المتعالي
كلمة المتعالي في اللغة اسم فاعل من الفعل (تعالى)، واسم الله...
العربية
المؤلف | عبدالباري بن عواض الثبيتي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات |
ومن الأعمال الصالحة في هذه العشر تلاوة القرآن، وذكر الله والدعاء، وصلة الأرحام، وقضاء حوائج المسلمين وزيارة المرضى واتباع الجنازة، وإطعام الطعام، وسائر الأعمال، والإكثار من التهليل والتكبير والتحميد في كل الأوقات على جميع الأحوال...
الخطبة الأولى:
الحمد لله القائل: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الْفَجْرِ: 1-2]، أحمده -سبحانه- وأشكره، في السِّرِّ والجَهْر، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الخَلْق والأمر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، حثَّ على شهود صلاة الفجر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، صلاة دائمة إلى يوم النشر.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
جعَل اللهُ في أيام الحياة مواسمَ خيرات وفرصًا للتزوُّد من الطاعات، يرتقي بها المسلمُ أعلى الدرجات، ويفوز برحمة من الله وفضل، وذلك لحِكَم بليغة، ومسالِكَ تربويةٍ ساميةٍ، وأجلُّها أن يبقى العبدُ قويَّ الصلة بربه، هذه المواسم تزيد الإيمانَ، وتنمِّي التقوى، وترفع رصيدك في ميزان العمل الصالح، تزكي الروحَ، تهذِّب النَّفْسَ، تقوِّي الهمةَ، وتعوِّض النقصَ والخَلَلَ في العبادة، وتدفع السآمة والملل والفتور، وتفتح آفاقا رحبة في ميدان التنافُس، قال تعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)[الْمُطَفِّفِينَ: 26]، والمسابَقة إلى الخيرات ورفيع الدرجات سمة المؤمنين المقرَّبين، قال الله -تعالى-: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)[الْوَاقِعَةِ: 10-11]، ومن اغتنم مواسمَ الطاعات وسابَق إلى الخيرات فُتحت له خزائن الفضل والعون والرحمة، وفاز فوزا عظيما، قال الله -تعالى-: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 73].
ولقد أمَر اللهُ عبادَه بفعل الخيرات والمسارَعة إليها، ومدح أصحاب هذه الخصال، قال تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[الْبَقَرَةِ: 148]، هذا توجيه لِهِمَم أُولي الألبابِ للمبادَرة والمسارَعة إلى الصالحات قبل الفوات، وبشَّر اللهُ المسابقينَ بالسبق المحقَّق والفوز بوعد الله الحق، قال تعالى: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[الْمُؤْمِنَونَ: 61]، وإن الرجل إذا حضرت له فرصة القربة والطاعة فالحزم كل الحزم في انتهازها، والمبادَرة إليها، والعجز في تأخيرها والتسويف، أمَّا المتأنِّي والمتأخِّر فلا حظَّ له في ميدان السباق، وإذا فاتَه الفضلُ في الخير فيَعَضُّ أصابعَ الندم، ولاتَ حين مندم، حثَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على اغتنام الشباب قبل نزول الشيب والهرم، واغتنام الفراغ قبل حلول المشاغل، واغتنام الصحة قبل مفاجأة المرض، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْحَشْرِ: 18]، بيَّن سبحانه أن الاستعداد لمواسم الخير التي هي فُرَص عابرة دليل على الصدق، قال تعالى: (فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)[مُحَمَّدٍ: 21]، لهذه الأمة نفحات في أيام دهرها، يقول أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "اطلبوا الخيرَ دهرَكم كلَّه، وتعرَّضُوا لنفحات رحمة الله -تعالى- فإن لله -عز وجل- نفحات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده".
مواسم الخير لا تنقطع في الأمة الإسلامية، وها هي تُقبل علينا بأفضلها وأعظمها، أقسَم اللهُ بها لمكانتها وعظيم فضلها، والعظيم لا يُقسِم إلا بالعظيم، قال تعالى: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الْفَجْرِ: 1-2]، شَهِدَ لها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بأنها أفضل أيام الدنيا فقال: "أفضلُ أيامِ الدنيا العشرُ -يعني عشر ذي الحجة- قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجلٌ عُفِّرَ وَجْهُهُ بالترابِ".
فيها يوم عرفة، يوم الحج الأكبر، يوم مغفرة الذنوب، وفيها يوم النحر، وهو أفضل الأيام عند الله، والسبب في امتياز عشر ذي الحجة اجتماع أُمَّهات العبادة فيها، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتَّى ذلك في غيرها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله -عز وجل- من هذه الأيام -يعني أيام العشر- قالوا: يا رسولَ اللهِ، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلًا خرَج بنفسِه ومالِه ثم لم يرجع من ذلك بشيء". فكلُّ عملٍ صالحٍ يقع في أيام عشر ذي الحجة أحب إلى الله -تعالى- من نفسه إذا وقَع في غيرها، وإذا كان أحب فهو أفضل، والعامل في هذه العشر أفضل من المجاهِد في سبيل الله الذي رجَع بنفسه وماله.
تستقبل هذه العشر بالتوبة الصادقة والعزم على اغتنامها، والبعد عن المعاصي قال الله -تعالى-: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النُّورِ: 31]، هذه العشرُ موسمٌ عظيمٌ، ونعمةٌ كبرى، وفرصةٌ يجب اغتنامها، وأن يخصها المسلمُ بمزيد عبادة، ويجاهِد نفسَه فيها، ويُكثر من أوجه الخير وأعمال الطاعة، قال صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فَأَكْثِرُوا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد".
ومن الأعمال الإكثار من صلاة النوافل، قال صلى الله عليه وسلم: "عليكَ بكثرة السجود لله، فإنَّكَ لا تَسجد لله سجدةً إلا رَفَعَكَ اللهُ بها درجةً وحطَّ عنكَ بها خطيئةً".
ومن الأعمال الإكثار من الصدقات؛ تقربًا إلى الله وابتغاء مرضاته بالعطاء والإحسان، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "على كلِّ مسلمٍ صدقةٌ، فقالوا: يا نبيَّ اللهِ، فمَن لم يجد؟ قال: يعمل بيدِه فينفع نفسَه ويتصدَّق، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يُعين ذا الحاجة الملهوف، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فليعمل بالمعروف وليُمْسِكْ عن الشرِّ فإنها له صدقةٌ".
ومن الأعمال الصالحة: قيام الليل، قيام العباد مستغفرينَ ذاكرينَ، قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا)[الْفُرْقَانِ: 64].
ومن الأعمال الصالحة في هذه العشر تلاوة القرآن، وذكر الله والدعاء، وصلة الأرحام، وقضاء حوائج المسلمين وزيارة المرضى واتباع الجنازة، وإطعام الطعام، وسائر الأعمال، والإكثار من التهليل والتكبير والتحميد في كل الأوقات على جميع الأحوال.
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
ومن الأعمال في هذه العشر الصيام، صيام التسع الأُولَى من شهر ذي الحجة، وآكَدُها يوم عرفة لغير الحاج، والصيام من أفضل الأعمال، وقد اصطفاه اللهُ -تبارَك وتعالى- لنفسه، كما في الحديث القدسي: "كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلَّا الصيامُ، فإنه لي وأنا أجزي به" وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم تسعَ ذي الحجة، قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صام يومًا في سبيل الله بَعَّدَ اللهُ وجهَه عن النار سبعينَ خريفًا"، ومن عرَف ما يطلُب هانَ عليه ما يبذُل، وسلعةُ اللهِ غاليةٌ؛ ألَا إنَّ سلعة الله الجنة، قال الله -تعالى-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 133].
ألَا وصلُّوا -عبادَ اللهِ- على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته، كما صليتَ على آل إبراهيم، وبارِكْ على محمد وأزواجه وذريته كما باركتَ على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الآل والصحب الكرام، وعنا معهم بعفوكَ وكرمكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، وَدَمِّرِ اللهمَّ أعداءَكَ أعداءَ الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم مَنْ أرادنا وأرادَ بلادَ المسلمين، وأراد الإسلامَ والمسلمينَ بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيرَه تدميرَه يا سميعَ الدعاءِ، اللهم إنا نسألك الجنةَ وما قرَّب إليها من قول وعمل، ونعوذ بكَ من النار وما قرَّب إليها من قول أو عمل.
اللهم إنَّا نسألكَ من الخير كله عاجله وآجله، ما عَلِمْنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بكَ من الشر كلِّه عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم أصلح لنا دينَنا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر، يا ربَّ العالمينَ، اللهم إنَّا نسألُكَ فواتحَ الخيرِ وخواتمَه وجوامِعَه، وأوَّلَه وآخِرَه، وظاهِرَه وباطِنَه، ونسألُكَ الدرجاتِ العلا من الجنة يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا لِمَا تحب وترضى، اللهم وَفِّقْهُ لهداكَ واجعل عملَه في رضاكَ، ووفق وليَّ عهده لكل خير يا رب العالمين، اللهم وفق القائمين على شئون الحج يا رب العالمين، اللهم وفق القائمين على شئون الحج يا رب العالمين، قيادةً ومسئولينَ ورجالَ أمن، وكلَّ مَنْ شاركَ بقليل أو كثير، اللهم وفقهم وسددهم واحفظهم واكلأهم برعايتِكَ يا ربَّ العالمينَ، اللهم اجعله حجًّا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا وعملًا صالحًا متقبلًا مبرورًا يا ربَّ العالمينَ.
اللهم احفظ حجاج بيتك الحرام، اللهم احفظهم من الشرور والآثام، اللهم رُدَّهُمْ إلى ديارهم، سالمينَ غانمينَ فائزينَ يا رب العالمين.
اللهم وفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابِكَ، وتحكيم شرعِكَ يا ربَّ العالمينَ، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10]، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه وآلائه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].