المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن مما ينبغي التنبه إليه أهمية التفريق بين المتقاربات المفترقات، هناك معاني متقاربة متباعدة في آنٍ واحد، والإنسان قد يُشْكِل عليه التفريق بينها، فيقع في سوء التقدير. مثال ذلك: الكرم والإسراف، الثقة في النفس والغرور، الشجاعة والتهور، السماحة والسذاجة، الوقار والكبر، التواضع والخفة.. هذه الصفات والمعاني تتقارب في ظاهرها بدون اللفظ، تتقارب في الفعل في ظاهرها، ولكن اللفظ يفرق بينها؛ لأنها في الحقيقة ليست شيئًا واحدًا.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: إن مما ينبغي التنبه إليه أهمية التفريق بين المتقاربات المفترقات، هناك معاني متقاربة متباعدة في آنٍ واحد، والإنسان قد يُشْكِل عليه التفريق بينها، فيقع في سوء التقدير. مثال ذلك: الكرم والإسراف، الثقة في النفس والغرور، الشجاعة والتهور، السماحة والسذاجة، الوقار والكبر، التواضع والخفة.
هذه الصفات والمعاني تتقارب في ظاهرها بدون اللفظ، تتقارب في الفعل في ظاهرها، ولكن اللفظ يفرق بينها؛ لأنها في الحقيقة ليست شيئًا واحدًا.
هناك فرق بين الكرم والإسراف، فمع أن الكرم بذل والإسراف بذل أيضًا؛ إلا أن الفرق بينهما كبير، فالكرم في العموم من الأخلاق العريقة القديمة التي عرفها العرب وغيرهم منذ الأزل، ولما جاء الإسلام أثنى على خُلق الكرم، وحثَّ على إكرام الضيف وإكرام الجار، بل جعل الكرم من كمال الإيمان بالله، في صحيح البخاري من حديث أبي شريح قال -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته"، قيل: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: "يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت".
لكن في الوقت ذاته الله -سبحانه وتعالى- يقول في محكم كتابه: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف:31]، ويقول جل جلاله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان:67].
فالكرم بمعنى الجود بالمال في الضيافة، أو إظهار نعمة الله بالاقتناء بشكل عام ضابطه اثنان: النية والعمل، فالنية في أن تكون تلك النية خالية من طلب الرياء والسمعة أو طلب الفخر وإظهار الخيلاء، وقد قال عليّ -رضي الله عنه-: "وما أنفقت رياء وسمعة فذلك حظ الشيطان".
أما العمل فبأن يكون في مباح، وأن يكون المقدار صحيحًا عرفًا، الإسلام لا يترك للإنسان كامل الحرية في التصرف بالمال، وإنما يهذّب دورة المال، من بداية نقاء مصدره مرورًا بصحة أسلوب التعامل معه، وصولاً إلى سلامة إنفاقه، يهذّبه بما فيه مصلحة للإنسان في دينه ودنياه تهذيبًا ربانيًّا من واهب المال سبحانه.
ولا يعترض على هذا التهذيب إلا المرجف كاعتراض قوم شعيب -عليه السلام- لما قالوا: (يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود: 87]، (أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء) يعني ما علاقة الدين بالمال؟! ما علاقة الدين بالاقتصاد؟!
الكرم خُلق جميل ومحمود في الإسلام، لكن بقدر لا يجاوز العرف الصحيح، العرف هو ما تعارف عليه الناس من العادات والأفعال والأقوال التي شاعت حتى عرف معناها ومغزاها واستتبت في الناس، هذا العرف لا يعتبر صحيحًا غير فاسد، إلا إذا توفرت فيه أربعة شروط: أن يكون العرف غالبًا لا نادرًا ولا مجهولاً، وألا يكون شيئًا من أعراف الماضي بل يكون قائمًا في وقت الحكم عليه ذلك العرف ما انتهى وغاب، وألا يعارضه عرف آخر مضاد له، وألا يكون مخالفًا لنص شرعي أو حكم مجمع عليه.
وإذا قسنا على أساس هذا العرف المكتمل الشروط استطعنا التفريق بين الكرم والإسراف، الكرم بمفهومه الواسع يطلق على كل ما يُحمَد من أنواع الخير والشرف والعطاء والجود والإنفاق، أما الإسراف فهو مجاوزة الحد في استعمال الأشياء.
والسبيل إلى اتهام الكرم بأنه إسراف؛ لأن كثيرًا من الناس ينتقدون بعض الأفعال، ويقولون: هذا فيه إسراف، أو ذاك فيه إسراف فيأتي الآخر ويقول: يا أخي ما فيه إسراف إنسان أعطاه الله -عز وجل- من المال وما فعل شيئًا محرمًا، فدعه يفعل ما يشاء.
نقاش بين الناس وجدال حول هذا الحد، السبيل إلى اتهام الكرم بأنه إسراف مع وجود التفاوت في وفرة المال بين الناس الأغنياء في إنفاقهم ومعيشتهم ليسوا كمتوسط الحال أو من هم دونهم، هو أمر دقيق مختلف تختلف فيه الأنظار، ولكن يمكن إطلاق الإسراف عليه إذا كان خارجًا عن العرف واضحًا فيه الاختيال وطلب المباهاة والفخر.
صح في الجامع الصغير من حديث عبد الله بن عمر أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة"، فالعُرف الخاص بالطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الشخص؛ من حيث الغنى والفقر، يعرفه العقلاء الراشدون، لا بد من مرتكز يعرفه العقلاء الراشدون الذين تعارف الناس على رشدهم وعلى عقلهم، وبالتالي يُنظر إلى ما يعده أكثر العقلاء والراشدين في هذه الطبقة أو تلك إسرافًا فهو إسراف، وما يعدونه كرمًا فهو كرم.
الفيصل هو ما تعارف عليه الراشدون من أهل الغنى أو من أهل الطبقة الوسطى في حالهم وما ينفق في تلك الطبقة، فإذا كانوا لا يفعلونه ويرونه إسرافًا فهو كذلك، وإلا فلا عبرة بسواهم.
ولا شك أن من علامات ما هو إسراف ندرة وقوعه وغرابته، إذ ثمة أفعال للراشدين أيًّا كانوا مستواهم المالي متفق على ذمّها وعدها إسرافًا، كمن يدفع ألف دولار مثلاً في تسريح شعره، أو كمن يصرف مئات الآلاف لشراء حذاء –أعزكم الله وأجلكم- أو لباس ما، أو من يصرف مئات الملايين من أجل شراء ناقة أو ماعز، أو من يملأ قاعة النساء في حفل زواج ابنته بأواني الذهب والفضة أو ما شابه ذلك.
حتى لو كان غنيًّا، فالغنى لا يبرر جنون السرف، ففي مسند الإمام بسند صحيح عن عبدالله بن عمرو، قال مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بسعد بن أبي وقاص وهو يتوضأ فقال: "ما هذا السرف يا سعد؟" يعني كان يكثر من الماء يصب الماء صبًّا وهو يتوضأ، قال: "أفي الوضوء سرف؟" يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "نعم وإن كنت على نهر جارٍ"، فينبغي التفريق بين الكرم والإسراف؛ فإن بينهما خطًّا قد يكون رفيعًا جدًّا لا يُرَى في بعض الأحيان.
ومن المتقاربات المفترقات: الثقة بالنفس والغرور، فرغم تقارب الصفتين في المظهر العام إلا إن صفة الثقة بالنفس بعيدة عن الغرور تمامًا، الثقة بالنفس شعور بالرضا عن الذات والاطمئنان إلى حسن اختيارها للكلام أو للموقف، أما الغرور فهو اعتداد أعمى بالرأي بلا نقاش وشعور بالعظمة والكمال مع تنقيص لآراء الآخرين.
الثقة بالنفس شعور مطلوب بشرط أن يكون متصلاً بالسماء، الثقة بالنفس مصدرها الصحيح الثقة بالله –سبحانه- أولاً، والتوكل عليه، ثم تأتي المصادر الثانية: العلم والوعي والحكمة والقوة.. كلها مصادر لكن قبل ذلك أن يكون قد رد الفضل لله -عز وجل-.
والقرآن ينص على ذلك إما تلميحًا أو تصريحًا، يقول تعالى مخبرًا عن أحد مواقف نبيه هود لما جادله قومه: (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ* إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [هود: 54- 56].
إنه الصوت الحازم والثقة بالنفس، العبارات الواثقة لكن ثقتها بالله قبل النفس (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم)[هود: 56].
هذا نبي الله سليمان -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- يتكلم مع جنوده بكل ثقة وثبات واستعلاء على الباطل عندما وصلته هدية بلقيس (فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ) [النمل: 36-37].
وبنفس هذه اللهجة الواثقة أرجع الفضل لربه لما رأى عرش الملكة العظيم مستقرًّا أمامه قائلاً: (هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل: 40]، فرق بين الغرور وبين الثقة في النفس.
وهذا ابن تيمية -رحمه الله تعالى- الرجل العملاق في علمه الشرعي والسياسي والاجتماعي، العملاق في حكمته وخُلقه، صاحب المواقف التاريخية الواثقة، الراسخة، سواء في مواجهته للخرافيين السحرة أو تثبيته لجيش المسلمين في مواجهة التتار لما قال دعاة الهزيمة والتردد قاموا ينشرون الفزع في القلوب وكان يحلف بالله: "والله إنكم لمنصورون" يقول للجيش، فيقول بعض الأمراء له: "قل إن شاء الله"، فيقول: "ثقة نفس ويقين أقولها إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا"، فاطمأنت إلى موقفه القلوب، وسكنت إلى كلامه النفوس.
هذا الواثق بنفسه هو نفسه الذي يقول كثيرًا: "ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا فيّ شيء"، وبعث إلى تلميذه ابن القيم أوراقًا فيها قاعدة للتفسير بخطه، وعلى ظهرها أبيات من نظمه:
أنا الفقيـر إلـى رب السموات | أنا المسكين في مجموع حالاتـي |
أنا الظلوم لنفسي وهـي ظالمتـي | والخير إن جاءنا من عنده يأتي |
لا أستطيع لنفسي جلـب منفعـة | ولا عن النفس في دفع المضـرات |
والفقـر لي وصـف لازم أبـدًا | كمـا الغنـى وصـف لــه ذاتي |
وهذا ربعي بن عامر يتقدم بخط واثقة عزيزة واثق من نفسه -رضي الله عنه- إلى قائد الفرس رستم، وهو قابع على سرير مرصع بالذهب يتوكأ ربعي على رمحه في ممشاه ويخرق بذلك الرمح كل مخدة صادفته في الطريق، هذا الواثق من نفسه يخضع للحق، ويقول كلامًا يرجع لا لنفسه ولا للمسلمين ولا للمجاهدين كلهم بل يرجعه لربه وحده يسأله رستم ما جاء بكم؟ فيرد قائلاً "الله"، لا قواتنا ولا فلسفتنا ولا أعدادنا ولا شجاعتنا الله سبحانه وتعالى..
الله ابتعثنا لنُخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبِل ذلك قبلنا منه، ورجعنا عنه، ومن آبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله.
مشاهد الثقة بالنفس، أما مشاهد الغرور، مشهد قارون يذكّره قومه بالله الذي آتاه المال الكثير (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) [القصص: 76]، فيسند إلى نفسه الفضل في الثراء دون الله، هذا هو الغرور، يقول: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي)[القصص: 78]، ويقول الله -سبحانه وتعالى-: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص: 78].
الغرور الذي يجعل صاحبه يقارن بين نفسه والناس، وأنه هو الأفضل كقول فرعون المغرور (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ)[الزخرف: 52]، يقصد موسى عليه السلام.
هذا لا يُعد ثقة بالنفس، هذا هو الغرور، المغرور معجب بنفسه متغطرس، مختال، متعال، أما الواثق من نفسه فوقور مطمئن بعيد عن الريبة والخوف ولكنه متواضع.
أسأل الله أن يبصّرنا بأنفسنا إلى الحق، وأستغفره فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من سار على نهجه واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: فمن المتقاربات المفترقات: الشجاعة والتهور، ففي الظاهر الصفتان قريبتان، ولكن بالحقيقة هم متباعدتان في نوع الشخصية، فالشجاع مقدام شديد القلب رابط الجأش يتمتع بقوة معنوية تمكّنه من مقاومة المحن ومجابهة الخطر، والصبر على الألم، ولكنه يتمتع في الوقت ذاته بحسن التصرف والذكاء، ولا تكون شجاعة الشجاع إلا في مواطن تحصيل الخير أو دفع الباطل، فسَمْته العقل والرزانة، هذا هو الجدير بأن يسمى شجاعًا.
أما المتهور فمندفع جسور، ولكن بلا تفكير، ومخاطر مغامر ولكن بلا روية، ولذلك تراه يلقي بنفسه في التهلكة لأتفه الأسباب، سَمْته الطيش والسفاهة، هذا جدير بأن يُوصَف بالتهور لا بالشجاعة.
الصفتان متشابهتان في الظاهر، متشابهان في قوة الشكيمة والإقدام، ولكنهما مفترقتان في حقيقة السمات وفي الهدف، وقسْ على هذا في العديد من الصفات كالوقار والكبر والاقتصاد والبخل والتواضع والخفة والسماحة والسذاجة إلى آخره.
يحسن أن نتنبه للتقدير الصحيح، للتقدير والتفريق بين المتشابهات المفترقات من الصفات حتى نكون عند الله -عز وجل- من المقسطين، والله المستعان.
أسأل الله تعالى أن يشرح صدورنا بذِكْره، وأن يثبتنا على الهدى والتقى، وأن يملأ قلوبنا بالإيمان..