السبوح
كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن صالح العجلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أركان الإيمان |
أما عمران بن حصين فقد حدَّث في مجلس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الحياء خير كله", فقال له أحد الجالسين: إنا نجد في الحكمة أن من الحياء وقاراً, ومن الحياء ضعفاً -أي ليس كله خير-, وإذا بحماليق عيني عمران بن حصين تدور في محاجرها من الغضب وجعل يقول: "أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وتحدثني عن كتبك"...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين, وخالق الخلق أجمعين، نحمده على آلائه، ونشكره على فضله وامتنانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, ونشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه, وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، اتقوا الله وراقبوه, واتقوه بفعل أوامره, واجتناب نواهيه؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2، 3].
من أينَ أبدأ ُوالحديثُ غــرامُ؟ | فالشعرُ يقصرُ والكلامُ كلامُ |
من أينَ أبدأ ُفي مديح ِمحمـــدٍ؟ | لا الشعرُ ينصفهُ ولا الأقلامُ |
هو صاحبُ الخلق ِالرفيع ِعلى المدى | هو قائدٌ للمسلمينَ همــامُ |
هو سيدُ الأخلاق ِدون منافـس ٍ | هو ملهمٌ هو قائدٌ مقـــــدامُ |
ماذا نقولُ عن الحبيبِ المصطفى؟ | فمحمدٌ للعالمينَ إمــــــامُ |
ماذا نقولُ عن الحبيـبِ المجتبى؟ | في وصفهِ تتكسرُ الأقـــلامُ |
الحديث عن حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث تنجذب له الأرواح، وتهفو له القلوب، وتصغي له الآذان؛ فالحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- حديثٌ للإيمان والتقوى.
والعيش مع سيرته -صلى الله عليه وسلم- وفي كنف أخلاقه ليس له وقتٌ محدد ينتهي بمروره وينقضي بزوال أيامه.
ومحبته -صلى الله عليه وسلم- ليست احتفالات وتبريكات، وتمايل ورقصات, محبة النبي -عليه الصلاة والسلام- الحقة، هي الاستجابة له صدقا فيما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)[الأنفال: 24].
محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- الصادقة هي في اتباعه، وتعظيم قوله، وإجلال شريعته، لا أن تنسف أقواله، وتميع أوامره تحت ذرائع شتى؛ قال -تعالى-: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[القصص: 50].
فتعالوا إلى نماذج برَّاقة، ولوحات وضَّاءة، من مواقف سلفنا وصالحي أمتنا في استجابتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فبمثل هذه المواقف يغرس الإيمان والتقوى، ويحيا الاتباع والهدى، وتوعظ النفوس عن الهوى.
كانت مواقفهم في استجابتهم مدرسة لمن بعدهم، كانوا يتلقون كلام نبيهم -صلى الله عليه وسلم- بالحفاوة فلا يٌستهان به، وبالامتثال فلا يعرض عنه، وبالحب فلا يكره المؤمن شيئا مما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وكانوا يتلقونه أيضاً بالتحاكم إليه والرضا به، واعتقاد أنه الأكمل والأهدى.
وبهذا التوقير والإجلال، سطروا أروع الأمثال، في الاستجابة والامتثال, ها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلقي كلمات مختصرات فيقول: "لو تعلمون ما أعلم؛ لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا, ولخرجتم إلى الصعدات تجرأون إلى الله"، نعم هي عبارات معدودات، ولكنها لم تكن مجرد كلمات تذهب في الهواء، فكيف كان وقع هذه الجملة القصيرة على نفوس أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-؟, "لقد غطوا رؤوسهم ولهم خنين من البكاء".
هذه القلوب التي امتلأت تعظيما وطاعة واستجابة لكلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، هي التي أثرت بعد أن تأثرت، وربَّت بعد أن تربت، وأصبح خبرهم سلفا ومثلا لمن بعدهم, لماذا؟؛ لأن الواحد منهم لم يكن يتلقى القول النبوي على أنه كمٌّ معرفي، أو تكديس ثقافي، أو ذوق أدبي، ولكن كان يتلقاه باستشعار أنه نور، فلا تسل بعد ذلك عن عمله وتشبثه بهذا النور.
كانت نفوسهم تتشوف وتتشوق للكلمات النبوية، وتتحينها بشغف ونَهَمٍ، فكانت استجابتهم وامتثالهم أمراً عَجَباً, هذا عبد الله بن عمر الذي اشتهر عند أهل زمانه بشدة تمسكه بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، سمع ابن عمر -رضي الله عنه- ذلك الشاب اليافع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يشير إلى باب من أبواب المسجد فيقول: "لو تركنا هذا الباب للنساء", إنه مجرد عرض واقتراح وليس أمراً ملزماً، فكيف استجاب عبدالله بن عمر لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "لو تركنا هذا الباب للنساء"؟, كانت استجابته أنه: لم يدخل من هذا الباب حتى مات -رضي الله عنه-!.
ومع ابن عمر -رضي الله عنه- أيضاً، وما أجمل أخبار ابن عمر, يصله خبر حبيبه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال فيه: "نعم الرجل عبدالله لو كان يقول من الليل"، وإذا بهذه الكلمة المختصرة تغير مجرى حياة ابن عمر، فكان ابن عمرَ بعدها لا ينام من الليل إلا قليلا.
وهذا عبد الله بن رواحه أحد شهداء غزوة مؤتة, تجره رجلاه نحو مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإذا به يسمع صوت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو على منبره يخاطب الناس: "اجلسوا"، وابن رواحة لم يدخل المسجد, فما كان منه -رضي الله عنه- إلا أن جلس خارج المسجد حتى فرغ النبي -صلى الله عليه وسلم- من خطبته, فبلغه ما فعل ابن رواحة فقال له: "زادك الله حرصا على طواعية الله ورسوله".
أما الوعيد النبوي والنهي المحمدي فقد كان يقع على قلوبهم موقعاً عظيماً, وإن كان في أمر يستصغره كثيرٌ من الناس, ها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشرف على صحابته, وإذا به يرى في يد أحدهم خاتماً من ذهب, فيأخذه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من يده ثم يرمي به, ويقول: "يعمد أحدكم إلى جمرة من النار فيضعها في يده".
وينظر الرجل إلى خاتمه يلقى, ينظر إلى ماله يلقى بعيدا عنه, فماذا صنع الرجل؟, انفض المجلس, فقال بعضهم له: "لو أخذت خاتمك فانتفعت به"؛ لأن الرسول إنما نهاه أن يضعه في يده، فقال الرجل: "لا والله, لا آخذه؛ وقد ألقاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
أما عمران بن حصين فقد حدَّث في مجلس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الحياء خير كله", فقال له أحد الجالسين: إنا نجد في الحكمة أن من الحياء وقاراً, ومن الحياء ضعفاً -أي ليس كله خير-, وإذا بحماليق عيني عمران بن حصين تدور في محاجرها من الغضب وجعل يقول: "أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وتحدثني عن كتبك"!.
وهذا عبدالله بن مغفل -رضي الله عنه- يرى ابن أخ له يخذف بالحصى فنهاه, وقال له: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الخذف, وقال: "إنها لا تصيد صيدا, ولا تنكأ عدوا، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين", فعاد ابن أخيه يخذف بالحصى, فغضب منه عبدالله غضبا شديداً, وقال: "أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عنها ثم تعود إليها, لا أكلمك أبداً".
تلك -عباد الله- لمحات يسيرة من نماذج كثيرة في إجلال الصحابة لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتعظيمهم لنهيه، ترجموا محبتهم الصادقة بالتأسي والاتباع، وترك الإحداث والابتداع، فكانوا بهذا طليعة خير أمة أخرجت للناس.
أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ, وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ, فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ؛ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان: محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- دين وإيمان، وطاعة وقربان، وهي منهج للمؤمن في حياته كلها؛ فالمؤمن الحق المحب لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بصدق، لا يختزل محبته في أيام معدودة، ولا يجعل من هذه المحبة مجرد عواطف وجدانية لا أثر لها في حياته, فأعظم حقوق النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته ومحبيه هي طاعته والاقتداء به، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)[الأحزاب: 21].
فما أحوجنا أن نملأ بمحبته قلوبنا، وأن نتعلم من سيرته العلم والعمل، وأن نربي على أخلاقه الكريمة صغارنا وكبارنا، ما أحوجنا أن نتربى عليها صغارًا وكبارًا، ونعتقد فضلها سرًا وجهارًا، وتظهر آثارها علينا ليلاً ونهارًا، فسيرته للقلوب حياة، واتباعه هداية ونجاة، وذكره عبادة وحسنات، فهو الأسوة الحسنة للسالكين، وهو -عليه الصلاة والسلام- قبلةُ قلوب المؤمنين، وهداية للبشر أجمعين، فالمبادئ العليا، والمثل الراشدة، إنما تخرج منه وتعود إليه.
يا خاتمَ الرسل الكرام محمدٌ | بالوحي والقرآن كنتَ مطهرا |
لك يا رسول الله صدقُ محبةٍ | وبفيضها شهِد اللسانُ وعبّرا |
لك يا رسول الله صدقُ محبةٍ | فاقتْ محبةَ كل مَن عاش على الثرى |
لك يا رسول الله صدقُ محبةٍ | لا تنتهي أبداً ولن تتغيرا |
لك يا رسول الله منا نصرةٌ | بالفعل والأقوال عما يُفترى |
نفديك بالأرواح وهي رخيصةٌ | من دون عِرضك بذلها والمشترى |
الرحمةُ المهداةُ جاء مبشِّرا | ولأفضلِ كل الديانات قام فأنذرا |
ولأكرمِ الأخلاق جاء مُتمِّماً | يدعو لأحسنِها ويمحو المنكرا |
صلى عليه اللهُ في ملكوته | ما قام عبدٌ في الصلاة وكبّرا |
صلى عليه اللهُ في ملكوته | ما عاقب الليلُ النهارَ وأدبرا |