العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - المنجيات |
فإننا نسمع عن قوم يخافون من العين خوفًا شديدًا، يخافون على أولادهم وعلى أنفسهم وعلى أموالهم، حتى إنهم يمرضون من شدة خوفهم، وما ذاك إلا لقلة توكلهم على الله وضعف إيمانهم.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد فيا أيها الناس: يختلف الناس في أخلاقهم وأساليبهم، وكل نفس قد جُبِلَتْ على أخلاق سيئة وأخلاق حميدة، والإنسان بطبعه وأسلوب حياته يستخدم تلك الأخلاق، ومن الأخلاق السيئة التي جُبِلَ عليها الناس، خُلُق الحسد، ولكنَّ الفاسق يبديه والمؤمن يُخْفيه ويجاهده، وقد أمرنا الله -جل في علاه- بالتعوذ من الحاسد كما قال -تعالى-: (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)[الفلق:5].
عباد الله: العين والحسد هما من الأخلاق السيئة، والخصال القبيحة، والأمراض المقيتة التي تقود إلى النزاع والخصام والعداوة والبغضاء، ويؤدّيان إلى الهمّ والغمّ، ويُفسدان الحب والوُد، ولنعرّف هذين الخُلُقين الذميمين للابتعاد عنهما واجتنابهما؛ فالحسد: هو صفة شر، وهي تمني زوال النعمة عن مستحقّها، وربما سعى في إزالتها بنفسه، ولما سحر النبي -صلى الله عليه وسلم- رقاه جبريل -عليه السلام- من شر عين الحاسد، أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد قال: جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ؟ فَقالَ: نَعَمْ، قالَ: باسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ، مِن كُلِّ شيءٍ يُؤْذِيكَ، مِن شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ، أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ، اللَّهُ يَشْفِيكَ باسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ".
فالحاسد إذا اشتد حسده، خرج حسده من قلبه، وما فيه من الحقد والغل، وانطلق عبر نظره إلى المحسود، وهذا ما يسمى بالعين.
والعين مأخوذة مِن عَانَ يعين إذا أصابه بعينه، وأصلها من إعجاب العائن بالشيء، ثم تتبعه كيفية نفسه الخبيثة، ثم تستعين على تنفيذ سُمّها بنظرها إلى المعين، وقد أمر الله نبيَّه محمَّداً -صلى الله عليه وسلم- بالاستعاذة من الحاسد، فقال -تعالى-: (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)[الفلق:5]؛ فكل عائن حاسد، وليس كل حاسد عائنًا، فلما كان الحاسد أعمّ من العائن كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن.
والعين عرّفها ابن القيم بأنها: "سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمعين تصيبه تارة وتخطئه تارة، فإن صادفته مكشوفاً لا وقاية عليه، أثَّرت فيه ولا بد، وإن صادفته حذراً شاكي السلاح لا منفذ فيه للسهام لم تؤثر فيه"، يعني بذلك تحرز ابن آدم بالأوراد والتحصينات الشرعية، ولا يقتصر أثر العين الحاسدة على الإنسان، بل ربّما يمتد إلى الحيوان والجماد، لكن ذلك لا يمكن أن يحدث إلا بقضاء الله وقدَره، فيجب على المؤمن أن يُحسن ظنّه بالله ويتوكّل عليه في كل أمور حياته، وأن لا يصيبه الهلع والخوف من العين والحسد، بل يعتصم بالأذكار والأوراد الشرعية، ويعلم أنه لن يصيبه ذلك إلا بقدر الله الذي لا مفرّ منه، فيبذل الأسباب، ويتوكل على الله -جل في علاه-.
فإننا نسمع عن قوم يخافون من العين خوفًا شديدًا، يخافون على أولادهم وعلى أنفسهم وعلى أموالهم، حتى إنهم يمرضون من شدة خوفهم، وما ذاك إلا لقلة توكلهم على الله وضعف إيمانهم.
معاشر المؤمنين: من حكمة الله وعدله: أن الحاسد يَضُرّ نفسه قبل أن يَضُرّ المحسود، فهو يعاني من الضيق والألم كلّما رأى أثر نعم الله على عباده، فهو شخص معذّب مغموم، غير راضٍ بما كتبه الله له، بل ويتمنى زوال النعمة عن الآخرين، ولا يحب الخير لهم.
لله در الحسد ما أعدله | بدأ بصاحبه فقتله! |
ولكن ينبغي أن يُذَكَّر العائن إذا رأى شيئًا وأعجب به أن يُبَرِّك، وذلك بقول: اللهم بارك فيه، أو اللهم بارك عليه، وهذا الدعاء الذي يشتمل على تمنّي الزيادة والنماء، يقطع على العائن أو الحاسد ما يتمنّاه من نقصان النعمة عن المحسود أو المعيون، وهذا التبريك ثابت ومطلوب.
أخرج ابن ماجه من حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف -رضي الله عنه قال-: "مرّ عامر بن ربيعة بسهل بن حنيف -رضي الله عنهما- وهو يغتسل، فقال: لم أرَ كاليوم ولا جِلدَ مُخبَّأة، فما لبث أن لُبِطَ به، فأتي به النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقيل له: أدرك سهلاً صريعاً، قال: "مَن تتهمون به؟"، قالوا: عامر بن ربيعة، فقال: "عَلَام يقتل أحدكم أخاه؟ إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة"، ثم دعا بماء، فأمر عامراً أن يتوضأ، فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، وركبتيه وداخلة إزاره، وأمره أن يصب عليه".
وفي رواية للطبراني وغيره: "فراح سهل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس به بأس".
قال ابن حجر -رحمه الله-: "وفي الحديث أن الإصابة بالعين قد تَقتل، وفيه أن العين قد تكون من الإعجاب ولو بغير حسد، ولو من الرجل الصالح، وفيه أن الذي يعجبه الشيء ينبغي أن يبادر إلى الدعاء للذي يعجبه بالبركة، ويكون ذلك رقية منه".
ولا ينكر العين والإصابة بها إلا جاهل أو معاند، فقد روى الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرني أن أسترقي من العين"، وأخرج مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس قال -صلى الله عليه وسلم-: "العين حق، ولو كان شيء سابقًا القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا، أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين"، ويستفاد من الحديث، أن العين حق لا شك فيها، وأنها لا تقع إلا بإذن الله، وأن مَن طُلِب منه أن يغسل لأخيه المعيون، والاغتسال: كما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- عامر بن ربيعة في الحديث السابق ثم يُصب على المصاب.
أما الأخذ من فضلاته العائدة من بوله أو غائطه فليس له أصل، وكذلك الأخذ من أثره، وإنما الوارد ما سبق من غسل أعضائه وداخلة إزاره، ولعل مثلها داخلة غترته وطاقيته وثوبه.
ويجب عليه أن يستجيب إذا طُلِبَ منه الاغتسال، وأن الموت بالعين كثير، لكثرة الحسد بين الناس.
اللهم قنا شر الحسد والحاسدين يا رب العالمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
أما بعد فيا أيها الناس: إذا علمنا هذا كله عن الحسد والعين، وجب علينا أن نجتهد في التحصين لنا ولذرياتنا، فالله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين.
تُبرز الحادثة التي وقفنا معها مدى خطورة العين وقوّة تأثيرها وبالغ ضررها؛ فهي ذلك السهم الذي لا يُرى بالعيون المجرّدة، ولكن يُدرك أثرها من خلال نتائجها الوخيمة، فتجعل السليم سقيماً، والقوي ضعيفاً، والكثير قليلاً، والخصيب قاحلاً، بل هي القادرة على إنزال الفارس عن مركبه، وإيراد الرجل القبر، وإدخال الجمل القدر، كما صحّ بذلك الحديث.
ولأن العين حق، وأثرها نافذ وشرّها واقع، جاءت الأوامر الشرعيّة والنصوص النبويّة تحذّر الناس من خطرها، وتدعوهم إلى التحصّن منها، وتبيّن لهم سبل الوقاية، وكيفيّة رفع بلائها.
فقد جاءت الوصيّة من النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتزام الأذكار والأوراد الشرعيّة في كل يوم وليلة، كقراءة آية الكرسي، والدعاء بقول: "أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة"، وقول: "أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق"، والمداومة على قراءة سورتي "الفلق والناس"؛ اللتين قال عنهما النبي -عليه الصلاة والسلام-: "ما تعوذ متعوذ بمثلهما".
كما جاء التشديد على ضرورة ذكر الله -تعالى- والدعاء بالبركة عند رؤية المستحسن من الأمور، فقد أخرج الحاكم في مستدركه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة؛ فإن العين حق".
فإذا وقعت العين، شُرعت الرقية لدفعها، فقد رخّص النبي -عليه الصلاة والسلام، كما صحّ عنه- بالرقى ما لم تكن شركاً.
ومما يعين على درء العين والوقاية منها: ستر المحاسن عن أعين الناس حتى يُؤمن جانبهم، خصوصاً إذا كان الستر عند من لا يُؤمن شرّه، فكل صاحب نعمة محسود.
وللأسف فُتِنَ الناس بالتصوير، ونقل حوادث حياتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حتى لم تعد للناس خصوصياتهم، بل نقل خصوصيات الناس بلا إذن منهم.
عباد الله: لن تستطيع دَفْع حسد الناس وعيونهم بقدرتك وحرصك، فتوكل على الله، وداوم على التحصينات الشرعية، فلا رادّ لقضاء الله.
وخير ما نختم به قول الإمام ابن القيم في هذا الباب؛ حيث قال: "ومن جرّب هذه الدعوات والتعوّذات عرف مقدار منفعتها وشدة الحاجة إليها، وهي تمنع وصول أثر العائن، وتدفعه بعد وصوله، بحسب قوة إيمان قائلها، وقوّة نفسه واستعداده، وقوة توكله وثبات قلبه، فإنها سلاح، والسلاح بضاربه لا بحدّه".
اللهم اكفنا شر الأشرار وكيد الفجّار..