّمهم أمور دينهم ودنياهم، ويحمي أنفسَهم، ويَصون أعراضَهم، ويحفظ أموالَهم، ويرفع الأذى عنهم، ولْنتأملْ كيف بَذَلَ مؤمِنُ آلِ فرعون النصيحةَ لموسى -عليه السلام- قال الله -تعالى-: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ)[القصص:20].
أيها المسلمون: ومن أهم آداب النصيحة:
1- أنْ تكون النصيحةُ خفية: لأن النصيحة في الملأ تقريع، وربما لا تُجدي في المنصوح، وفي الأبيات المشهورة للإمام الشافعي -رحمه الله-:
تعهَّدني بنصحك في انفرادي | وجنِّبني النَّصيحة في الجماعه |
فإنَّ النُّصح بين النَّاس نوع | من التَّوبيخ لا أرضى استماعه |
فإنْ خالفتني وعصيتَ قولي | فلا تغضب إذا لم تُعـط طاعه |
2- النصيحة باللين: النصيحة لا تُؤثِّر إلاَّ إذا كان الناصح صادقاً في نصيحته، مخلصاً لله في نُصحِه؛ فإنَّ الغِلظة والجفاء ربما تُنفِّر منك المنصوحَ، فلا يقبل نصيحتك، قال الله -تعالى-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[آل عمران:159]، ويشهد له: حديثُ معاويةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَمي -رضي الله عنه- حيث قال: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ.. ثم ذَكَرَ نصيحةَ النبيِّ له -بعد الصلاة-، فقال: مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلاَ ضَرَبَنِي وَلاَ شَتَمَنِي، قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ"(رواه مسلم).
3- أن تكون النصيحة للإصلاح: لا للتعيير والشماتة بالناس، والفرح بعيوبهم، فالفرح بنقصهم خُلُق ذميم.
4- الصبر على النصيحة: فينبغي للناصح أن يُصابِر ويُجاهد نفسَه على تحمُّل أعباءِ النصيحة، وما قد يناله من صُور الشماتة والعناد والاستكبار.
5- الصدق والإخلاص في النُّصح: يجب أن يكون الباعث على النصيحة الإخلاص لله -تعالى-، ثم لأخيك المسلم، وليست للرياء والسمعة، والافتخار والترفع على الناس.
6- العلم بما يَنصح: فلا بد أن يكون الناصح عالماً بما ينصح، وإلاَّ كان ما يُفسِد أعظم مما يُصلح بسبب جهل الناصح.
7- اختيار الأسلوب المناسب للنصح: وكذا الوسائل المناسبة التي يُرجى معها استجابة المنصوح.
8- الاقتصاد في النصيحة: فالنصيحة لا تكون بإسهاب، ولا تُكرر كثيراً فتؤدي إلى مَلَل المنصوح، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: "أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ؛ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَخَوَّلُنَا بِهَا، مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا"(رواه البخاري).
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
عباد الله: وإن من أهم أخطاء بعض الناصحين:
1- الإعلان بالنُّصح: بحيث تُصبح النصيحةُ فضيحة، والتذكيرُ تشهيراً، قال ابن رجب -رحمه الله-: "اعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَ الإِنْسَانِ بِمَا يَكْرَهُ، إنَّمَا يَكُونُ مُحَرَّمًا؛ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مُجَرَّدَ الذَّمِّ وَالْعَيْبِ وَالتَّنْقِيصِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ خَاصَّةٌ لِبَعْضِهِمْ؛ وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَحْصِيلَ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ؛ فَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ".
فإذا كان المقصود هو تبيين الحق؛ فهذا داخل في النصيحة، وإذا كان المقصود هو تنقُّص القائل وتبيين جهله وقصوره في العلم؛ فهذا محرم، سواء كان ذلك بحضوره أو غَيبته، وسواء أكان في حياته أم بعد موته.
2- التشدُّق والتكلُّف: فبعضهم يتشدَّق ويتكلَّف في الكلام عند أداء النصيحة، وهو أمرٌ قد يمحق بركة الموعظة أو النصيحة، وإنْ كانت قيِّمة أو مُؤثِّرة، وما أحسن التبسط في الكلام، والبعد عن التكلف والتقعُّر فيه.
وكفى بالتكلُّف مذمَّة أن الله -تعالى- نهى عنه، قال -سبحانه- لنبيه الكريم -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ)[ص:86]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ" قَالَهَا ثَلاَثًا.(رواه مسلم).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْبَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ، الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ؛ كَمَا تَتَخَلَّلُ الْبَقَرَةُ"(رواه الترمذي).
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ"(رواه الترمذي).
قال النووي -رحمه الله-: "الثَّرْثَارُ: هُوَ كَثِيرُ الكَلاَمِ تَكَلُّفاً. وَالمُتَشَدِّقُ: المُتَطَاوِلُ عَلَى النَّاسِ بِكَلاَمِهِ، وَيَتَكَلَّمُ بِمَلءِ فِيهِ؛ تَفَاصُحاً وَتَعْظِيماً لِكَلامِهِ. وَالمُتَفَيْهِقُ: أصلُهُ مِنَ الفَهْقِ وَهُوَ الامْتِلاَءُ، وَهُوَ الَّذِي يَمْلأُ فَمَهُ بِالكَلاَمِ وَيَتَوَسَّعُ فِيهِ، ويُغْرِبُ بِهِ تَكَبُّراً وَارْتِفَاعاً، وَإظْهَاراً للفَضيلَةِ عَلَى غَيْرِهِ".
وصلوا وسلموا...