المتعالي
كلمة المتعالي في اللغة اسم فاعل من الفعل (تعالى)، واسم الله...
العربية
المؤلف | محمد الغزالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
إن الضعيف لا يُقوِّيه أن يُهدَم غيره، إن الضعيف سيبقى ضعيفاً، ولو أن غيره تلاشى من الأرض؛ ولو أن أعداء الإسلام اختفَوا جميعاً من هذه الدنيا، وبقى المسلمون على الوضع الذي هم عليه الآن نظرياً ونفسياً وخلقياً، فإن الأرض لا تصلح بهم، ولا يستحقون التمكين فيها.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فإن الله جل شأنه ذكر بلدنا هذا -مصر- في مواطن كثيرة من كتابه العزيز، وهذا يشير إلى أن بلدنا هذا -مصر- قديم التاريخ، موصول الحضارة؛ وتعتبر المدنية التي نبتت على شاطئه من أعرق المدنيات على ظهر الأرض، ويبدو أن الحياة الرتيبة في هذا الوادي، وأن الاستقرار الذي يصبغ جوه وأحواله عموماً، أعان على تكوين حضارة في بلدنا هذا، حضارة تغلغلت في تاريخ الإنسانية، وتركت أثراً واضحاً نضح على ما حولها، وأفاد الآخرون منه إفادة غير منكورة.
وكانت الحضارة المصرية على الإجمال حضارة متدينة، يظهر أن تربة هذا الوادي لا يصلح فيها الإلحاد، ولا يتشبث بها إلا الإيمان. كان الناس في أودية كثيرة من قارات الأرض يبحثون عن لقمة الخبز، وجهدهم أن يصلوا إليها، فإذا وصلوا إليها استراحوا واطمأنوا؛ أما المصريون القدماء فكان جهدهم كيف يعبدون ربهم، كيف يرضونه جهدهم، كيف يؤمِّنون لقاءه يوم يلقونه، كيف يمهدون للدار الآخرة بالعمل الصالح في هذه الدنيا!.
ومع أن حضارة المصريين الأقدمين اختلط الإيمان فيها بتوحيد وتعديد، فإنها على الإجمال -كما قلت لكم- كانت حضارة متدينة، وكان الشرك فيها -إن حدث- فاستجابة للرأي السائد يومئذ في الدنيا، وهو رأي يرفضه الإسلام بداهة.
هذا الرأي أساسه أن الاتصال بالله الواحد صعب، وأنه لابد من وسطاء يمهدون له أو يوصلون إليه، وبداهة رفض الإسلام هذا المعنى؛ لأنه أعطى كل امرئ الحق إذا عبد الله أن يقف بين يدي ربه يقول له: (الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم) [الفاتحة:1-2]، وإذا أذنب أن يقف أمام ربه نادماً، مستعبراً بقوله: (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا، وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:23].
لكن أجيالاً ضلت طريقها لم تحسن الصلة بالله، وكان المصريون الأقدمون عموماً أهل توحيد حيناً، وأهل تعديد حيناً آخر، وإن كان التوحيد قد غلب عليهم في فترات كثيرة من حياتهم وتاريخهم، ثم وقع شيء لابد أن يذكر، فقد هجم الرومان على مصر، وكان الرومان يومئذ وثنيين، واحتلوا هذا البلد قرابة ستة قرون!.
كانت مدة طويلة كلَيل الشتاء البارد المظلم، وكان مجيء الرومان إلى مصر في موجة من موجات المد التي تجعل بعض الأجناس يستغل خصائصه، ويمتطي قواه؛ كي يستعبد غيره، ويستخلص لنفسه خيره، ويجعل من نفسه سيداً، ومن الناس عبيداً.
كان الرومان لما دخلوا مصر على هذا النحو؛ ووقعت أمور نذكرها، ففي أثناء احتلال الرومان لمصر ظهرت المسيحية، وقيل إن عيسى ابن مريم وأمه جاءا إلى بلدنا هذا، فارِّين من بطش الرومان، ومن ضغط حكامهم، أو من عسف الحاكم هناك ومن ضغطه، ورجع بعد أن نما عوده، وأخذ يؤدي دعوته في فلسطين.
لكن المصريين كانوا قد اعتنقوا النصرانية، ولما اعتنق المصريون النصرانية ضاق الرومان بهم، وغضبوا منهم؛ لأن الرومان عُباد أصنام؛ لأن الوثنية الرومانية كانت تصبغ الحكم صبغة شديدة، فحاول الرومان أن يردوا المصريين عن المسيحية التي اعتنقوها، ولكن المصريين أبوا وتشبثوا بدينهم الذي اختاروه لأنفسهم؛ فبدأ عصر من العسف والطغيان والمذابح، حتى قيل إنه ما من قرية في مصر أو مدينة إلا سُفك فيها الدم، وكثر فيها القتلى.
أبى المصريون أن يتركوا الديانة النصرانية التي اختاروها لأنفسهم، وبدأ بهذا العصر الذي يسمى "عصر الشهداء" بدأ التاريخ المسيحي في مصر، وهو تاريخ يشرف أهله؛ لأن أهله قاوموا عبادة الأصنام، ودفعوا ثمن المقاومة من دمهم، وأبوا إباء شديداً أن يتحولوا عن التوحيد وعن الكتاب السماوي الذي جاءهم، ثم شاء الله بعد ذلك أن يدخل الرومان المسيحية.
ولكن الرومان لما دخلوا المسيحية دخلوها على نحو غريب، حتى قال بعض المفسرين إنه لا يدري أتنصَّر الرومان أم تروَّمت النصرانية؟! أياً ما كان الأمر، فقد تحول الرومان إلى النصرانية، واعتبرت الديانة الرسمية لهم، لكن المذهب أو الفهم الذي استقر الرومان عليه كان فهماً آخر غير الفهم الذي استقر عند المصريين.
وحدث نزاع نظري تحول إلى جدل مر، وإلي أخْذ ورَدٍّ طويلين، ثم رأي الرومان، وعلى رأسهم هرقل، أن يفرض المذهب الروماني ومذهب الكنيسة الكاثوليكية على المصريين، وهنا قاوم المصريون الرومان، وبدؤوا عصراً يشبه العصر الأول، عصر الاضطهاد والاستشهاد، إلا أن هذا العصر الجديد لم يطل، فقد شاء الله أن يخرج من قلب جزيرة العرب مدٌّ إسلامي عريض انتشر في أنحاء العالم انتشار السنا بعد ليل معتكر، انتشار الرحمة بعد عصر مليء بالقسوة والمرارة.
ونال المصريين شيءٌ من هذه الرحمة، إذ بعمرو بن العاص يقرع أبواب البلاد وهي في حال منكرة من الاضطهاد والفوضى. كان بطريرك الأقباط محبوساً، وكان أخوه قد قتل بعد أن عذب بالنار، وكان رجلاً بديناً فتقاطر دهنه على النار، ثم رُمى به في أمواج البحر الأبيض فمات غرقاً!!
لما دخل عمرو بن العاص عرض دينه عرضاً عادياً، الناس لا تفهم كيف عرض عمرو الإسلام؟ إن الإسلام لا يُعرَض في مجال مناظرة -وهو في مجالس المناظرة قادر على أن يَقْهَر الخصم-، لا يعُرض في مجالس مناظرة، ولكن الإسلام عرض نفسه حاكماً عادلاً، ومجتمعاً فاضلاً، ونفوساً بلغ من صفائها وعفتها أن قال الرافعي فيها: "ربما خافت البنت على نفسها من أبيها، ولكنها لا تخاف على نفسها من الفاتح العربي المسلم"!.
دخل الإسلام مصر حريةَ عقلٍ وضمير، وتوازنَ مجتمعٍ لا تطغي فيه طبقة على أخرى. دخل الإسلام مصر، وأمام المسلمين قول نبيهم -صلى الله عليه وسلم-: "إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتعٍ" رواه ابن ماجه.
دخل الإسلام مصر فكان أو ما محاه التعصب الديني، وقال للأقباط: كنائسكم لكم تعبدون الله فيها على رأيكم وفهمكم، لا يجبركم أحد على رأي أو على مذهب، أو على معتقد؛ وأطلق سراح البطريك المحبوس حتى قيل: وأعان الأقباط في بناء بعض الكنائس!.
والعجيب أن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- الذي دخل مصر فبنى هذا المسجد -مسجد عمرو بن العاص- للركَّع السجود، والذي أقام حُكماً ذوب فيه الفوارق بين الأجناس والألوان، عندما أخذت ابنه نشوة من نشوات النصر، أو نزوة من نزوات العرب، أو قوة من قوى الجاهلية، فأساء إلى أحد الأقباط، وكان القبطي ماكراً لبيباً، فذهب إلى الرجل الذي أرسل عَمراً، ذهب إلى عُمر نفسه وشكا له!، فجاء عمر صاحب محمد -صلى الله عليه وسلم- وتلميذه، جاء بالقبطي المظلوم وبابن عمرو بن العاص ابن الحاكم، وقال لعمرو: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟! ثم قال للقبطي: خذ حقك من ابن الأكرمين!. ثم قال في فترة من فترات الغضب لله: لو شئت أدرت السوط على صلعة عمرو بن العاص. هذا حكم النبوة، هذا حكم الإسلام.
كان الإسلام يومئذ عقيدة تعرض نفسها، على أي شيء تعتمد؟ على صفاء حقائقها، على نضارة عقائدها وغزارة فضائلها، ووفرة المثل الرفيعة التي تدعو إليها؛ والرجل، يوم يكون صاحب ثروة طائلة من الصدق والشرف والرحمة والوفاء والعفة؛ فإنه يطمئن إلى أن ثروته هذه ستوطئ له الأكناف، وتفتح له القلوب، وتضيء له النواصي.
ولذلك ما فكر الإسلام في بلد دخَلَه أن يقيد الحريات، لِمَ يقيدها؟ والحرية عونه الأول على غرس الإيمان وتصحيح المعتقد، ما فكر الإسلام يوماً أن يقيم حكماً استثنائياً، ولِمَ يقيمه؟ فالعدالة هدفه، وهو يعلم أن الله -عز وجل- إنما ينصر أو يهزم بمقدار قوة الصلة به، أو ضعف هذه الصلة.
ظل المسلمون الذين جاؤوا إلى مصر، وهم أربعة آلاف مع عمرو لحقهم عدد قليل بعد ذلك من الناس بعد أن قوضوا الحكم الروماني، ظلوا على هذا النحو قلة، ولكن المصريين أخذوا يغلغلون البصر في الدين الجديد، وفي المبادئ التي قام عليها، وبدؤوا يدخلون فيه، وظل المصريون يدخلون في الإسلام خلال القرن الأول، وخلال القرن الثاني، ولم يتحول الإسلام في مصر إلى كثرة في السكان إلا في القرن الثالث تقريباً، والأساس هو ما قلت لكم: دين لا يعرف قط إلا مخاطبة العقل الحر، وإيقاظ الضمير النائم، وما يعتمد في نشر مبادئه على عصا أو إكراه.
يخطئ المسلمون في مصر الآن خطأين: الخطأ الأول هو أن عدداً منهم -لا أدري أهو عدد كبير أم صغير؟- يقول بشيء من الغباء: إننا عرب، يقصد بذلك أنه نسل الفاتحين، هذا كذب، هذا كذب! ولعل مركب النقص هو الذي يدفع إلى هذا الزعم، فنحن في الحقيقة أبناء المصريين الذين أسلموا، ربما كان هناك عدد من أبناء العرب الذين وفدوا، لكن هذا العدد قليل، أما الكثرة الكبرى من المصريين فهم أبناء المصريين الذين دخلوا في الإسلام.
عندما يقول المصريون إنهم أبناء الفاتحين يعطون غيرهم حجة مكذوبة أنهم أبناء مصر وأن غيرهم وافد طارئ. يجب أن نعرف الحقائق، فإن أكثرنا غافل. أريد أن أقول لكم إن شيخ الأزهر العباسي المهدي كان أبوه قبطياً! ويوجد بين أئمة المساجد الآن وبين مفتشي المساجد وبين علماء الأزهر رجال آباؤهم أو أجدادهم من الأقباط! فالقول بأن المصريين أبناء الفاتحين غلط فاحش ما ينبغي أن يقال، هذا خطأ يرتكب.
أما الخطأ الثاني الذي يرتكبه المسلمون أنهم يسمون مجيء عمرو بن العاص إلى مصر: "الفتح العربي لمصر"، وكان هذا التعبير سليماً يوم كانت كلمة فتح تعني شيئاً آخر غير المفهوم الذي عرف به الآن في العالم، فكلمة الفتح الآن تساوي الغزو، والحقيقة أن الوصف الدقيق لمجيء العرب إلى مصر هو تحرير للمصريين.
الجيش الذي انطلق من المدينة عبأه أبناء محمد -صلى الله عليه وسلم- في عقيدته، وحملوه راية التوحيد، لم ينطلق كي يُكره على إيمان، وإنما انطلق كي يحرر شعوباً مستعبدة، أو كما قال أحد القادة لحاشية كسرى: "تقولون لم جئتم؟ جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد"!. لم نجيء لنستعبد الخلق، والدين لله، هذا ما ينبغي أن يعرف.
وهنا أريد أن أشرح هذا المعنى، وألقي الضوء عليه: توجد الآن في أفريقيا شعوب ترسف في قيود الهوان، مسروقة تحت الشمس، توجد شعوب تترنح تحت ضربات الأقوياء الذين ألهبوا الجلود بسياطهم، وكمموا الأفواه حتى لا تصيح من الألم! توجد الآن في جنوب أفريقيا، وفي روديسيا، وفي مستعمرات البرتغال الثلاث في وسط أفريقيا وغربها، وتوجد تحت راية حكومات مستقلة -للأسف-!، توجد جماهير كثيفة تضرع إلى الله أن يرسل إليها من يفك الأغلال عنها، ومن يكسر أبواب السجون التي قبعت وراءها، فهي لا تعرف في قيودها وسجونها إلا الهوان والبأساء والضراء!.
لو أن جيشاً ذهب إلى الملونين في جنوب أفريقيا ليسقط الحاكم القائم، ويقيم حكم مساواة ورشد، لو أن جيشاً ذهب إلى مستعمرات المستعبدين تحت الحكم الكاثوليكي البرتغالي وأسقط الراية التي هناك، وأقام راية أخرى تعطي الملونين من الزنوج، والمظلومين من المسلمين الحقوق العادية للبشر العاديين، أيسمى هذا غزواً؟ أيسمى هذا فتحاً استعمارياً؟ أيسمى هذا افتياتاً على الأمم؟! إن العرب لما خرجوا من جزيرتهم إلى مصر أو الشام لم يخرجوا مستعمرين أو طلاب دنيا، لماذا؟ لأن طلب الدنيا في دينهم جريمة!.
رجل قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إني أقف المواقف أريد وجه الله وأحب، أن يرى موطني"؟ فلم يردّ عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً حتى نزلت هذه الآية: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلى أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف:110] رواه ابن أبي حاتم. اعتبر الرياء شركاً، اعتبر القتال طلباً للدنيا جريمة. وقال في تعريف: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" رواه البخاري.
هذا هو الإسلام، فالذين جاؤوا إلى مصر أو ذهبوا إلى سوريا، ما جاءوا وما ذهبوا كي يقال عنهم إنهم فتحوا أو إنهم غلبوا أو إنهم ملكوا..لا..لا، كانوا يعملون لله، ويؤدون حق الله، وكانت الآخرة أحب إليهم من الدنيا، وكان الموت في سبيل الله أحلى مذاقاً في أفواههم من أن يعودوا إلى زوجاتهم وأولادهم، كانوا أصحاب عقائد.
وإذا حلا لبعض المستشرقين أن يتساءل: ما الذي جاء بالعرب إلى أفريقيا أو إلى آسيا؟ فلنقل له قبل ذلك: وما الذي جاء بأجدادك هنا ليستعبدوا. لا تقل: لِمَ جاء العرب مصر؟ سل نفسك أولاً، لم جاء الرومان مصر؟ إن المحرر لا يُسأل عن فعله، وإنما يُسأل المستعبِد عما صنع.
ثم إن الجزية التي يتحدث البعض عنها ما كانت أكثر من توازن اقتصادي بين المسلمين وغيرهم، كان المسلم مكلفاً بدفع الزكاة، وكان مكلفاً بدفع ما يقيم عدة الحرب، وجهاز القتال، ولم يكن أهل الذمة مكلفين لا بقتال ولا بمساهمة في قتال ولا بالإعداد له بقرش ولا بدفع زكاة، فإذا كان المسلمون سيأخذون القليل نظير أن ينهضوا هم بالحماية، فأي عيب في ذلك؟ ويقول التاريخ: إن أبا عبيدة بن الجراح لما ذهب إلى "حمص" وأخذ من أهلها الجزية أكرهَتْه بعض العمليات العسكرية على أن ينسحب فقرر رد الجزية إلى الناس، فقالوا: ما هذا؟!. لقد تعودوا أن الحكام يأخذون ولا يردون، تعودوا الحكام يغصبون ولا يعدلون، فوجدوا حاكماً أخذ منهم بالأمس جنيهاً وهو يرده اليوم! قال لهم: لقد أخذنا منكم هذه الجزية في نظير أن ندفع عنكم، أما إذ عجزنا عن الدفاع فلا يحق لنا أن نأخذها. فقالوا لأبي عبيدة: استبْقِ المال معك، وسنقاتل الرومان معكم جنباً إلى جنب، فما عانينا من ظلمهم يجعلنا نتفق معكم على قتالهم!.
إن التاريخ مليء بالإشاعات الكاذبة، ومن الإشاعات التي روج المسلمون لها -للأسف- أن الإسلام دخل مع الفاتحين، وأنه دين الفاتحين وهذا غير صحيح؛ لقد حمل الفاتحون العقيدة، لكنهم ما فرضوها، ولا أكرهوا أحداً عليها، وكان المسلمون قلة في القرنين الأولين من الفتح، ثم بدؤوا يكونون كثرة بالاقتناع الفردي، ولا يجرؤ أحد أن يقول: إن المصريين أكرههم الإسلام على الدخول فيه، فإن المصريين -وفق تاريخهم الثابت عنهم- قاوموا الرومان، وقتلوا في كل قرية، ولم يفرطوا في دينهم، وقاتلوا الرومان مرة أخرى حتى جاء الفتح العربي فأنقذهم من بطشهم، فلِمَ يدخلون في الإسلام دون أن يسفك دم؟ إنما دخلوا لأن الله شرح بالإسلام صدورهم.
فماذا كانت علاقة الإسلام بغيره من الديانات بعد أن أصبح دين الكثرة هنا؟ المسلمون في أرض الله كلها ناس طيبون وسمحاء، والتعصب لا يعرف طريقاً إلى قلوبهم، والحروب الدينية التي جعلت سطح أوربا ملوثاً بالدم مليئاً بالفتن، هذه الحروب لا يعرفها العالم الإسلامي، إن العالم الإسلامي عاش على فهم أنه يمكن أن يتعاون اثنان بينهما اختلاف دين على أمر ما، وقد حدث أن النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو يهاجر استأجر الدليل على الطريق، استأجره مشركاً. وهذا الدين قال: يمكن أن تتسع غرفة -متران في ثلاثة أمتار- لرجل وامرأة على غير دينه تكون يهودية أو نصرانية. فإذا اتسعت حجرة لِدِينَين، أفلا تتسع الأرض الفضاء لدينين؟!.
مشى الإسلام في بلدنا على هذا النحو يعيش بسماحته، ويعيش بقدرته الذاتية على الحياة، إلى أن نكب بالاستعمار الأوربي، وحدث ما حدث في تاريخ يطول، ثم بدأنا ننتعش ونعود، لكننا -عندما حاولنا أن نعود- وجدنا الاستعمار قد نكَبنا بنكبتين من لونين مختلفين.
في عهد مضي نكبنا بالمادية الحيوانية، والمادية الحيوانية فلسفة تجعل الشباب يعيشون بحثاً عن الشهوات، تجعل الناس يكدحون لمأرب خسيس، أو غرض قريب، المادية الحيوانية تجعل العيش في الأرض للأرض، وهي مادية قصد بها تكوين جيل مقطوع عن دينه يبحث عن الأهواء والدنايا فقط. وقاومنا هذه المادية مقاومة نجحنا فيها وفشلنا فيها حيناً.
ثم جاءت مادية أخرى هي المادية الجدلية الحمراء، هي مادية تجعل الناس يفتحون أفواههم بوقاحة ليقولوا: لا ألوهية، والحياة مادة! لكن شاء الله أن يتلاشى هذا الزحف، وأن يتضعضع ويضطرب. عندما قامت ثورة 23 يوليو 1952م كانت قلوب الناس أجمعين معها، لماذا؟ كان القادة يرفعون المصاحف، وكانوا تحت علم مكتوب عليه: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ...) [الأنفال:60]
وكان العمل للعروبة والإسلام واضحاً في هذا المخطط، ثم شاء الله أن تُسرق الثورة! وأن تجئ مراكز قوة تنال من ديننا، ومن عقلنا، ومن تفكيرنا؛ وبدأت المادية بألوانها تنضح علينا من كل ناحية، حتى ظُن أن الصلاة جريمة، وأن الاتصال بالله منكر، وأن العودة إلى الإسلام طريق الهلاك!.
والذي أريد أن أقوله بعد هذه السياحة التاريخية المتقطعة:
أيها المسلمون: إن التمسك بالدين ضرورة حياة لكم، وإن الذي يتصور التمسك بالدين طريقاً إلى السجن مخطئ جداً، وإن الذي يتصور التمسك بالدين طريقاً إلى السجن، ثم يترك دينه فهو مجرم؛ فالسجن أولى من ترك الدين؛ ومع هذا فنحن لا نقول ما قال يوسف: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلى مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف:33]، فإننا لا نُدعى الآن إلى منكر، لا ندعى الآن إلى ضلالة، إنني أهيب بالشباب، بالجيل الناشئ ألا يهاب العودة إلى دينه، أن يكون جريئاً في التمسك بإيمانه وانطلاقه تحت راية التوحيد، غير متهيب ولا متوجس، ولا قلق ولا جزوع، يجب أن يعلم أن راية الإيمان لابد أن تمشي القوافل تحتها حثيثة كثيفة لا تخاف ولا تخشى.
ثم أقول للمسلمين شيئاً آخر: إن الضعيف لا يقويه أن يُهدَم غيره، إن الضعيف سيبقى ضعيفاً، ولو أن غيره تلاشى من الأرض؛ ولو أن أعداء الإسلام اختفوا جميعاً من هذه الدنيا، وبقى المسلمون على الوضع الذي هم عليه الآن نظرياً ونفسياً وخلقياً، فإن الأرض لا تصلح بهم، ولا يستحقون التمكين فيها.
إنني أقول للمسلمين: استرجعوا دينكم بحقائقه، عيب أن يكون الشباب المسلم أو الطالب المسلم متأخراً في ثقافته أو في دراسته، وغيره قوي في دراسته، أو في معرفته وعلومه! عيب أن يكون التاجر المسلم ضعيفاً في عمله، مضطرباً في أسلوبه، غاشاً في سلعه، ثم يحسد الآخرين إذا نجحوا أو تقدموا! لا؛ إن العقيدة تحتاج إلى خدمة من نوع جديد، حدث منذ بضع سنين لا تتجاوز الأصابع أن صدر أمر إلى المسيحيين في القدس أن يشتروا الأرض من المسلمين.
كانت رغبة في أن يوضع الطابع الصليبي على القدس القديمة، وبدأ ناس من المسلمين يبيعون دورهم، المتر الذي يساوي خمسين عُرض عليهم فيه مائة ومئتان! وقال المــُفتون يومئذ: إن المسلم الذي يبيع شبراً من أرضه يعتبر مرتداً!؛ لأن الشبر الذي يبيعه من أرضه يكون موطئ قدم لحملة صليبية جديدة على بلادنا.
ألا فليستيقظ المسلمون. إن يقظة المسلمين لا تعني أكثر من أن يتمسكوا بدينهم، ويحترموا أخوتهم، ثم الآخرون ممن ليسوا على ديننا سوف يعيشون معنا كما عاشوا على امتداد القرون، لهم ما لنا وعليهم ما علينا. بل ربما قلنا: لهم ما لنا من الحقوق وأكثر، وعليهم ما علينا من واجبات بل أقل.
إننا -نحن المسلمين- ليس في تاريخنا الطويل أننا أصحاب تعصب، ولكن في تاريخنا الطويل أننا أصحاب طيبة قد تبلغ حد الغفلة والجهل!.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:26].
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الأنبياء، وسيد المصلحين.
اللهم صَلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، واعملوا أيها الإخوة أن بلدنا هذا يحتاج إلى مرحلة من الاستقرار، يمكن فيها أن يتم بناؤه على العقيدة والخلق، على الإيمان والشرف، على الإسلام ومبادئه وشرائعه.
نحن بحاجة إلى هذه الفترة، ووحدتنا الوطنية سلاح لنا، وأنا أخشي أن يكون أعداؤنا قد حرضوا البعض على أن يحدث أي تعكير لهذه الوحدة لحساب غيرنا، لا لحسابنا. إن أي تعكير لهذه الوحدة الآن ليس لحسابنا، والذي يعكر هذه الوحدة معروف، لأنه يعمل لحساب الاستعمار الأجنبي.
إننا نوصيكم مُشدِّدين ألا يستفزكم أحد، وأن تضبطوا أعصابكم، وفي الوقت الذي أكلفكم فيه بضبط الأعصاب، وامتلاك النفس، أقول لكم: إن الوسائل التي تُنجحون بها دينكم وتملكون بها السيادة على أرضكم في أيديكم، ولا تحتاج إلى مشقة طويلة، ولا إلى جهد العباقرة، تحتاج إلى جهد الرجل العادي، ويوم ينقص المسلمين جهد الرجل العادي لينجحوا فهم أهلٌ لأن يُضَيَّعُوا! وهم أهل لأن يتلاشوا وتخلص الإنسانية منهم؛ لأنهم ليسوا أهلاً للحياة!.
إن تماسك المسلمين لا يحتاج إلى عبقرية، وإنما يحتاج إلى اليقظة العادية، إلى السيرة التي لا غفلة فيها ولا استكانة ولا فوضى ولا تواكل، هذا ما ألفت النظر إليه.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر ".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].