الظاهر
هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...
العربية
المؤلف | سعود بن ابراهيم الشريم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحج |
حُجَّاجَ بيتِ اللهِ الحرامِ: اللهَ اللهَ في إقامةِ حقِّ مجاورةِ بيتِ اللهِ الحرامِ؛ من التأدُّب والرفق والسَّكِينة والإخبات؛ فإنكم ما قطعتُم المفاوزَ لِتُفَرِّطوا، ولا شددتُم الرحالَ لِتُذْنِبُوا؛ فإنكم في بيت حرام، وبلد حرام، وشهر حرام فَأَرُوا اللهَ من أنفسكم عبودية حقة، وطاعة محضة، واعزموا معاقدَ الوصول إلى الإخلاص والاتباع لتفوزوا بالقبول...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جَعَلَ مواسمَ الخيرات لنا مربحًا ومغنمًا، وأوقات البركات والرحمات لنا إلى رحمته طريقًا وسُلَّمًا، يعلم ما يلِج في الأرض، وما يخرج منها وما يعرج في السما، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، إلهًا أحَدًا صَمَدًا معظَّمًا، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وخليله وخيرته من خَلْقه، أخرَج به أمةَ الإسلام من دياجير الضلالة والعمى، أَحْسَنَ خَلْقَه فسَمَا، وطوَّق جنابَ توحيد ربه بالحِمَى، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامينِ، ومن تَبِعَهم بإحسان ما لَبَّى ملبٍّ وما حاجٌّ رمى، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فيا حجاجَ بيت الله الحرم، أوصيكم ونفسي بوصية الله للأولين والآخرين، فاتقوا الله وأطيعوه؛ فإنَّ بالتقوى المعتَصَم، والنور المضيء وسط الظُّلَم، فما اتقى اللهَ امرؤٌ فَنَدِمَ، وما هجَرَها امرؤٌ فَسَعِدَ، (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[يُوسُفَ: 90].
حُجَّاجَ بيتِ اللهِ الحرامِ: إنَّكم قد وفدتُم إلى بيت عظيم كريم، قطعتُم المفاوزَ والفيافيَ والقفارَ، ترجون ثوابَه، وتخشون عقابَه، فأَرُوه من أنفسكم نُسُكًا خالصا، لا يشوبُه رياءٌ ولا سمعةٌ، ولا يَشركه فيه أحدٌ مِنْ خَلْقِه، فإنه ما شَرَعَ لأُمَّتِه حجَّ بيته الحرام إلا لإقرار التوحيد، وإبطال التنديد، فإنه واحد لا شريك له، ومعبود لا ندَّ له، وإن أعظم مقصد من مقاصد الحج تحقيق التوحيد لله دون سواه، فما اختلافُ الألسن والأنساب والألوان والانتماءات التي تدخُل في نُسُك الحج والعمرة إلا شعار للتوجُّه إلى رب واحد لا شريك له، ومعبود واحد، لا معبود سواه.
وإنه لم يَلْهَجِ الحُجَّاجُ بِنُسُكٍ ولا ذِكْر أفضل ولا أعظم من التلبية بالتوحيد: لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شريك لك لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شريكَ لكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الحمد والنعمة لكَ والملك، لا شريكَ لكَ.
إنها تلبية قاضية على كل هُتَاف لا يمتُّ للتوحيد بِصِلَةٍ، فلا هتافَ لقومية ولا لِعِبِّيَّة ولا لفخر ولا لجماعة؛ إنه هُتاف واحد، إنه هتاف توحيد وإجلال وإقرار بالمنعِم نعمة الإسلام والتوحيد، وحمده على هذه النعمة، ففي التلبية تجريد التوحيد لله، وقَصْر شواغل القلب على النُّسُك وتوابعه دون مزاحمته، بما ليس منه من شعارات جاهلية أو عصبية أو سياسية، تخرج بالنُّسُك عن مساره، وتقتل روحانيته.
إن نبينا -صلى الله عليه وسلم- حينما حجَّ حجةَ الوداع أراد أن يرسِّخ في أذهان أُمَّتِه صيغةَ التلبيةِ، وما تحمله من معاني الإخبات وتحقيق العبودية لخالقهم، وليقضيَ بذلك على موروثات الجاهلية الأولى؛ بما تحمله من صُوَر التذلُّل لغير الله، فاستبدل التلبيةَ الشرعيةَ بتلبية الجاهلية بمختلف صِيَغِها وأشكالها؛ حيث كان لكلِّ قبيلةٍ تلبيةٌ تَخُصُّها، فقد كان للعُزَّى تلبية، ولِلَّات تلبية، ولإساف تلبية ولمناة تلبية، ولذي الخلصة تلبية، وقد كان لقبيلة عكّ تلبية مشهورة، حيث كانوا يحجون كلَّ عام، فيُرسلون عبدينِ أسودينِ يطوفانِ ويُنْشِدَانِ: "نَحْنُ غُرَابَا عَكٍّ" فيردِّد الناسُ من ورائهما: "عَكٌّ إِلَيْكَ عَانِيَة، رِجَالُها اليَمَانِيَة كيما تحجَّ الثانية"، فأبطَل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- كلَّ تلبيات الجاهلية لتبقى تلبيةُ التوحيد مدويةً على مر عصور الإسلام إلى أن يرث اللهُ الأرضَ وَمَنْ عليها، فهي صبغة الله، (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 138].
ومن باب تأكيد النبي -صلى الله عليه وسلم- على شعيرة التوحيد هذه سَنَّ رفعَ الأصوات بها، لتطمسَ تلبيةُ التوحيدِ تلبيةَ المشركين كما جاء عند (مسلم في صحيحه) أن المشركين كانوا يُلَبُّونَ ويقولون في تلبيتهم: "لَبَّيْكَ لا شريكَ لكَ، إلا شريكًا تملكه وما مَلَكَ" تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرا، إنها تلبية مليئة بالضلال والشرك، ومدعاة للاستخفاف بعقول مُرَدِّديها، مع أنهم ذوو دهاء وفطنة راجحة، لكن الهداية نور من الله وتوفيق، فكم مِنْ ذَكِيٍّ حُرِمَ إياها، وكم من بليد لَامَسَتْ شغافَ قلبه، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أعقل الناس، وأدهى الناس، وأحكم الناس، لم يكن يدري ما الكتاب ولا الإيمان لولا هداية الله له كما قال عنه ربه: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا)[الشُّورَى: 52]، فالتلبية بالتوحيد هدايةٌ من الله لأمة الإسلام، وقد سُئِلَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أيُّ الحجِّ أفضلُ؟ فقال: العَجُّ والثَّجُّ" (رواه الترمذي).
قال أهل العلم: "العَجُّ رفعُ الصوتِ بالتلبية، والثَّجُّ: إسالة الدماء بالذبح والنحر"، وكلاهما نُسُكَانِ يؤصلانِ التوحيدَ الخالصَ في أفئدة حُجَّاج بيت الله الحرام، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِنْ مسلمٍ يلبِّي إلا لبَّى ما عن يمينه أو عن شماله، مِنْ حَجَرٍ أو شجرٍ أو مَدَرٍ، حتى تنقطعَ الأرضُ من هاهنا وهاهنا" (رواه الترمذي).
إنها تلبية تتضمَّن الخضوعَ والذُّلَّ لله وحدَه دون سواه؛ أي: أنا مُلَبٍّ بين يديكَ، خضوعًا بعدَ خضوع، وذلًّا بعد ذُلٍّ، إن الحمد والنعمة لكَ والملك، فإن مَنْ مَلَكَ فقد أَنْعَمَ، ومن أنعم فقد استحقَّ الحمدَ، ولَمَّا كانت هذه لله فإنَّ لَازِمَها الاختصاص بها والاستغراق دون سواه، ليشمل جميعَ أنواع المحامد بلا استثناء، والحمدُ أعمُّ من الشكر، فكان هو المقدَّم هنا؛ لأن الحمد يكون في مقابِل النعمة وبدونها، بخلاف الشكر؛ فإنه لا يكون إلا في مقابل النعمة، والمسلِم متعبَّد بأن يحمد اللهَ على بلائه، كما أنه يحمده على نعمائه، فلا مُلْكَ أعظم من مُلْكِه، ولا نعمةَ أعظمُ من نعمته، ولا حمدَ مستغرِقًا إلا لَهُ وحدَه لا شريكَ له، وبمثل هذا النُّسُك تصقَل النفوسُ المؤمنةُ من خلال توثيق الصلة بالله في الحج، وتجديد الولاء له بالتوحيد في صيغة التلبية وفي صيغة التهليل، "لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كل شيء قدير" وفي صيغة التكبير: "الله أكبر الله الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد"، عند الإحرام وفي عرفة وعند رمي الجمار، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الْحَجِّ: 32].
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات، من كل ذنب وخطيئة، فاستغفِرُوه وتوبوا إليه، إن ربي كان غفورًا رحيمًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، الداعي إلى رضوانه.
وبعدُ: فإن أصدقَ الحديثِ كلامُ اللهِ، وخيرَ الهديِ هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يدَ اللهِ على الجماعة، وَمَنْ شذَّ عنهم شذَّ في النار: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[النِّسَاءِ: 115].
حُجَّاجَ بيتِ اللهِ الحرامِ: اللهَ اللهَ في إقامةِ حقِّ مجاورةِ بيتِ اللهِ الحرامِ؛ من التأدُّب والرفق والسَّكِينة والإخبات؛ فإنكم ما قطعتُم المفاوزَ لِتُفَرِّطوا، ولا شددتُم الرحالَ لِتُذْنِبُوا؛ فإنكم في بيت حرام، وبلد حرام، وشهر حرام فَأَرُوا اللهَ من أنفسكم عبودية حقة، وطاعة محضة، واعزموا معاقدَ الوصول إلى الإخلاص والاتباع لتفوزوا بالقبول، فإن طاعة بلا اتباع هباء، واتباعًا بلا إخلاص سُدًى، وليس أمامَكم إلا تحقيقُ ما قاله الله -جل شأنه-: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[هُودٍ: 7]؛ أي: أخلصه وأصوبه.
هذا وصَلُّوا -رحمكم الله- على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمَرَكم اللهُ بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته الْمُسَبِّحة بقُدْسِه، وأيَّهَ بكم -أيها المؤمنون- فقال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِكَ ورسولِكَ محمد، صاحبِ الوجهِ الأنورِ والجبينِ الأزهرِ وارضَ اللهمَّ عن خلفائه الأربع: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وعن سائر صحابة نبيِّكَ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معَهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واخْذُلِ الشركَ والمشركينَ، اللهم انصر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّكَ وعبادَكَ المؤمنين، اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، اللهم فرِّج همَّ المهمومينَ من المسلمين، ونفِّسْ كربَ المكروبينَ، واقضِ الدَّيْنَ عن المدينينَ، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، وسلِّم الحُجَّاجَ والمسافرينَ، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتَنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتَنا فيمن خافَكَ واتقاكَ واتبع رضاكَ يا ربَّ العالمينَ، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لِمَا تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانتَه يا ذال الجلال والإكرام، اللهم وفِّقْه وولي عهده لِمَا فيه صلاح البلاد والعباد، اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكها أنت خيرُ مَنْ زكَّاها، أنتَ وَلِيُّها ومولاها، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنكَ سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعواتِ، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ.