المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | حسين بن حسن أحمد الفيفي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة - أهل السنة والجماعة |
وقد دلَّس كثير من المشعوذين والدجالين والضالين على فئام من الناس؛ فلبسوا ثياب المشايخ والدعاة، وظهروا بمظهر الصالحين التقاة، وخلطوا القرآن مع السحر؛ ليخدعوا الناس وليلبسوا عليهم دينهم. لهذا لا بد من تنبيه العامة والجهلة إلى خطر مثل هؤلاء، والتحذير منهم، نسأل الله السلامة والعافية..
الخطبة الأولى:
أما بعد: إن الله -سبحانه- ما أنزل داءً إلا وأنزل له شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله، والشرع المطهّر قد جاء بالحثّ على التداوي بطرقه الشرعية المباحة، والله -سبحانه- لم يجعل شفاءنا فيما حرم علينا، ومن طرُق العلاج التي شرعها الله لعباده الرقية الشرعية، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرقي نفسه، فقد ثبت أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "يَا مُحَمَّدُ، اشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ، اللَّهُ يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ"(رواه مسلم:4056).
والرقية الشرعية فيها أجر عظيم لمن احتسب الأجر في ذلك، قَال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ"(رواه مسلم:4077). وهي من طُرُق وسُبُل الدعوة إلى الله -سبحانه-، خاصة أن بعض المراجعين والمرضى يكون لديهم تقصير في أمور دينهم.
ولكن في الآونة الأخيرة انتشر الرقاة بكثرة عجيبة، وفتحوا دورًا للرقية الشرعية، وهذا لم يكن معروفًا في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه ولا في عهد السلف الصالح، وقد افتتن الناس بهؤلاء الرقاة، وأقبلوا عليهم وهم قد يُعْذَرُونَ في ذلك؛ لكون من عنده مرض أو لديه قريب مريض فإنه يبحث عن العلاج بكل ما يستطيع وبشتَّى الطرق، ولكن بعض الرقاة استغل هذا الجانب في الكذب على الناس وجمع أموالهم والعبث بمحارمهم.
بل إنه قد وجد من بعض الرقاة تحرّش ببعض من يراجعنه من النساء ومسّ أجسادهن وعوراتهن بحجّة أنه يريد إخراج الجنيّ أو إبطال السحر، وربما يكون بعض هؤلاء الرقاة ليسوا على عقيدة سليمة، وربما تعاطوا السحر والاستعانة بالجن.
وقد دلَّس كثير من المشعوذين والدجالين والضالين على فئام من الناس؛ فلبسوا ثياب المشايخ والدعاة، وظهروا بمظهر الصالحين التقاة، وخلطوا القرآن مع السحر؛ ليخدعوا الناس وليلبسوا عليهم دينهم. لهذا لا بد من تنبيه العامة والجهلة إلى خطر مثل هؤلاء، والتحذير منهم، نسأل الله السلامة والعافية.
وقد ذكر العلماء أن شروط الرقية الشرعية ثلاثة:
أولها: أن تكون من القرآن الكريم والسنة النبوية.
وثانيها: أن تكون باللغة العربية.
ثالثها: أن يعتقد الراقي والمسترقي أن الشفاء من الله حقيقة.
ومن أعظم الأسباب التي تعين على الشفاء -بإذن الله- استشعار عظمة آيات الله، والتوكل على الله -جل وعلا-، فلا بد من اليقين أن الشفاء بيد الله وحده، وكذلك قوة إيمان الراقي والمرقي بالله وحده وثقتهم بأن النفع الضر بيده وحده؛ لأن من الناس من يسلك كل طريق في العلاج ثم يقول: "أجرّب الرقية الشرعية، وهذا خطأ عظيم، وقد يكون له أثر في عدم حصول المقصود من الرقية الشرعية".
والأفضل للمريض أن يقرأ على نفسه ولا يطلب ذلك من غيره، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : "ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّم مِنْ جَسَدِكَ وَقُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ، ثَلَاثًا، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ"(رواه مسلم4082). فأمره -صلى الله عليه وسلم- أن يضع يده ويقرأ هو على نفسه؛ لأن المريض هو الذي يقاسي الألم ويعانيه وليس الراقي، فدعاؤه يكون أقرب لكونه يظهر الحاجة والفقر إلى مولاه -سبحانه-، وكلما كان العبد في حالة ذلّ وفقر وحاجة إلى مولاه كان أقرب للإجابة.
وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن من صفات السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب: أنهم "لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون"(رواه البخاري 5705، ومسلم 220). ومعنى "لا يسترقون"؛ أي: لا يطلبون من غيرهم أن يرقيهم، وطلب الرقية وإن كان جائزًا في الأصل إلا أن الحديث يُرشِد المسلم إلى أنه إن استطاع أن يرقي نفسه فهو أفضل لما فيه من التوكل على الله ورسوخ اليقين الذي هو أعظم المنازل والمقامات عند الله -تعالى-، بل هو علامة الإيمان.
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرقي نفسه، ففي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتها"(رواه البخاري 4085، ومسلم 4066). قال ابن تيمية: "فمدح هؤلاء بأنهم لا يسترقون، أي: لا يطلبون من أحد أن يرقيهم، والرقية من جنس الدعاء، فلا يطلبون من أحد ذلك، وإن كان الاسترقاء جائزًا".
و"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ"(رواه مسلم 4065). والنفث شبيه بالنفخ. وعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا أَتَى مَرِيضًا أَوْ أُتِيَ بِهِ قَالَ: "أَذْهِبْ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لا شِفَاءَ إِلا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا"(رواه البخاري 5243).
وقد يلجأ بعض الرقاة إلى ضرب بعض المرضى، وقد يصل هذا الضرب إلى أن يكون مبرحًا وشديدًا، بل وصل الحال أن بعض المرضى مات من شدَّة الضرب، وهذا خطأ عظيم يقع فيه بعض الرقاة، والمريض بعد إفاقته يعاني من ذلك الضرب الذي وقع على جسده؛ لذلك فأنا أوصي الرقاة بعدم استخدام الضرب، فالمريض بحاجة إلى علاج وتخفيف وليس بحاجة إلى زيادة المرض عليه.
والآيات التي تتلى على المريض هي أقوى من ذلك الضرب، بل ربما تؤدي إلى قتل الجني المتلبس وحرقه، وهذا مجرب ومعروف. والضرب فيه مخاطر كبيرة وهو فعل غير منضبط، ولا يجوز القول بالجواز من باب سدّ الذريعة حتى لا يقع الناس في المحظور.
وكذلك فإنه لا بد للراقي أن يتقيد بالضوابط الشرعية عند رقيته للنساء، ومن ذلك تقيّد المرأة بلباسها وحجابها الشرعي الإسلامي، وعدم الخلوة بها أو النظر إليها أو مس المرأة الأجنبية في أي موضع أو مصافحتها، وقد ثبتت بذلك الأدلة النقلية من السنة المطهرة، من ذلك حديث معقل بن يسار -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له"(السلسلة الصحيحة 226).
وبعض الرقاة ممن أقحم نفسه في هذا الأمر دون علم شرعي أو سؤال العلماء الأجلاء لا يمنعه تقوى ولا خوف من الله من لمس المرأة الأجنبية في أيّ موضع كان، وهذا يؤدِّي إلى مفسدة عظيمة على الراقي والمريض، ويؤدِّي فتح هذا الباب إلى استغلال ذلك من بعض ذوي النفوس المريضة، ويصبح ذريعة إلى مفسدة أعظم وأشد.
سئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين عن جواز أن يمس القارئ شيئًا من جسد المرأة أثناء الرقية أو الكشف عن يديها أو صدرها للنفث، فأجاب -حفظه الله-: "لا مانع من استعمال الرقية على المرأة مع النفث والنفخ، ولكن لا يحل لها أن تكشف شيئًا من جسدها لغير النساء أو المحارم، ولا يحل للقارئ الأجنبي أن يباشر لمس بشرتها بدون حائل، بل يقرأ عليها وهي متحجبة، أو يقرأ عليها إحدى نسائها أو محارمها، أو تقرأ هي على نفسها بما تيسر من القرآن، فالكل يرجى فيه الشفاء والنفع من الله"(النذير العريان: ص267).
وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن حكم مسّ جسد المرأة يدها أو جبهتها أو رقبتها مباشرة من غير حائل بحجة الضغط والتضييق على ما فيها من الجان، خاصة أن مثل هذا اللمس يحصل من الأطباء في المستشفيات، وما هي الضوابط في ذلك؟ فأجابت اللجنة -حفظها الله-: "لا يجوز للراقي مس شيء من بدن المرأة التي يرقيها لما في ذلك من الفتنة، وإنما يقرأ عليها بدون مس، وهنا فرق بين عمل الراقي وعمل الطبيب؛ لأن الطبيب قد لا يمكنه العلاج إلا بمس الموضع الذي يريد علاجه، بخلاف الراقي فإن عمله وهو القراءة والنفث لا يتوقف على اللمس".
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
كثيرة هي المخالفات الشرعية التي يقع فيها بعض الرقاة، حتى ولو كانوا من أهل الاستقامة والصلاح، فإن الشيطان وجد طريقه في النيل منهم وإيقاعهم فيما يحرم من أفعال وأقوال، ومن ذلك:
التفرُّغ للرقية والاتجار بها، وبعضهم يستأجر الاستراحات والصالات لممارسة هذا العلاج الروحاني كما يقولون، وذلك من بدع العصر الحاضر، إذ لم يكن في عرف السلف الصالحين ولا الأئمة المتبوعين مثل هذا التفرّغ، ومتى كانت الرقية الشرعية محصورة في أناس معينين؟!
المبالغة في الأموال التي يأخذونها من المرضى، حتى إنه وصل سعر بعض القوارير المقروء عليها إلى آلاف الريالات، وبعض المراجعين والمرضى هم في أمسّ الحاجة لهذا المال، فبعضهم يعيش الفقر والحاجة، وربما اقترض لشراء ذلك العلاج. وقد يحتج بعض الرقاة بقولهم: أنا لا آخذ مالاً على الرقية نفسها، وإنما أبيع الماء والزيت والعسل وغير ذلك، ولكن السؤال: كم هو السعر الذي يبيع به؟!
الضرب المبرح للمريض، واستخدام أدوات في ذلك كالعصيّ، والكيُّ بالكهرباء.
ادّعاء بعضهم أنّه قادر على تحديد مكان الجني من الشخص المتلبّس، أو أنّه رأى الجني وهو يخرج من بدن المتلبَّس.
اقتصار كثير منهم على إسماع المريض آيات الرقية من شريط مُسَجّل، دون القراءة المباشرة على المريض، وذلك لا يغني عن الرقية؛ لأنها عمل يحتاج إلى اعتقاد ونية ومباشرة النَّفْثِ والنفَس. وقد ذكر العلماء أن أركان الرقية ثلاثة: الراقي والمرقي عليه والرقية نفسها، وهنا تخلف ركن منها.
الخلوة بالمرأة الأجنبية، ومسُّ جسدها أو يدها أو جبهتها أو رقبتها؛ بحجة الضغط على الجني والتضييق عليه، وتسويغ بعضهم لذلك -بتأويل باطل- بأنه مثل الطبيب المعالج، بل تعدى بعضهم إلى مس عورة المرأة بحجة إخراج الجان من ذلك المكان أو إبطال السحر الذي في الرحم.
ادّعاء بعضهم أنّه يتعامل مع الجن المسلم في فك السحر، أو في علاج المتلبّس، أو معرفة نوع إصابته ونوع علاجها، وعلى فرْض صحة تلك الدعوى فهو مما لا يجوز، ولا يعتبر وسيلة شرعية في العلاج، بل هو قد يصل ذلك إلى الشرك؛ لأنَّ الله -سبحانه- يقول: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا)[الجن:6]، ويقول -سبحانه-: (وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ)[الأنعام:128].
الرقية بمكبر صوت، أو عبر الهاتف، أو الرقية الجماعية، والرقية الجماعية فيها من المحاذير الشرعية والأخطاء كثير وكثير، كتكشّف النساء، والاختلاط بين الرجال والنساء، وربما تلبس الجان بآخرين، وغير ذلك.
الكلام الكثير مع الجني المتلَبِّس، حتى أصبحنا نرى كتبًا وأشرطة فيها محاورات ومناقشات مع الجن، وتصديقه فيما يدّعي حول السحر والعين، والبناء على دعواه.
والاستعانة بالجن في معرفة مكان السحر وغير ذلك، سواء كانت تلك الاستعانة بالقرين أم بغيره، فكل ذلك من كيد الشيطان وتلبيسه على أولئك الرقاة، مع أن أولئك الجان المتلبسين بالمرضى يكذبون كثيرًا، وربما أدى تصديقهم إلى زرع الضغينة بين الأقارب والأرحام والجيران؛ بحجة أنهم الذين تسببوا في المرض أو العين، فيؤدي ذلك إلى قطيعة الأرحام والعياذ بالله، وكل ذلك بسبب تصديق هؤلاء الجان المتلبسين بالمرضى.
هذا، وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه...