الطيب
كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
اسمعوا إلى هذا التَّسلسلِ البديعِ، والذي صنعَه الإيمانُ الخالصُ: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)[طه: 72]، كانوا قبلَ قليلٍ يبحثونَ عن الأجرِ الدُّنيويِّ، والآنَ أصبحتْ الدُّنيا كلُّها شيئاً تافهاً، فما الذي تغيَّرَ؟! (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ ذي النِّعمِ الكَثيرةِ والآلاءِ، الغنيِّ الكريمِ الوَاسعِ العَطاءِ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له, ذو الأسماءِ الحُسنى والصِّفاتِ الكَاملةِ العَلياءِ، وأشهَدُ أنَّ محمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ، إمامُ الأنبياءِ، وخيرُ الأصفياءِ، بَعَثَهُ اللهُ بَشِيراً وَنَذِيراً، ورَحمَةً وسِرَاجاً منيراً، من أطاعَهُ دخلَ الجنَّة، ومن عصاه فَلن تَجِدَ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيَّاً وَلاَ نَصِيراً، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه الكِّرامِ الأجوادِ، وعلى أَتباعِهم في هَديِّهم القَويمِ إلى يومِ الميعادِ، وسلَّم تَسليماً كَثيراً.
فأُوصِيكم ونفسي بتقوى اللهِ؛ كما قالَ -سُبحانَهُ-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أما بَعدُ: المكانُ: أرضُ مِصر, الزَّمانُ: يومُ الزِّينةِ, الوقتُ: ضُحى, الجمهورُ: موسى وهارونُ -عليهما السَّلامُ- في جهةٍ، وفِرعونُ وجنودُه والسّحرةُ والنَّاسُ في الجِهةِ الأخرى.
كَانَ فِرعونُ قبلَ ذلكَ قد أَرْسَلَ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، يَأْتُوهُ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ، فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى لمواجهةِ موسى -عليهِ السَّلامُ-، (وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)[الأعراف: 113، 114]، فوعدَهم مع الأجورِ الوسيعةِ، أن تكونَ لهم المنزلةُ الرَّفيعةُ، والعجيبُ ممن يتِّهمُ موسى بالسِّحرِ، ثُمَّ ها هو يجمعُ السَّحرةَ من كلِّ مكانٍ، ويَعدُهم بالأجرِ العظيمِ والمكانةِ القريبةِ!، (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ)[الشعراء: 38، 39]؛ فجمعُ النَّاسِ لا لأجلِ اتِّباعِ الحقِّ، وإنما لاتِّباعِ السَّحرةِ فقط إن غَلبوا، وعدمِ اتِّباعِ موسى -عليه السَّلامُ- وإن فازَ!؛ (لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ)[الشعراء: 40].
بدأتْ المواجهةُ اللَّفظيَّةُ بينَ الطَّرفينَ, (قَالَ لَهُمْ مُوسَى)[طه: 61]: أيُّها السَّحرةُ، لا تنصروا الباطلَ وأهلَه، (وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ)[طه: 61] ، بهذا السِّحرِ الذي تَصدُّونَ به النَّاسَ عن السَّبيلِ، وأنتم تعلمونَ أنَّه كَذبٌ وتَخييلٌ، ألا تَخافونَ أن يُسْحِتَكُمْ اللهُ بِعَذَابٍ، فَيَستأَصِلَكم فلا تَبقَى منكم عينٌ تَطرفُ؟! (وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى)[طه: 61]، فكيفَ بمن افترى على اللهِ ورُسلِه، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)[هود: 18]، وصدقَ اللهُ الواحدُ القهَّارُ، فمصيرُ أهلِ الافتراءِ هو الخيبةُ والخسارُ.
وَصلتْ هذه الكلماتُ الصَّادقةُ من موسى عليه السَّلامُ إلى الأعماقِ، فَأثَّرتْ غَايةَ التَّأثيرِ وبدأَ بينَهم الشِّقاقُ، (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ)[طه: 62]؛ وقعتْ كلماتُه كالقذيفةِ في معسكرِ السَّحرةِ ففرَّقتهم أحزاباً، (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى)[طه: 62]؛ وأخفوا الخلافَ بينَهم حتى لا يسمعَهُ أحدٌ، ولكنْ أخبرنا اللهُ -تعالى- عن حديثِهم: (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى)[طه: 63]، فقالَ بعضُهم لبعضٍ: إنَّ موسى وهارونَ ساحرانِ وليسا نبيينِ، وإنَّهما يُريدانِ أن يُخرجاكم من أرضِكم، ويذهبا بما كانَ لكم من الفَخرِ والمَالِ والشُّهرةِ بسببِ السِّحرِ، وهكذا عندما يعجزُ أهلُ الباطلِ عن مواجهةِ الحقِّ؛ فإنَّهم يستخدمونَ سلاحَ الكَذبِ وتشويهِ السُّمعةِ، (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى)[طه: 64]؛ اجتمعوا كُلَّكم صَفاً واحداً، وأَلقوا ما في أَيديكم مَرةً واحدةً؛ لتُبهروا القلوبَ والأبصارَ، وتحوزوا الفلاحَ والانتصارَ, وسبحانَ الله! حتى أهلَ الباطلِ يعلمونَ أهميَّةَ الاجتماعِ في العلوِّ والنَّصرِ.
فتقدموا وهم يتظاهرونَ بالقوَّةِ والجَلَدِ: (قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ)[طه: 65] عصاكَ، (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا)[طه: 65، 66]؛ هذهِ هي الثِّقةُ باللهِ, فليسَ مُهماً أن تكونَ أولَ من ألقى، ولكن المُهم أن تكونَ أصدقَ من ألقى، (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ)[الشعراء: 44]، (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى)[طه: 66]، (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ)[الأعراف: 116]، حتى أنَّ الأرضَ مُلِئَتْ حيَّاتٍ تَسعى للنَّاظرينَ؛ لِكَثرةِ ما ألقَوا من الحِبالِ والعِصِيِّ، فخافَ النَّاسُ مِن كَثرتِها، ولكم أن تتخيلوا وحشةَ المكانِ المليءِ بالأفاعي السَّامةِ التي تتقافزُ في جميعِ الاتِّجاهاتِ!.
(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى)[طه: 67]، خوفُ النَّاصحِ المُصلحِ الحريصِ على هدايةِ النَّاسِ، خوفُه على النَّاسِ أن يَفتتنوا بهذا السِّحرِ ويَغتروا بهِ, ولكن هنا يأتِ التَّثبيتُ من اللهِ تعالى لأوليائه، (قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى)[طه: 68]، فمن كانَ اللهُ -تعالى- معه فهو الغالِبُ القاهِرُ، فأنتَ المنتَصِرُ على فِرعَونَ وسَحَرتِه وجُندِه، نحتاجُ إذا شَعرنا بالخوفِ على دينِ اللهِ أن يُهزمَ، مَن يصرخُ في أعماقِنا: (لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى)، (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى)[طه: 69]، وإذا بها تتحوَّلُ إلى ثُعبانٍ ضَخمٍ يبتَلِعُ بقُوَّةٍ وسُرعةٍ جَميعَ الحِبالِ والعِصِيِّ التي خَيَّلوا إلى النَّاسِ بسِحرِهم أنها حيَّاتٌ تتحَرَّكُ؛ كما قالَ -تعالى-: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ)[الأعراف: 117 - 119]، (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)[الإسراء: 81].
وهنا حدثتْ المُفاجأةُ؛ (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى)[طه: 70]، هؤلاءِ الذينَ ألقوا الحبالَ والعِصيَّ سِحراً وكُفراً قبلَ قليلٍ، ها هم يُلقونَ جِباهَهم على الأرضِ إيماناً بالعزيزِ الجليلِ!.
لا إلهَ إلا اللهُ, هل تتخيلونَ هذا المنظرَ الذي يُبهجُ أهلُ الإيمانِ، ويُغيظُ أهلُ الكُفرِ والعِصيانِ، جميعُ السَّحرةِ في وقتٍ واحدٍ يسجدونَ مُذعنينَ لربِّ هارونَ وموسى، أمامَ النَّاسِ، وأمامَ فِرعونَ، وأمامَ الجنودِ، فيا فرحةَ موسى وهارونَ!، ويا فرحةَ أهلِ الإيمانِ، في كلِّ زمانٍ ومكانٍ!، وهكذا ينتصرُ الحقُ لِزاماً، وعداً من اللهِ، (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)[الأنبياء: 18].
هنا أُسقطَ في يدِ فِرعونَ، وكيفَ له أن يخرجَ من هذا الموقفِ العصيبِ، (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ)[الأعراف: 123]، وعجباً لهذا الطاغيةِ المُستبدِّ الذي اعتادَ على أن يستأذنَه النَّاسُ في كلِّ ما يعملونَ، ولا يعلمُ المسكينُ أن الإيمانَ إنَّما يتغلغلُ إلى القلوبِ بُلطفٍ لا يحتاجُ إلى استئذانٍ.
ثُمَّ جاءت التُّهمُ المعروفةُ لتنفيرِ النَّاسِ عن المُصلحينَ، الأولى: (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا)[الأعراف: 123]؛ الإخلالِ بأمنِ البلادِ، الثانية: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ)[طه: 71]، تخطيطٌ وحيلةٌ لأجلِ خِداعِ العِبادِ.
ثُمَّ تأتي التَّهديداتُ، الأولى: (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ)[طه: 71]، الثَّانيةُ: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)[طه: 71]، ثُمَّ زَعمَ أمامَ الجماهيرِ أنَّ عذابَه هو الأقوى والأشدُّ، (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى)[طه: 71].
عجباً لكَ يا فرعونُ!، هل خَطرَ يوماً على بالِك أنَّ عذابَكَ أشَدُّ من عذابِ اللهِ وأبقى؟، أم إنَّه الكِبرُ والطُّغيانُ؟، أو هو الكَذبُ والبُهتانُ؟، فأينَ أنتَ اليومَ؟! أخبرني عن برنامجِك في الغداةِ والعشيِّ، (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)[غافر: 46]، وستكونُ القائدُ وحاملُ الرَّايةِ يومَ القيامةِ، فبئسَ القائدُ والأتباعُ، (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ)[هود: 98].
اللهمَّ انفعنا بما في القرآنِ البيانِ والذِّكرِ الحكيمِ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولوالدي ولوالديكم ولجميع المسلمين والمسلمات فاستغفروه؛ إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ مُعزِّ من أَطاعَه واتَّقاهُ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له ولا نَعبدُ إلا إياهُ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه ومُصطفاهُ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه ومن والاه وسَلمَ تَسليماً كثيراً.
أما بعدُ: فدعونا نرجعُ إلى نِهايةِ الموقفِ في آخرِ الضُّحى, ماذا كانَ موقفُ السَّحرةِ؟! عُذراً: ماذا كانَ موقفُ المؤمنينَ، وهم يقفونَ أمامَ أعظمِ طاغيةٍ عرفتْه البشريةُ، وهو يهدِّدُ تهديداً فَصلاً ليسَ بالهَزلِ؟ اسمعوا إلى هذا التَّسلسلِ البديعِ، والذي صنعَه الإيمانُ الخالصُ: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)[طه: 72]، كانوا قبلَ قليلٍ يبحثونَ عن الأجرِ الدُّنيويِّ، والآنَ أصبحتْ الدُّنيا كلُّها شيئاً تافهاً، فما الذي تغيَّرَ؟! (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[طه: 73].
ثُمَّ أصبحوا دُعاةً لدينِهم، يَعظونَ فِرعونَ ومن معَه، (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى)[طه: 74 - 76]، (وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)[الأعراف: 126]، فما أجملَهما من وفاةٍ على الإسلامِ!، فكانوا أولَّ النَّهارِ كُفَّاراً سحرةً، وأصبحوا آخرَه شُهداءَ بررةً، فعجبٌ عُجابٍ، لثباتٍ يَذهبُ بالألبابِ!.
هل سألنا أنفسَنا يوماً -ونحنُ الذينَ قضينا في الإسلامِ سنيناً طويلةً- هل نجدُ من الإيمانِ ما وجدَه هؤلاءِ السَّحرةُ في دقائقَ قليلةٍ؟، أخبروني عن المباديءِ؟، حدِّثوني عن القِيمِ؟، ذكرِّوني بالثَّوابتِ التي تربينا عليها من كتابِ اللهِ -تعالى- وسُنَّةِ رسولِه -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، لماذا نرى التَّنازلاتِ في ظِلِّ الفِتنِ والمُتغيِّراتِ؟! فمع ضَغطِ الواقعِ أو أدنى شهوةٍ أو أقلِّ حظٍّ من متاعِ الدُّنيا الزَّائلِ، نجدُ الأعذارَ الواهيةَ والمُبرِّراتِ؛ لأجلِ مُخادعةِ النَّفسِ واتِّباعِ الشَّهواتِ، فأينَ الإيمانُ الذي تُخالطُ بشاشتُه القلوبَ؟، قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ؛ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ, فَاسْأَلُوا اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يُجَدِّدَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ".
اللهم إنّـا نسألُك أن تُجدِّدَ الإيمانَ في قلوبِنا، اللهم نسألُكَ إيماناً لا يَرتدُّ، ونعيماً لا يَنفدُ، وقُـرّةَ عَينٍ لا تَنقطعُ، ولذّةَ النّـظرِ إلى وجهِك الكريمِ، والشّـوقَ إلى لقائك في غيرِ ضَرّاءَ مُضرّةٍ ولا فِتنةٍ مُضلّـةٍ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهم اجعلنا ممّـن حفظَك فحفظتْه، وممّـن استنصرَك فنصرتْه، وممّـن استهداك فهديته، وممّـن استغفرَك فغفرتَ له، وممّـن دَعاك فأجبته، وممّـن توكّـلَ عليك فكفيته، ومن دَارِك دارِ السّـلامِ أَدنيته، اللهم واجعلنا من المتوكّـلينَ عليك حقَّ التّـوكّـلِ يا رحمنُ يا رحيمُ.