العربية
المؤلف | عبد الله بن عبد الرحمن البعيجان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
ولقد تعلَّقَت بها قلوبُ الزائرين، وتركَت في نفوسهم ذكرياتِ الحنين، فرقَّت قلوبُهم إليها متلهفينَ، فاللهم اجعلنا لها من المحبينَ، وفي ثراها من المدفونين...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومَنْ يضلل فلا هاديَ له، أشهد ألَّا إلهَ إلَّا الله وحدَه لا شريكَ له، يخلق ما يشاء ويختار، فاطرُ السمواتِ والأرضِ وكلُّ شيء عندَه بمقدار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، خاتم الأنبياء والمرسلينَ، بلَّغ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ، ونصَح الأمةَ وجاهَد في الله حقَّ الجهاد حتى أتاه اليقينُ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعدُ: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدَثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عبادَ اللهِ: اتقوا الله فيما أمَر، وكُفُّوا عمَّا نهى عنه وزجَر، واعلموا أن كل صغير وكبير مستَطَر، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْحَشْرِ: 18].
معاشرَ المسلمين: إن الله -تعالى- يختار للفضل محلًّا ومكانًا، كما يختار له وقتًا وزمانًا، وأهلًا وأعوانًا، وقد فضَّل في الأرض بعضَ البقاع، فكانت أشرفَ البلدان والأصقاع، فجعَل مكةَ مهبطَ الوحي، وقِبْلةَ المسلمين، وأُمَّ القُرى والبلد الأمين، والمسجد الحرام، ومهوى أفئدة المؤمنين، وشرَّف المدينةَ بهجرة النبي -عليه الصلاة والسلام-، فمنها انتشر الإسلام، وهي طَيْبَةُ، وبها طاب المقامُ، وما بين لَابَتَيْهَا حرامٌ، وهي مأرِزُه وملاذُه، ومسكنُه ومأواه ومدفنُه.
عبادَ اللهِ: لقد شرَّف اللهُ المدينةَ وفضَّلَها، وأمَر نبيَّه -عليه الصلاة والسلام- بالهجرة إليها، وحرَّم اللهُ ما بين لابَتَيْها، ولعَن مَنْ أحدَث فيها أو آوى مُحدِثًا فيها، فاعرفوا لها حقَّها، واستشعِرُوا لها حرمتَها، عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المدينة حرم من كذا إلى كذا، لا يُقطع شجرُها، ولا يُحدَث فيها حدثٌ، مَنْ أحدَث حدثًا فعليه لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعينَ"(رواه البخاري)، وعن عامر بن سعد عن أبيه قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إني أُحَرِّم ما بين لابَتَي المدينةِ أن يُقطع عضاهها، أو يُقتل صيدُها"(رواه مسلم)، وعن علي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المدينة حرَمٌ ما بين عَيْر إلى ثور، مَنْ أحدَث فيها حدثًا، أو آوى مُحدِثًا فعليه لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعينَ، لا يُقبَل منه صرفٌ ولا عدلٌ"(رواه البخاري).
معاشرَ المسلمين: المدينة مأرِز الإيمان، وسمَّاها اللهُ الدارَ والإيمانَ، فبِذَا تواتَر نزولُ القرآن، وفيها شُرعت الأحكامُ، وتوطَّدت الأركانُ، واستقر الأمانُ، ومنها انطلقت رايات الإسلام، ففُتحت البُلْدانُ، وأعزَّ اللهُ دينَه، ونصَر عبدَه، وهزَم عدُوَّه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الإيمان ليأرِز إلى المدينة كما تَأْرِزُ الحيةُ إلى حُجْرِها"(رواه مسلم).
عبادَ اللهِ: المدينةُ درعٌ منيعٌ، وحصنٌ رفيعٌ، تَنْفِي خبثَها، وينصع طِيبُها، وتحرُسُها الملائكةُ على أنقاضها، لا يدخلها رعبُ المسيح الدَّجَّال ولا الطاعون، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجالُ إلا مكة والمدينة، ليس له من نِقَابِها نَقْبٌ إلا عليه الملائكةُ صافِّين يحرسونها، ثم ترجُف المدينةُ بأهلها ثلاثَ رجفات، فيُخرج اللهُ كلَّ كافر ومنافق"(رواه البخاري)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "على أنقابِ المدينةِ ملائكةٌ لا يدخلها الطاعونُ ولا الدجالُ"(رواه مسلم).
عبادَ اللهِ: وليس لصاحب خَبَث وكيد بالمدينة مقامٌ، فعليها من الله السلام، عن عائشة بنت سعد قالت: "سمعتُ سعدًا -رضي الله عنه- قال: سمعتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يُكيد أهلَ المدينة أحدٌ إلا انْمَاعَ كما ينماعُ الملحُ في الماء"(رواه البخاري)، وعن جابر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المدينة كالكِير، تنفي خبثَها وينصع طِيبُها"(رواه مسلم).
معاشرَ المسلمين: إن إبراهيم قد حرَّم مكةَ ودعا لها بالبركة، وإن نبيَّنا -صلى الله عليه وسلم- قد حرَّم المدينةَ، ودعا لها بمثلَيْ ما دعا به إبراهيمُ لأهل مكة، فعن عبد الله بن زيد بن عاصم -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن إبراهيم حرَّم مكةَ ودعا لأهلها، وإني حرمتُ المدينةَ كما حرَّم إبراهيمُ مكةَ، وإني دعوتُ في صاعها ومُدِّها بمثلَيْ ما دعا به إبراهيمُ لأهل مكة"(رواه مسلم)، وعن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَيْ ما جعلتَ بمكة من البركة"(رواه البخاري).
عبادَ اللهِ: لقد كانت المدينةُ من أحبِّ البلادِ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان يُبادِلُها مشاعرَ الحب والوفاء، يُفصح بذلك ويُصَرِّح، عن عائشة -رضي الله عنه- قالت: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم حبِّب إلينا المدينةَ كَحُبِّنا مكةَ أو أشدَّ، اللهم بارِكْ لنا في صاعِنا وفي مُدِّنَا، وصَحِّحْها لنا، وانقُلْ حُمَّاها إلى الجُحْفَة"(رواه البخاري).
وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قَدِمَ من سفر فنظَر إلى جُدُرَاتِ المدينةِ أوضَع راحلتَه وإن كان على دابَّة حرَّكَها مِنْ حُبِّهَا"(رواه البخاري)، وكان إذا أقبَل إلى المدينة أسرعَ، فإذا بدا له أحدٌ قال: هذا جبلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّه"، فعن أبي حُمَيْد -رضي الله عنه- قال: "خرَجْنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك... وساق الحديثَ وفيه: "ثم أقبَلْنا حتى قَدِمْنا واديَ القرى، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إني مُسرِعٌ، فمَنْ شاء منكم فَلْيُسْرِعْ معي، ومن شاء فليمكُثْ، فخرَجْنا حتى أَشْرَفْنَا على المدينة، فقال: هذه طابةُ، وهذا أُحُدٌ، وهو جبلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّه"(رواه مسلم).
ولقد تعلَّقَت بها قلوبُ الزائرين، وتركَت في نفوسهم ذكرياتِ الحنين، فرقَّت قلوبُهم إليها متلهفينَ، فاللهم اجعلنا لها من المحبينَ، وفي ثراها من المدفونين.
وبعدُ معاشرَ المسلمين: فالمدينة خيرٌ لكم فلا ترغبوا عنها، المدينة خير لكم فلا ترغبوا عنها، اختارها اللهُ لنبيكم، فاختاروا ما اختار، وتأدَّبوا في الجوار، واعرفوا حق الجار، عن أبي زهير -رضي الله عنه- قال: "سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: تُفتَحُ اليمنُ، فيأتي قوم يَبُسُّونَ، فيتحمَّلون بأهليهم ومَنْ أطاعهم، والمدينةُ خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون، وتُفتَح الشامُ فيأتي قوم يَبُسُّونَ فيتحمَّلون بأهليهم ومَنْ أطاعهم، والمدينةُ خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون، وتُفتَح العراقُ، فيأتي قوم يَبُسُّون، فيتحمَّلون بأهليهم ومَنْ أطاعهم، والمدينةُ خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون"(رواه البخاري).
قال ابن حجر -رضي الله عنه-: "والحالُ أن الإقامةَ في المدينة خيرٌ لهم؛ لأنها حرمُ الرسولِ -صلى الله عليه وسلم- ومهبط الوحي، ومَنْزِل البركاتِ، لو كانوا يعلمون ما في الإقامة بها من الفوائد الدينية بالعوائد الأخروية، التي يُستحقَر دونَها ما يجدونه من الحظوظ الغائبة العاجلة، بسبب الإقامة في غيرها" انتهى كلامه رضي الله عنه.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَنِ استطاع أن يموتَ بالمدينة فليَمُتْ بها، فإني أشفعُ لمَنْ يموت بها"(رواه أحمد، والترمذي وصححه)، وعن عامر بن سعد عن أبيه قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: المدينةُ خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون، لا يدَعُها أحدٌ رغبةً عنها إلا أَبْدَلَ اللهُ فيها مَنْ هو خيرٌ منه، ولا يَثْبُت أحدٌ على لَأْوَائِهَا وجهدِها إلَّا كنتُ له شفيعًا أو شهيدًا يومَ القيامةِ"(رواه مسلم).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الْأَحْزَابِ: 21]، بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على توفيقه وفضله، والصلاة والسلام على نبيه وعبده وعلى آله وصحبه.
عبادَ اللهِ: إن للمدينة شرفًا وفضلًا فاطلبوه، وحرمةً وتقديرًا وأدبًا فاعرفوه، ويتحتَّم الأدبُ في حدود الحرم، وفي مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكَدُ؛ فإن الأدب معه حيًّا كالأدب معه ميتًا، ولقد أمَر اللهُ بالأدب عندَه وخَفْض الجَناح، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الْحُجُرَاتِ: 1-5].
فتأدَّبُوا -عبادَ اللهِ- عندَه بحُسْن الآداب، فعن السائب بن يزيد قال: "كنتُ قائمًا في المسجد فحصَبَني رجلٌ، فنظرتُ فإذا عمرُ بنُ الخطابِ، فقال: اذهب فَأْتِني بهذينِ، فجئتُه بهما، فقال: مِنْ أينَ أنتما؟ قالا: مِنْ أهلِ الطائفِ، قال: لو كنتُما من أهل البلد لأوجعتُكما؛ ترفعانِ أصواتَكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم"(رواه البخاري)، فاعرفوا عبادَ اللهِ لهذا المسجد حقَّه وقَدْرَه، وحرمتَه وقداستَه.
ثم صَلُّوا وسَلِّموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيِّكم محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلِّم عليه، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعينَ، وعنَّا معهم بمَنِّكَ وكرمِكَ وجُودِكَ، وإحسانِكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهم ارزقنا حُبَّ نبيِّكَ، اللهم ارزقنا حُبَّ نبيِّكَ، اعتقادًا وقولًا وعملًا، واتباعه ظاهرًا وباطنًا، اللهم توفَّنا على مِلَّتِه، واحشرنا في زمرته، وامنن علينا بشفاعته، وامنن علينا بشفاعته، اللهم اسقنا من حوضه، اللهم اجمعنا به في جنَّاتِك جناتِ النعيم، مع الذين أنعمتَ عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وانصُر عبادَكَ الموحِّدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتَنا وولاةَ أمورنا، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين بتوفيقِكَ، وأيِّده بتأييدِكَ، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده لما تحب وترضى، يا سميع الدعاء.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.