الخبير
كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...
العربية
المؤلف | حمزة بن فايع آل فتحي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
إنه الإمام الفذ العلَم، صاحب الجامعية الفذة، والسيرة العطرة، وقد اجتمع أصحاب له يوما، فقالوا: "تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والزهد، والفصاحة، والشعر، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو، والشجاعة، والفروسية، والقوة، وترك...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعَل في كلِّ زمانِ فترةٍ من الرسل، بقايا من أهلِ العلم؛ يَدعون مَن ضَلَّ إلى الهدى، ويَصبرون منهم على الأذَى، يُحيون بكتاب الله الموتى، ويبصِّرون بنور الله أهلَ العَمى، فكم مِن قتيلٍ لإبليس قد أحيَوه؟ وكم مِن ضالٍّ تائهٍ قد هدَوه؟ فما أحسَنَ أثرَهم على النَّاس، وأقبَحَ أثر النَّاس عليهم. ينفون عن كتاب الله تحريفَ الغالِين، وانتِحالَ المبطِلين، وتأويلَ الجاهلين. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإسلام: دخَل التاجرُ مزرعته، وقال لعامله: "أحضر لي رمانة" فلما جاءه كسَرها فاذا هي حامضًا، فغضب عليه، وقال: "أطلب الحلو، فتحضر لي الحامض؟ هات حلوًا"، فمضى وقطع من شجرة أخرى، فلما كسرها وجده أيضًا حامضًا، فاشتد غضبه عليه، وفعل ذلك مرة ثالثة، فذاقه فوجده أيضًا حامضًا، فقال له بعد ذلك: "أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟”، فقال: "لا"، فقال: "وكيف ذلك؟، فقال: "لأني ما أكلتُ منه شيئًا حتى أعرِفَه"، فقال: "ولِمَ لَمْ تأكل؟" قال: "لأنك ما أذنتَ لي بالأكل منه"، فعجب من ذلك صاحبُ البستان، وسأل عن ذلك فوجده حقًّا!
فعظُم الأجير في عينيه، وزاد قدره عنده، وكانت له بنت خُطبت كثيرًا، فقال له: "يا هذا! مَن ترى تزوَّج هذه البنت؟" فقال: "أهل الجاهلية كانوا يزوجون للحسَب، واليهود للمال، والنصارى للجمال، وهذه الأمة للدِّين"، فأعجبه عقلُه، وذهب فأخبر به أمها، وقال لها: "ما أرى لهذه البنت زوجًا غيرَ مبارك العامل عندنا"، فتزوجها، فجاء من هذا الزواج المبارك، والبيت الإيماني الصالح أحد الأعلام المشاهير.
مَن طبق ذكره الآفاق، وانتشر علمه بالأمصار، وكانت الخشية علامة فارقة في حياته، وهو القائل وقد سأله الناس عن طول عزلته، حيث كان يكثر الجلوس في بيته فقيل له: "ألا تستوحش؟ فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي وأصحابه".
ويعتزلُ مجالس المنكر واغتياب الناس، فقيل له: "إذا صليت معنا لم لا تجلس معنا؟ قال: أذهب مع الصحابة والتابعين، قيل له: ومن أين الصحابة والتابعون؟ قال: أذهب أنظر في علمي، فأدرك آثارهم وأعمالهم، فما أصنع معكم، وأنتم تغتابون الناس!".
نعم، إنه الإمام الفذ العلَم، عبد الله بن المبارك المروزي -رحمه الله-، صاحب الجامعية الفذة، والسيرة العطرة، وقد اجتمع أصحاب له يوما، فقالوا: "تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والزهد، والفصاحة، والشعر، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو، والشجاعة، والفروسية، والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه".
إذا سار عبد الله من مروَ ليلةً | فقد سار منها نجمها وهلالها |
إذا ذُكر الأحبارُ في كل بلدةٍ | وهم أنجم فيها وأنت هلالُها |
في حياته دروس ووقفات من أشهرها: أولا: تعظيمه للوقت وحرصه على العلم، وإدراكه أن المجالس اللاغية، والديوانيات الفارغة، لا تبني عقلا، ولا تصلح خلقا، وكم جرت المناكر؟ ومعاصٍ دامية كالغيبة والنميمة؟ وقد قال تعالى: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ)[الحجرات 12]، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة قتات" أي نمام.
وكان هو قد اعتزل الناس، وابتعد عن مجالسهم وعلاقاتهم، مختليا بذكر الله، وقارئا لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبار صحابته.
وذلك هو المؤمن العاقل الذي يحافظ على الوقت ويستشعر أن نوره وسعادته في طاعة الله -عز وجل-، لذلك لا يضيع ساعة، ولا يبيع دقيقة.
ثانيا: خوفه وخشيتهم من الله، فقلبه كان ممتلئا بالخوف من الله -عز وجل- والله يقول: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[فاطر: 28]، فذلك العلم الذي حفظه ونوّر الله به قلبه، أورثه الخشية والمراقبة للواحد الأحد، ولذلك يقول نُعيم بن حماد -رحمه الله-: "كان ابن المبارك إذا قُرأ عليه كتاب الرقاق -أخبار المواعظ- بكى ورق كأنه ثور منحور، أو بقرة منحورة". ولا يجترئ أحد عليه أن يسأله شيء إلا دفعه.
وهذا هو ثمرة العلم والمحفوظات، ما قيمة أن تقرأ القرآن وأن تحفظ السنن، وتستمع إلى المحاضرات وأنت لا تعيش الخشية ولا تفكر في الخوف من الله -عز وجل-؟
وفي القرآن العظيم: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)[الرحمن: 46].
فيا لله كم من مواعظ تُتلى علينا؟ وكم من آيات تهز الوجدان؟!
ولكن للأسف القلوب قاسية، والنفوس منشغلة.
ثالثا: هو أيضا العالم الجواد والمنفق الكريم الذي لا يَضن بالمال، ولا بما وسع الله عليه، لم يكنز الأموال، واستعملها استعمالاً شرعيا، نصر بها دين الله، وجعلها في طاعة الله -عز وجل-، وعلى الفقراء والمساكين، فمثلا كان يحجج الفقراء كل سنة على حسابه الخاص من "مدينة مرو" يذهب بهم إلى المدينة ثم إلى مكة ويشتري لهم أبهى التحف والهدايا، ويسعدهم في خبر عجيب جدا، ويعيد إليهم مصروفاتهم المجموعة للرحلة.
وأيضا كان يطعم فقراء أهل الحديث ويصرف عليهم ويقول للفضيل بن عياض -رحمه الله-: "لولا أنت وأصحابك لما اتّجرت".
وكان ينفق على الفقراء من طلاب الحديث نحو مائة ألف درهم كل سنة.
فأين تجارنا المتساهلون في الزكاة؟ وأين الأثرياء البعداء عن العمل الخيري؟!
نقول لهم: قدموا لأنفسكم ما ينفعكم عند الله، قبل حضور المنايا، وتنازع الأبناء عليها.
رابعا: جِدّه في طلب العلم، وحرصه عليه فقد سأله بعض الناس: "إلى متى تطلب العلم؟! قال: إلى الموت"، وأيضا قال قيل له: "إلى متى تكتب العلم؟! قال: "لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أكتبها بعد".
فكان جاداً في طلب العلم، قال فيه الإمام أحمد: "ما رأيت أطلبَ للعلم من عبد الله ابن المبارك".
فأين الذين فروا من الكتب؟! وأين الذين يرتادهم النوم وقت القراءة؟ وأين الذين تمر عليهم الأسابيع، وهم عاكفون على الأجهزة الذكية ولا يعرفون القراءة ولا يطالعون القرآن ولا يستفيدون فوائدها، من هنا وهنالك؟!
في سيرة ابن المبارك درس في حب القراءة ودرس لمن يبحث عن الجد في طلب العلم، والعلم قد سهل هذه الأيام، ولكنهم يؤثرون النوم والراحة أو يعيشون إدمان الأجهزة الذكية. فلا هم طوّروا أنفسهم، ولا هم خدموا بلادهم.
خامسا: هو العالم المجاهد، والفقيه المقدام، الذي إذا دعا داعي الجهاد تحرك، وإذا سمع هَيعةً لبى إليها، بكل شجاعة واقتدار: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)[الأحزاب: 23].
يقول بعضهم: كُنَّا في سَرِيَّةٍ معَ ابنِ المباركِ في بلادِ الرُّومِ، فصادَفْنا العَدُوَّ، فلمَّا التقى الصَّفَّانِ خرج رجلٌ من العَدُوِّ فدعا إلى البِرازِ، فخرَج إليه رجلٌ من المسلمينَ فقتله، ثُمَّ خرج آخَرُ من الكُفَّارِ فخرج إليه صاحبُنا نفسُه فقتَله، ثُمَّ خرج ثالثٌ فدعا إلى البِرازِ، فخرج إليه صاحبُنا فطارَده ساعةً ثُمَّ طعَنه فقتَله، قتَل ثلاثةً، تَحَدٍّ أمامَ الجيشينِ، فازدحَم النَّاسُ إلى هذا البطلِ الَّذي قتَل ثلاثةً من العدوِّ، يقولُ عَبْدةُ بنُ سليمانَ: فكنتُ فيمَن ازدَحَم إليه، فإذا به يُغطِّي وجهَه بكُمِّه لِئلَّا يراه أحدٌ! قال عَبْدةُ: فأخذتُ بطَرَفِ كُمِّه فمَدَدتُه، أي أَزَحتُ اللِّثاَم عن وجهِه، فإذا هو عبدُ اللهِ بنُ المباركِ، فقال له ابنُ المباركِ: "وأنتَ يا أبا عمرٍو ممَّن يُشنِّعُ علينا" أي: ممَّن يُظهِرُ أعمالَنا.
وهنا درس في الجهاد ودرس في الإخلاص، والتباعد عن الشهرة: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[القصص: 83].
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها...
أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها الإخوة الفضلاء: هذه بعض الوقفات الزكية من حياة الإمام العلامة ابن المبارك، فهل لنا فيها من عظة ودرس؟ (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ)[يوسف: 111]؟ ولماذا لا تُقرب هذه النماذج الذهبية للأجيال، فيتعرف الناشئة على متانة علَم، وخشية فقيه، أو شجاعة مقدام، أو تميز تقي؟
ومثل تلك الروح الصالحة أفرزت حِكماً سيارة، وكلمات جميلة، جدير بِنَا أن نتعلمها، وأن نستفيد درسها، ومن ذلك: قوله لما سئل عن تعريف حسن الخلق، قال: "ترك الغضب"، وصدق رحمه الله فكم أفسدَ الغضب من علاقات، وجرّ إلى مشاكل؟ وهي الوصية التربوية النبوية للرجل السائل: "لا تغضب" فردد مرارا "لا تغضب".
ومنها: "لا يزال الرجل عالما ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل"، وهي رسالة لمن يظن بالشهادات أنه تم له الاكتمال العلمي، أو يعتقد أن رتبة ًعلمية، كافية عن الاستزادة، وقد قال الله لرسوله: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا)[طـه: 114]، وأمر موسى الكليم -عليه السلام- أن يرحل ويركب البحر إلى الخضر -عليه السلام-، ليؤكد أن العلم وسيع لا حد له ولا حصر.
ومنها: "ربَّ عملٍ صغير تعظّمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية"، وهذا دليل على أهمية تصحيح النية، ومراجعة المقصد، وأن زكاتها وحسنها سببٌ للأجر الكبير، والثواب الجزيل.
ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: "سبق درهم مائة ألف درهم".
ومنها: قوله: "تَركُ فِلسٍ من حرام أفضل من مائة ألف فلس أتصدق بها"، وهذا درس في التنزه عن المال الحرام، والحذر من الشبهات، وأن الكسب الخبيث خبيث ولا تصلحه الصدقات الضخمة إذا كان مصدره الحرام والشبهة، قال صلى الله عليه وسلم: "أيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به"، فاطلب الحلال ولو قل، وتباعد عن الحرام ولو كثر: (قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ)[المائدة: 100].
اللهم انفعنا بهذه السير، وبارك لنا في حياتنا وأوقاتنا...
وصلوا وسلموا على الرسول المختار، والنبي المدرار...