البحث

عبارات مقترحة:

اللطيف

كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...

السميع

كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...

الشاكر

كلمة (شاكر) في اللغة اسم فاعل من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...

الإفادة بقصة (وعلى الثلاثة ..)

العربية

المؤلف خالد بن علي أبا الخيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات أعلام الدعاة - السيرة النبوية
عناصر الخطبة
  1. قصة عجيبة وحادثة غريبة هزت أجواء المدينة .
  2. قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك .
  3. الصدق نجاة وفوز وسعادة .
  4. الكذب شؤم وخيانة .
  5. عظم أمر المعصية وشؤمها وسوء عاقبتها .
  6. فوائد وعبر من قصة الثلاثة .
  7. حكم هجر أهل المعاصي. .

اقتباس

إن المرء إذا ضاقت به السبل، وانقطعت به الحيل، وحصل له ضيق وهمّ ومأزق؛ فليس له إلا الرب الواحد الرازق يكشف همه، ويزيل غمه، ويُذهب كربه، ويشفي مرضه، ويقبل توبته، ويقضي دَيْنه، ويشرح صدره، ويسدل عليه رحمته، ويسبغ عليه عافيته،.. ومعنا في جمعتنا هذه قصة عجيبة وحادثة غريبة هزت أجواء المدينة، قصة تميز الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق، ومن أعظم وسائل الثبات لاسيما عند حلول الأزمات القصص والعظات.. أتدرون ما هي؟ إنها قصة كعب مع صاحبيه، وهجر النبي لهما خمسين ليلة..

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي جعل في القصص عبرة، وأودعها الفوائد والحكمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده نصر عبده وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله الله بشيرا

أما بعد: فاتقوا الله يا ذو العقول وتمسكوا بسنة الرسول.

إخوة الإسلام والعقيدة: قال الله في كتابه (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ)[يوسف: 11]، ومعنا في جمعتنا هذه قصة عجيبة وحادثة غريبة هزت أجواء المدينة، ونوّه الله بها في سورة التوبة فقال (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[التوبة: 118]، قصة تميز الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق ومن أعظم وسائل الثبات لاسيما عند حلول الأزمات القصص والعظات (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) [هود: 120].

أتدرون ما هي؟ إنها قصة كعب مع صاحبيه، وهجر النبي لهما خمسين ليلة، موقف عظيم وحدث كبير، فأترككم مع القصة بنصها تعيشون أجوائها وتتعرفون على حوادثها وتأخذون عبرها وفوائدها.

فارعوني الأسماع، وخذوا منها فوائدها بانتفاع، فعن عن عبد الله بن كعب بن مالِكٍ: أنَّ عبدَ الله بن كَعْبٍ، كان قائدَ كعبٍ من بنيه حين عَمِيَ - قال: وكان أعلمَ قومه وأوعاُهم لأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- - قال: سمعتُ كعبَ بنَ مالكٍ يُحدِّثُ حديثَهُ حين تَخَلَّفَ عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- في غَزْوةِ تَبُوكَ.

قال كعبٌ: لم أتخلَّفُ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة غزاها قَطُّ إِلا في غزوة تبوك، غير أنِّي تخلَّفتُ في غزوة بَدْرٍ، ولم يُعاتِبْ أحداً تَخلَّفَ عنها، إِنما خرجَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون يريدون عِيرَ قُرَيْشِ، حتى جَمَع الله بينهم وبين عَدُوِّهمْ على غير ميعادٍ، ولقد شهدتُ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة العَقَبة، حين تواثَقْنَا على الإِسلام، وما أُحِبُّ أَنَّ لي بها مَشْهَدَ بَدْرٍ وإن كانت بدرٌ أذْكَرَ في الناس منها.

وكان مِنْ خَبَري حين تخَلَّفْتُ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، أنِّي لم أكُنْ قَطُّ أقوَى، ولا أيْسرَ منِّي حين تَخَلَّفْتُ عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- في تلك الغزوةِ، واللهِ ما جمعتُ قَبْلَها راحلتين قَطُّ، حتى جَمَعْتُهُما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في حَرٍّ شَديدٍ، واستقْبَلَ سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل عَدُوّاً كثيراً فَجَلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهَّبوا أُهْبَةَ غزوهم، وأخبرهم بوجْهِهم الذي يريدُ، والمسلمون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثير  لا يجمعهم كتابُ حافظٍ - يريد بذلك الديوانَ.

قال كعبٌ: فقلَّ رجل يريد أن يَتَغَيَّبَ، إلا ظَنَّ أنَّ ذلك سَيَخْفى ما لم ينزل فيه وحيٌ من الله عز وجل، وغزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلك الغزوة حين طابت الثمارُ والظِّلالُ، فأنا إِليها أصعَرُ، فتهجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون معه، وطَفِقْتُ أغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ معهم، فأرجعُ ولم أَقضِ شيئاً، وأقول في نفسي: أَنا قادرٌ على ذلك إِذا أردتُ.

فلم يزل ذلك يتمادَى بي، حتى استمرَّ بالناس الجِدُّ، فأَصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غادِياً، والمسلمون معه، ولم أقضِ من جَهازي شيئاً، ثم غدوتُ فرجعتُ، ولم أقض شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا، وتفارطَ الغزوُ، فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فأُدْرِكَهُمْ، فيا ليتني فَعَلْتُ، ثم لم يُقدَّر ذلك لي، فَطَفِقْتُ إِذا خرجت في الناس - بعد خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَحْزُنُني أني لا أرى لي أُسْوَة، إِلا رجلاً مغموصاً عليه في النِّفاق، أَو رجلاً ممن عذَرَ اللهُ من الضعفاء.

ولم يذكرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بلغَ تبوكاً فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعبُ بن مالك؟» ، فقال رجل من بني سَلِمَةَ: يا رسول الله، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ، والنَّظَرُ في عِطْفَيْهِ، فقال له معاذ بن جَبَل: بِئْسَ ما قُلْتَ، والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إِلا خيراً.

فسكتَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فبينا هو على ذلك رأى رجُلاً مُبَيِّضاً يَزُول به السَّرابُ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كُنْ أَبا خَيثَمَة» ، فإِذا هُوَ أبو خَيثمةَ الأنصاريُّ، وهو الذي تصدَّق بصاعِ التمرِ حين لمزَه المنافقون.

قال كعبٌ: فلما بلغني أَن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قد توَجَّه قافِلاً من تبوك، حضرني بَثِّي، فطفقتُ أَتذكَّرُ الكذبَ، وأَقول: بم أَخرجُ من سَخَطِهِ غداً؟ وأستعينُ على ذلك بكلِّ ذي رأيٍ من أَهلي، فلما قيل: إِنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قد أَظَلَّ قادماً، زاحَ عنِّي الباطِلُ، حتى عرفتُ أني لن أَنجوَ منه بشيءٍ أبداً، فأجمعْتُ صِدْقَهُ.

وَصَبَّحَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قادماً، وكان إِذا قَدِمَ من سفرٍ بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناسِ، فلَمَّا فَعل ذلك جاءهُ المُخَلَّفُونَ، فطَفِقُوا يعتذرون إِليه، ويحلفون له، وكانوا بِضعة وثمانين رجُلاً، فقَبِلَ منهم عَلانيتَهم، وبايَعهم، واستغفر لهم، ووَكَل سرائرهم إِلى الله.

حتى جئتُ، فلمَّا سلَّمتُ تَبَسَّمَ تَبَسُّم المُغْضَبِ، ثم قال: «تعالَ» ، فجئتُ أَمْشي، حتى جَلَسْتُ بين يديْهِ، فقال لي: «ما خَلَّفَكَ؟ ألم تكن قدِ ابتعتَ ظَهرَكَ؟».

قلتُ: يا رسول الله، إِنِّي - واللهِ- لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيتُ أَنِّي سأخرُجُ من سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، لقد أُعطِيتُ جَدَلاً، ولكني -والله- لقد علمتُ لَئنْ حَدَّثْتُك اليومَ حَديثَ كذِبٍ ترضى به عني، ليوشكنَّ اللهُ أن يُسخِطَكَ عليَّ، ولئَن حَدَّثتُكَ حديثَ صِدقٍ تَجِدُ عليَّ فيه، إِني لأرجو فيه عُقْبى الله عز وجل - وفي رواية: عفو الله، والله ما كان لي من عُذْرٍ، والله ما كنتُ قَطُّ أَقْوَى ولا أيْسرَ منِّي حين تَخَلَّفْتُ عنك.

قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَمَّا هَذا فقد صدق، فَقُمْ حتى يَقْضيَ اللهُ فيك».

فقمتُ، وثارَ رجالٌ من بني سَلِمةَ، فاتَّبعوني، فقالوا لي: واللهِ ما علمناكَ أَذنبتَ ذنباً قَبلَ هذا، لقد عَجَزتَ في أن لا تكونَ اعتَذَرْتَ إِلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما اعتذَرَ إِليه المُخَلَّفون، فقد كان كافِيَكَ ذَنْبَكَ استغفارُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- لك.

 قال: فَوَ الله ما زالوا يُؤنِّبُونَني حتى أردتُ أَنْ أرجعَ إِلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأُكَذِّبُ نَفسي، قال: ثم قُلتُ لهم: هل لَقِي هذا مَعي من أحَدٍ؟ قالوا: نعم، لَقِيهُ مَعَكَ رَجُلانِ، قالا مِثلَ ما قُلتَ، وقيل لهما مثلَ ما قِيلَ لكَ، قال: قلتُ: مَن هما؟ قالوا: مُرارةُ بن الرَّبيع العامِريُّ، وهِلالُ ابنُ أُمَيَّة الواقِفيُّ، قال: فذكروا لي رجُلين صالحَيْنِ قد شَهِدا بَدراً، ففيهما أُسْوَةٌ، قال: فمضيتُ حين ذكروهما لي.

قال: ونهى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عن كلامنا أَيُّها الثلاثةُ من بينِ من تَخَلَّفَ عنه، قال: فَاجْتَنَبَنَا الناسُ - أو قال: تغيَّرُوا لنا - حتى تنكَّرَتْ ليَ في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبِثْنَا على ذلك خمسين ليلة، فأمَّا صاحِبايَ فاستكانا، وقَعَدَا في بيوتهما يَبكيان.

وأَما أَنا فكنتُ أَشَبَّ القومِ وأَجلَدَهُمْ، فكنتُ أخرُجُ، فأَشهَدُ الصلاةَ، وأطوفُ في الأسواق، فلا يكلِّمُني أحدٌ، وآتِي رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَأُسَلِّمُ عليه - وهو في مجلِسِهِ - بعدَ الصلاةِ، فأقولُ في نفسي: هل حرَّكَ شَفَتَيْهِ بِردِّ السلام، أمْ لا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قريباً منه، وأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فإِذا أَقْبَلْتُ على صَلاتِي نَظَرَ إِليَّ، وإِذا الْتَفَتُّ نحوه أَعْرَضَ عنّي، حتى إِذا طَالَ عليَّ ذلكَ مِن جَفْوَةِ المُسلمينَ، مَشَيْتُ حتَّى تَسَوَّرْتُ جِدارَ حائِطِ أَبي قتادة - وهو ابنُ عَمِّي، وأحَبُّ النَّاس إِليَّ - فسلَّمْتُ عليه، فو اللهِ ما رَدَّ عليَّ السلام، فقُلْتُ له: يا أَبَا قتادة، أَنشُدُكَ بالله، هل تَعْلَمَنَّ أَنِّي أُحِبُّ اللهَ ورَسولَه؟ قال: فسكتَ، فعُدتُ فناشَدْتُهُ، فسكتَ، فعدتُ فناشدْتُهُ، فقال: اللهُ ورسولُهُ أعلم، ففاضت عَيْنَايَ، وتوَّليتُ حتى تَسوَّرتُ الجدارَ.

فبينا أَنا أَمْشي في سُوقِ المدينة، إِذا نَبَطِيٌّ من نَبَطِ أَهل الشام، مِمَّنْ قَدِمَ بِطعامٍ يبيعه بالمدينةِ، يقول: مَنْ يَدَلُّ على كعبِ بنِ مالكٍ؟ قال: فَطَفِقَ النَّاسُ يُشيرونَ له إِليَّ، حتى جاءني، فدفعَ إِليَّ كتاباً من ملك غسانَ، وكنتُ كاتباً، فقرأتُهُ، فإِذا فيه: أَما بعد، فإِنَّهُ قد بلغنا أن صاحبك قد جَفاك، ولم يجعلك اللهُ بدارِ هوانٍ، ولا مَضيَعةٍ، فالْحَقْ بنا نُوَاسِكَ.

قال: فقلتُ حين قرأتُها: وهذه أَيضاً من البلاءِ، فَتَيَمَّمْتُ بها التَّنُّورَ، فسَجَرْتُها، حتى إِذا مَضتْ أَربعون من الخمسين، واسْتَلْبَثَ الوَحْيُ، فَإِذا رسولُ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يأتيني، فقال: «إِنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يأمْرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امرأَتكَ» ، قال: فقلتُ: أُطَلِّقُها، أمْ ماذا أفعلُ؟ قال: «لا، بل اعتَزِلها فلا تقرَبَنَّها» ، قال: وأَرسل إِلى صَاحِبيَّ بمثل ذلك، قال: فقلتُ لامرأتي: الْحَقِي بأَهلِك، فكوني عندهم حتى يَقْضِيَ اللهُ في هذا الأمرِ.

قال: فجاءَتْ امرأةُ هلال بنِ أُميةَ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: يا رسول الله إِنَّ هِلالَ بن أُمَيَّةَ شيخٌ ضائِعٌ، ليس له خادمٌ، فهل تكرهُ أَن أَخْدُمَه؟ قال: «لا، ولكن لا يَقْرَبنَّكِ» ، فقالت: إِنَّهُ واللهِ ما به حَرَكةٌ إِلى شيءٍ، ووَاللهِ ما زال يبكي، منذُ كان من أَمرِهِ ما كان إِلى يومه هذا، قال: فقال لي بعْضُ أَهلي: لو اسْتَأْذَنتَ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- في امرأَتِكَ، فقد أذِنَ لامْرَأةِ هلالِ بن أُمَيَّةَ أنْ تَخْدُمَه؟ قال: فقلتُ: لا أَسْتَأْذِن فيها رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، وما يُدْريني ما يقولُ رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذا استأذْنتُهُ فيها، وأنا رجلٌ شابٌّ؟ قال: فَلبِثْتُ بذلك عَشْرَ ليالٍ، فكَمُل لنا خمسونَ ليلة من حين نُهي عن كلامنا.

قال: ثم صليتُ صلاةَ الفجر صَبَاحَ خمسين ليلة، على ظَهْرِ بيتٍ من بُيُوتنا، فَبَيْنما أنا جالسٌ على الحالِ التي ذكرَ اللهُ -عز وجل- منَّا: قد ضاقَتْ عَليَّ نَفْسي، وضاقَتْ عليَّ الأرضُ بما رَحُبَتْ، سمعتُ صوتَ صارخٍ أَوْفَى على سَلْعٍ يقول بأعلى صوتِهِ: يا كَعْبَ بنَ مالِكٍ، أَبْشِرْ، قال: فَخَرَرْتُ ساجداً، وعلمتُ أَنْ قد جاءَ فَرَجٌ، قال: وآذَنَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بتوبَةِ اللهِ علينا حين صلَّى صلاةَ الفجر، فذهب النَّاسُ يُبَشِّرُونَنا، فذهبَ قِبَلَ صاحِبيَّ مُبَشِّرون، وركَضَ رَجلٌ إِليَّ فرساً، وسعَى ساعٍ من أَسْلَمَ قِبَلي، وأوْفَى على الجبل، وكانَ الصوتُ أَسرعَ من الفرسِ.

 فلما جاءني الذي سمعتُ صوتَهُ يُبَشِّرُني، نَزَعتُ له ثَوْبَيَّ، فَكَسَوْتُهُما إِيَّاهُ بِبِشَارَتِهِ، والله ما أَمْلِكُ غيرَهُما يومئذٍ، واستَعَرْتُ ثوبين فلَبِسْتُهُما، وانْطَلَقْتُ أَتَأمَّمُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، يَتَلَقَّاني النَّاسُ فَوْجاً فَوْجاً، يُهَنِّؤوني بالتَّوْبةِ، ويقولون: لِتَهْنِئْكَ توبةُ الله عليك، حتَّى دخلتُ المسجد، فإِذا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حَوْلَهُ النَّاسُ، فقام طَلْحَةُ بنُ عُبيْدِ اللهِ يُهَرْوِلُ، حتى صافَحَني وهَنَّأَنِي، والله ما قام رجلٌ من المهاجرين غيرُهُ، قال: فكان كعبٌ لا يَنْسَاها لِطَلْحةَ.

قال كعبٌ: فلما سلَّمتُ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال- وهو يَبْرُقُ وجْهُهُ من السرور -: «أَبْشِر بِخَيْرِ يومٍ مرَّ عليك منذُ وَلَدتْكَ أُمُّكَ»، قال: فقلتُ: أمِن عندِكَ يا رسولَ اللهِ، أَم من عنْدِ الله؟ فقال: «بلْ مِن عِنْدِ اللهِ» ، وكان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إِذا سُرَّ اسْتَنَارَ وجهُهُ، حتى كأنَّ وَجْهَهُ قِطْعَةُ قَمرٍ، قال: وكُنَّا نَعْرِفُ ذلك، قال: فلمَّا جلستُ بين يديه، قلتُ: يا رسولَ الله، إِنَّ من تَوْبَتي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مالي صَدَقَة إِلى الله وإِلى رسول الله، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَمْسِكْ بعْضَ مَالِكَ، فهو خيرٌ لك» ، قال: فقلتُ: فإني أُمْسِكُ سَهْمي الذي بِخَيْبَرَ.

 قال: وقلت: يا رسول الله، إِن الله إِنَّمَا أَنجاني بالصِّدق، وإِن من توبتي أَن لا أُحَدِّثُ إِلا صِدْقاً ما بَقِيتُ، قال: فوالله ما علمتُ أَحداً من المسلمين أَبْلاهُ الله في صِدق الحديث منذُ ذكرْتُ ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَحْسَنَ مما أبلاني الله، وَوَاللهِ ما تَعَمَّدْتُ كَذْبَة مُنْذُ قلت ذلك لِرَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- إِلى يومي هذا، وإِني لأرْجو أن يَحْفَظَنِيَ اللهُ فيما بَقِيَ، قال: فأنزل الله عز وجل: (لَقَد تابَ اللهُ على النبيِّ والمُهَاجرينَ والأَنصارِ الذينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ العُسْرَةِ مِن بعدِ ما كَادَ يَزِيغُ قُلوبُ فريق منهم ثم تابَ عليهم إِنَّهُ بهم رؤوفٌ رَحيمٌ * وعلى الثلاثة الذين خُلِّفُوا حتى إِذَا ضَاقَتْ عليهمُ الأرضُ بِمَا رَحُبَتْ وضاقَتْ عليهم أَنفُسُهُم وظنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلا إِليه ثم تابَ عليهم ليتوبوا إِنَّ اللهَ هو التَّوابُ الرحيم. يا أيُّها الذين آمنوا اتقوا اللهَ وكونوا مع الصادقين) [التوبة: 117 - 119].

 قال كعبٌ: واللهِ ما أَنعمَ اللهُ عليَّ من نِعْمَةٍ قَطُّ - بعدَ إِذْ هداني للإِسلام - أعْظَمَ في نفسي من صِدْقِي رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-: أَنْ لا أكونَ (24) كَذَبْتُهُ فأهْلِكَ كما هَلَكَ الذين كَذَبُوا، إِنَّ اللهَ قال للذينَ كَذَبوا حين أَنْزَلَ الوْحيَ شَرَّ ما قال لأَحَدٍ، فقال الله: (سَيَحْلِفُونَ باللهِ لكم إِذا انقَلَبْتُم إِليهم لِتُعْرِضُوا عنهم فأَعْرِضُوا عنهم إِنَّهُم رِجْسٌ ومأْواهم جهنَّمُ جزاءً بِمَا كانوا يكسبون. يحلفون لكم لتَرْضَوْا عنهم فإِن تَرْضَوْا عنهم فَإِنَّ اللهَ لا يَرضَى عن القومِ الفاسقين) [التوبة: 95 - 96].

 قال كعب: كُنَّا خُلِّفْنا - أَيُّها الثلاثةَ - عن أمْرِ أُولئِكَ الذين قَبِلَ منهم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حين حَلفُوا له، فبايَعَهُم واستغفر لهم، وأَرجأ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أمْرَنا، حتى قَضَى اللهُ تعالى فيه بذلك، قال اللهُ عز وجل: (وَعلى الثلاثةِ الذين خُلِّفُوا) [التوبة: 118] ، وليس الذي ذُكِرَ مما خُلِّفْنا عن الغَزْو، وإِنَّمَا هو تَخْلِيفه إِيَّانا، وإِرجاؤه أَمْرَنا عَمَّن حَلَفَ له، واعتذر إِليه فَقَبِلَ منه. (متفق عليه).

قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه فله المحامد والمدائح كلها في خواطري وجوارحي ولساني قصة كعب ملئت بالطرائف والحكم واللطائف فوائدها تفوق المئين، وحصرها يعسر، ولعلنا نأخذ أبرزها وما تمس الحاجة بها ولها، وأظهر معالمها أن الصدق نجاة وفوز وسعادة والكذب شؤم وخيانة ، يا رسول الله "إنما نجاني الصدق".

ومنها عظم أمر المعصية وشؤمها وسوء عاقبتها، وقد نبَّه الحسن بقوله: "يا سبحان الله! ما أكل هؤلاء الثلاثة مالاً حرامًا، ولا سفكوا دمًا حرامًا، ولا أفسدوا في الأرض، أصابهم ما سمعتم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فكيف بمن يواقع الفواحش والكبائر"؟!

وفيه رد الغيبة وعرض المسلم، قال معاذ بن جبل: "بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا"، فأين المتلذذون بأعراض المسلمين والمتطعمون بغيبة الغافلين.

وفيها أن المرء إذا لاحت له فرصة في الطاعة، فحقه أن يبادر إليها ولا يسوف بها لئلا يحرمها كما قال: (اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال:24]، (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام: 110].

فنسأل الله أن يلهمنا المبادرة إلى طاعته، وألا يسلبنا ما خوّلنا من نعمته، وفيه الحكم بالظواهر والسرائر لها رب الأوائل والأواخر؛ لقوله: "ما علمنا عليه إلا خيرا"، وقوله "وكل سرائرهم إلى الله".

وفيها قبول الأعذار لمن بدر منه ما بدر، وأظهر الاعتذار لقوله: "فطفقوا يعتذرون إليه فقبل منهم علانيتهم".

وفيها استحباب بكاء العاصي أسفًا على ما فاته من الخير؛ لقوله: "ففاضت عيني"، وبكاؤه عنوان صدقه وحسن توبته.

وفيها جواز الهجر أكثر من ثلاث، وهو الهجر الشرعي، والقاعدة الهجر للزجر فيُسن هجر المعاصي وأهلها؛ لمن كان في هجره زجر لها.

وفيه تبريد حر المصيبة بالتأسي للنظير بقوله: "هل لقي هذا معي أحد؟" فعندها تسهل المصيبة وتنزل السكينة وتحل الطمأنينة إذا رأى مثله أو من هو فوقه في المصيبة.

وفيه إثارة طاعة الرسول على ودّ القريب، وتقديم حب الله ورسوله على ما سواهما من كل ما لذ وطاب.

وفيه مشروعية سجود الشكر وهي سجد مستقلة عند نعمة حاصلة أو نقمة سالمة، وليس لها ذِكر معين ولا تكبير ولا تسليم.

وفيه التبشير بالخير وإدخال السرور على المسلم، وتبشير المسلم بما يسره، ومنها التهنئة لمن تجددت له نعمة أو اندفعت عنه نقمة؛ لقوله: "فيتلقاني الناس فوجًا فوجا يهنئونني بالتوبة"،

وفيه استحباب الصدقة عند التوبة، وهذا دليل وتثبيت لمن بدرت منه سيئة.

وفيه مشروعية التوبة وقبولها وتيسر أسبابها، وفيهم قال سبحانه: (وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة:118].

وفيه أن المرء إذا ضاقت به السبل، وانقطعت به الحيل، وحصل له مضائق وهمّ ومأزق فليس له إلا الرب الواحد الرازق يكشف همه، ويزيل غمه، ويُذهب كربه، ويشفي مرضه ويقبل توبته، ويقضي دينه، ويشرح صدره، ويسدل عليه رحمته، ويسبغ عليه عافيته، كلّ يوم هو في شأن.

وفيه -ولاسيما ونحن بحاجة إلى ذلك- أن في أوقات الفتن وأزمان المحن وكثرة الأقوال اللامعة والعبارات الساطعة، كل طائفة باطلة وفئة ضالة تنادي لها، وتتعصب لقولها وتسب غيرها بل وتكفرها، فاسمع قول كعب:

دفع إليَّ كتاب من غسان فإذا فيه "أما بعدُ، فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك –أي: رسول الله- ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء. فتيممت بها التنور فسجرتها".

هكذا الفتن تدفع وهكذا تُرفع بالبعد والنأي عنها، وعدم التطلع لها والاستشراف لها، لاسيما في مواقع التواصل الاجتماعية، وفيه الثبات على معتقد أهل السنة مهما كانت المتغيرات والشهوات والإغراءات، وعدم الاغترار بما عليه الأشرار وسوء الأفكار والانحراف والانجراف وراء كل ما قام ودار.

هذا وأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينصر دينه...