السبوح
كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الأطفال |
إِنَّ الْعِنَايَةَ بِبَيَانِ الْحُقُوقِ مِنْ أَجْلِ مَعْرِفَتِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا؛ هِيَ مِنَ الْأَوْلَوِيَّاتِ الَّتِي تُعْنَى بِهَا الشَّرَائِعُ، وَيَهْتَمُّ بِهَا الْمُرَبُّونَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْبَيَانَ يُعِينُ عَلَى الْأَدَاءِ، وَاجْتِنَابِ الْخِلَافِ وَالْمُخَالَفَةِ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْعِنَايَةَ بِبَيَانِ الْحُقُوقِ مِنْ أَجْلِ مَعْرِفَتِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا؛ هِيَ مِنَ الْأَوْلَوِيَّاتِ الَّتِي تُعْنَى بِهَا الشَّرَائِعُ، وَيَهْتَمُّ بِهَا الْمُرَبُّونَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْبَيَانَ يُعِينُ عَلَى الْأَدَاءِ، وَاجْتِنَابِ الْخِلَافِ وَالْمُخَالَفَةِ؛ فَمَثَلاً نَجِدُ الشَّرْعَ الْحَكِيمَ ذَكَرَ حُقُوقَ اللهِ -تَعَالَى-، وَحُقُوقَ رَسُولِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَحُقُوقَ الْأَبَوَيْنِ، وَحُقُوقَ الزَّوْجِيَّةِ وَغَيْرَهَا؛ حَتَّى تُؤَدَّى الْحُقُوقُ كَمَا أَمَرَ اللهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَمِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي لَمْ تَغْفُلْهَا الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَأَهْلُ التَّرْبِيَةِ: حُقُوقُ الطِّفْلِ؛ فَكَمَا أَنَّ لِلْوَالِدَيْنِ حُقُوقًا عَلَى الْأَوْلَادِ، فَكَذَلِكَ لِلْأَوْلَادِ حُقُوقٌ عَلَى وَالِدِيهِمْ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "كَمَا أَنَّ لِوَالِدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، كَذَلِكَ لِوَلَدِكَ عَلَيْكَ حَقٌّ"، وَحُقُوقُ الطِّفْلِ عَلَى وَالِدَيْهِ كَثِيرَةٌ، فَمِنْهَا:
حَقُّ اخْتِيَارِ أُمِّ الطِّفْلِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْأَوَّلُ قَبْلَ وُجُودِ الطِّفْلِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمَّ "مَظِنَّةُ الْوَلَدِ الصَّالِحِ، وَالسَّعْيُ لِلزَّوَاجِ مِنْ ذَاتِ الدِّينِ لِتَكُونَ أُمًّا مُرَبِّيَةً تَقِيَّةً طَاهِرَةً عَفِيفَةً، تُعِينُ أَبْنَاءَهَا عَلَى التَّرْبِيَةِ الصَّالِحَةِ؛ لِقَوْلِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا؛ فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ"....
وَمِنْ هُنَا يَرَى عُلَمَاءُ التَّرْبِيَةِ أَنَّ دَوْرَ الْأُمِّ فِي تَرْبِيَةِ الطِّفْلِ يَسْبِقُ دَوْرَ الأَبِ؛ وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مُلَازَمَتِهَا لِلطِّفْلِ مُنْذُ تَكْوِينِهِ جَنِينًا فِي بَطْنِهَا حَتَّى يَكْبَرَ، وَصَدَقَ الشَّاعِرُ حَافِظ إَبْرَاهِيم إِذْ يَقُولُ:
الْأُمُّ مَدْرَسَةٌ إِذَا أَعْدَدْتَهَا | أَعْدَدْتَ شَعْبًا طَيِّبَ الْأَعْرَاقِ |
عِبَادَ اللهِ: وَقَدْ أَثْبَتَتْ بَعْضُ الدِّرَاسَاتِ أَنَّ النَّبَاهَةَ وَالِامْتِيَازَ تَسْتَنِدُ إِلَى خَصَائِصَ وِرَاثِيَّةٍ "كَمَا أَنَّ عُلَمَاءَ "الْجِينَاتِ" يَرَوْنَ أَنَّ لِلْوِرَاثَةِ قُوَّةً عَجِيبَةً تَفْرِضُ نَفْسَهَا عَلَى الْمَوْلُودِ، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ سَاقَ بَعْضَهُمْ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحُصُولَ عَلَى أَفْرَادٍ مُمْتَازِينَ لَا يَعُودُ إِلَى التَّعْلِيمِ؛ بَلْ يَعُودُ إِلَى الْعَمَلِ عَلَى تَحْسِينِ النَّسْلِ، فَالطِّفْلُ يَرِثُ مِنْ وَالِدَيْهِ بَعْضَ الْمُمَيِّزَاتِ وَالسِّمَاتِ الْجِسْمِيَّةِ، وَبَعْضَ الِاتِّجَاهَاتِ الْعَقْلِيَّةِ، وَيَكَادُ يُجْمِعُ عُلَمَاءُ الْأَخْلَاقِ عَلَى "أَنَّ الْوِرَاثَةَ مَعَ الْبِيئَةِ هُمَا الْعَامِلَانِ الْأَسَاسِيَّانِ فِي تَكْوِينِ الْأَخْلَاقِ"؛ لِهَذَا جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ بِالْأَمْرِ بِحُسْنِ اخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ، وَوَضَعَتْ لِلْآبَاءِ مِنَ الرِّجَالِ أَوْصَافَ الزَّوْجَةِ الصَّالِحَة"(بحوث تربية الطفل المسلم (ص: 77) ).
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ؛ فَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ، وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ"(رواه ابن ماجه).
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَوَّلُ إِحْسَانِي إِلَيْكُمْ تَخَيُّرِي | لِمَاجِدَةِ الْأَعْرَاقِ بَادٍ عَفَافُهَا |
وَمِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ عَلَى أَبِيهِ: حُسْنُ التَّسْمِيَةِ، فَعَلَى الْأَبِ اخْتِيَارُ الِاسْمِ الْحَسَنِ لِأَبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَثَرٍ عَلَيْهِمْ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: "بَيْنَ الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى عَلَاقَةٌ وَرَابِطَةٌ تُنَاسِبُهُ، وَقَلَّمَا يَتَخَلَّفُ ذَلِكَ؛ فَالْأَلْفَاظُ قَوَالِبُ لِلْمَعَانِي، وَالْأَسْمَاءُ قَوَالِبُ الْمُسَمَّيَاتِ.
وَقَلَّ إِنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ ذَا لَقَبٍ | إِلَّا وَمَعْنَاهُ إِنْ فَكَّرْتَ فِي لَقَبِهْ |
فَقُبْحُ الِاسْمِ عُنْوَانُ قُبْحِ الْمُسَمَّى، كَمَا أَنَّ قُبْحَ الْوَجْهِ؛ يَعْنِي: الْقُبْحَ الْمَعْنَوِيَّ، عُنْوَانُ قُبْحِ الْبَاطِنِ، وَمِنْ هَاهُنَا- وَاللهُ أَعْلَمُ- أَخَذَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: "مَا اسْمُكَ؟ فَقَالَ: جَمْرَةُ، فَقَالَ: ابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابْنُ شِهَابٍ، قَالَ: مِمَّنْ؟ قَالَ: مِنَ الْحُرَقَةِ، قَالَ: أَيْنَ مَسْكَنُكَ؟ قَالَ: بِحَرَّةِ النَّارِ، قَالَ: بِأَيَّتِهَا؟ قَالَ: بِذَاتِ لَظًى، فَقَالَ عُمَرُ: أَدْرِكْ أَهْلَكَ؛ فَقَدِ احْتَرَقُوا"، فَكَانَ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-"(تحفة المودود بأحكام المولود (ص: 51) ).
"وَفِي تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ بِأَحَبِّ الْأَسْمَاءِ إِلَيْهِ وَتَكْنِيَتِهِ مَا يُنَمِّي فِيهِ شُعُورُ التَّكْرِيمِ وَالِاحْتِرَامِ، وَيُنَمِّي فِيهِ قُوَّةَ الشَّخْصِيَّةِ؛ لِاسْتِشْعَارِهِ أَنَّهُ بَلَغَ مَرْتَبَةَ الْكِبَارِ، وَفِيهَ -أَيْضًا- مُلَاطَفَتُهُ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِ، بِمُنَادَاتِهِ بِأَحَبِّ الْأَسْمَاءِ إِلَيْهِ"(كيف نربي أبناءنا تربية صالحة (ص: 14) ).
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللهِ: عَبْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا: حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا: حَرْبٌ وَمُرَّةٌ"(رواه أبو داود).
عِبَادَ اللهِ: وَمِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ أَيْضًا: الْخِتَانُ، وَمَعْنَى الْخِتَانِ: قَطْعُ مَوْضِعَيْنِ مَعْلُومَيْنِ مِنْ فَرْجِ الذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ: "الْمُبَالَغَةُ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّظَافَةِ، وَتَمْيِيزُ الْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِهِ"(الْفِقْه الإسلامي وأدلته (4/ 290) ).
وَمِنَ الْحِكَمِ كَذَلِكَ: أَنَّ بِالْخِتَانِ "يَتَخَلَّصُ الْمَرْءُ مِنَ الْمُفْرَزَاتِ الدُّهْنِيَّةِ وَالتَّفَسُّخَاتِ، وَيُقَلِّلُ مِنْ خَطَرِ الْإِصَابَةِ بِالسَّرَطَانِ، وَسَلَسِ الْبَوْلِ وَالتَّهَيُّجَاتِ الْجِنْسِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ".
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الْفِطْرَةُ خَمْسٌ (أَوْ خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ): الْخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ"(متفق عليه).
وَمِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ عَلَى أَبَوَيْهِ: الْعَقِيقَةُ، وَالْعَقِيقَةُ هِيَ: "الذَّبِيحَةُ الَّتِي تُذْبَحُ عَنِ الْمَوْلُودِ يَوْمَ سَابِعِهِ عِنْدَ حَلْقِ شَعَرِهِ"(القاموس الفقهي (ص: 258) ). "وَمِنْ فَوَائِدِهَا: أَنَّهَا قُرْبَانٌ يُقَرَّبِ بِهِ عَنِ الْمَوْلُودِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ خُرُوجِهِ إِلَى الدُّنْيَا، وَالْمَوْلُودُ يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ غَايَةَ الِانْتِفَاعِ، كَمَا يَنْتَفِعُ بِالدُّعَاءِ لَهُ وَإِحْضَارِهِ مَوَاضِعَ الْمَنَاسِكِ وَالْإِحْرَامِ عَنْهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَمِنْ فَوَائِدِهَا: أَنَّهَا تَفُكُّ رِهَانَ الْمَوْلُودِ؛ فَإِنَّهُ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مُرْتَهَنٌ عَنِ الشَّفَاعَةِ لِوَالِدَيْهِ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ قَالَ: يُحْرَمُ شَفَاعَةَ وَلَدِهِ.
وَمِنْ فَوَائِدِهَا: أَنَّهَا فِدْيَةٌ يُفْدَى بِهَا الْمَوْلُودُ كَمَا فَدَى اللهُ –سُبْحَانَهُ- إِسْمَاعِيلَ الذَّبِيحَ بِالْكَبْشِ"(تحفة المودود بأحكام المولود (ص: 69) ).
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كُلُّ غُلَامٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُسَمَّى"(رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي).
وَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ"(رواه أحمد).
نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَرْزُقنَا الذُّرِّيَّةَ الصَّالِحَةَ، وَيُعِينَنَا عَلَى تَرْبِيَتِهِمْ تَرْبِيَةً يَرْضَاهَا.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ، الْفَرْدِ الصَّمَدِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ؛ أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَلَا زِلْنَا فِي ذِكْرِ حُقُوقِ الطِّفْلِ عَلَى أَبَوَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ -أَيْضًا-: حَقُّ التَّغْذِيَةِ وَاللِّبَاسِ وَالسَّكَنِ، وَالتَّعْلِيمِ وَالرِّعَايَةِ الصِّحِّيَّةِ؛ فَالْأَبُ مُكَلَّفٌ بِالنَّفَقَةِ عَلَى أَوْلَادِهِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، وَكَمَا يُكَلَّفُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى أُمِّهِمْ وَعَلَى مَنْ تُرضِعُهُمْ مِنَ الْمُرْضِعَاتِ؛ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى، قَالَ -تَعَالَى-: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا)[البقرة:233]، وقال: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)[الطلاق:7]؛ يَعْنِي: "لِيُنْفِقِ الزَّوْجُ مِمَّا وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ عَلَى زَوْجَتِهِ الْمُطَلَّقَةِ، وَعَلَى وَلَدِهِ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ ذَا سَعَةٍ فِي الرِّزْقِ.."(التفسير الميسر (10/173) ).
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: دَخَلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لَا يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ، إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ؛ فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ"(متفق عليه).
وَمِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ عَلَى أَبَوَيْهِ: الْعَدْلُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ، وَهَذَا مِنْ أَهَمِّ الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْحُبِّ وَالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ، وَقَدِ "اتَّفَقَ الْبَاحِثُونَ عَلَى أَنَّ أَشَدَّ الْعَوَامِلِ إِثَارَةً لِلْحَسَدِ فِي نُفُوسِ الْأَطْفَالِ هُوَ تَفْضِيلُ أَخٍ عَلَى أَخٍ، أَوْ أُخْتٍ، أَوِ الْعَكْسِ، وَالْمُوَازَنَةُ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالآخَرِ أَمَامَ عَيْنَيْهِ، أَوْ عَلَى مَسْمَعٍ مِنْهُ.
وَمِنْ هُنَا "كَانَ عَلَى الْأَبِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَجَنَّبَ أَسْبَابَ التَّبَاغُضِ، وَالتَّحَاسُدِ بَيْنَ أَوْلَادِهِ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ، وَتَوْزِيعِ مَحَبَّتِهِ وَحَنَانِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ صَعْبًا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ؛ لِلْغَفْلَةِ أَوِ النِّسْيَانِ، أَوْ لِلْمَيْلِ الْفِطْرِيِّ إِلَى الِابْنِ الْأَصْغَرِ مَثَلاً، أَوْ إِلَى الْمُطِيعِ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ لِلْوَالِدِ أَنْ يُلَاحِظَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ يَنْتَبِهَ لَهُ؛ فَإِنَّ الْأَطْفَالَ يُحِسُّونَ ذَلِكَ وَيَعُونَهُ، وَيُدْرِكُونَ مَظَاهِرَ التَّفْرِيقِ فِي الْمُعَامَلَةِ، فَإِنَّ لَمْ يَتَدَارَكِ الْوَالِدُ تَحْسِينَ الْوَضْعِ، وَرَدِّ الْأُمُورِ إِلَى نِصَابِهَا فِي إِقَامَةِ الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ؛ فَإِنَّ الْوَلَدَ الْمَظْلُومَ رُبَّمَا نَهَجَ السُّلُوكَ الْعُدْوَانِيَّ مَعَ إِخْوَانِهِ انْتِقَامًا لِنَفْسِهِ، أَوْ رُبَّمَا أَثَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَسَبَّبَ لَهُ ضَعْفًا فِي التَّحَكُّمِ فِي إِفْرَازَاتِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَظَاهِرِ سُوءِ التَّوَافُقِ النَّفْسِيِّ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُصَابَ بِهِ الطِّفْلُ الْمَنْبُوذُ"(بحوث تربية الطفل المسلم (ص: 87) ).
وَقَدْ أَرْشَدَنَا رَسُولُنَا الْكَرِيمُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إِلَى هَذَا الْأَدَبِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ؛ فَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟" قَالَ: لَا، قَالَ: "اتَّقُوا اللهَ، وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ"، فَرَجَعَ أَبِي، فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ (متفق عليه).
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: انْطَلَقَ بِي أَبِي يَحْمِلُنِي إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اشْهَدْ أَنِّي قَدْ نَحَلْتُ النُّعْمَانَ كَذَا وَكَذَا مِنْ مَالِي، فَقَالَ: "أَكُلَّ بَنِيكَ قَدْ نَحَلْتَ مِثْلَ مَا نَحَلْتَ النُّعْمَانَ؟" قَالَ: لَا، قَالَ: "فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي"، ثُمَّ قَالَ: "أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟" قَالَ: بَلَى، قَالَ: "فَلَا إِذًا".
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- فِي أَوْلَادِكُمْ، أَدُّوا إِلَيْهِمْ حُقُوقَهُمْ، فَكَمَا تَحِبُوْنَ أَنْ يُؤَدُّوا إِلَيْكُمْ حُقُوقَكُمْ، فَأَحْسِنُوا إِلَيْهِمْ فِي اخْتِيَارِ أُمِّهِمْ، وَفِي تَسْمِيَتِهِمْ، وَالْعَدْلِ بَيْنَهُمْ، وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ أَمْرَ دِينِهِمْ، وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ شَأْنِ دُنْيَاهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِهِمْ.
وَاللهَ نَسْأَلُ الْإِعَانَةَ عَلَى أَدَاءِ هَذِهِ الْحُقُوقِ لِأَوْلَادِنَا، وَأَنْ يُنْبِتَهُمْ لَنَا نَبَاتًا حَسَنًا.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى خَيْرِ الْبَشَرِ؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].