الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية |
ولئن فقدت أمة الإسلام حبيبها ونبيها محمدًا -عليه الصلاة والسلام- فإن سنته الشريفة، وهديه المبارك، بين أيدينا، قد حفظها الله تعالى لنا كيما ننهل من معينها، ونلتزم أحاديثها، فمن أحب النبي -صلى الله عليه وسلم أحب سيرته وسنته، وأحب من يلتزمها من عباد الله تعالى، وأبغض من يبغضها أو ينتقصها، أو يسخر من شيء منها، أو يردها لرأي رآه، أو قول سمعه.
الحمد لله الحي الذي لا يموت، القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم؛ كتب الموت على الأحياء، وتفرَّد بالعز والبقاء، نحمده على نعمه العظيمة، وآلائه الجسيمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ) [الرَّحمن: 27].
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ ما وترت أمته بشيء أعظم من وترها به، فبكته القلوب قبل العيون، وفقده أزواجه وأصحابه والمؤمنون، فبآبائنا هو وأمهاتنا، كم من خير ناله المؤمنون بدعوته؟! وكم عذاب رفع عنهم باستغفاره ومسألته؟! فهو أمانهم ما دام فيهم، فلما قبضه الله تعالى إليه بقي فيهم ما علمهم من الهدى والقرآن: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال: 33].
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ ما فرحوا بشيء أعظم من فرحهم بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، وما حزنوا على شيء أشد من حزنهم لما فقدوه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا أن الدنيا لو كان لها وزن عند الله تعالى لأنالها أحب خلقه إليه، وأخلصهم له، النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولكن الله تعالى جعلها دار امتحان وبلاء، ومهما طال عمر الواحد فيها فهو مفارقها إلى دار الحساب والجزاء، ولا نجاة له إلا بعمله الصالح، وقد خاطب الله تعالى خيرة خلقه وأفضل رسله -عليه الصلاة والسلام- بذلك: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35].
فتزودوا -عباد الله- من دنياكم لأخراكم، ومن حياتكم لموتكم (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزَّلزلة: 8].
أيها الناس: لما أكمل الله تعالى دينه، وأتم نعمته، ورضي دينه لعباده، وبلغ رسوله -عليه الصلاة والسلام- ما كلف بإبلاغه؛ أذن سبحانه بقبض رسوله، وأعلمه بدنو أجله، فحج بالناس حجة الوداع، وعلمهم مناسكهم، وقال لهم: "أَيُّهَا الناس: إني والله لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ يَوْمِي هذا بِمَكَانِي هذا". وفي رواية قال -عليه الصلاة والسلام-: "لَعَلِّي لا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هذه".
وخص بعض أصحابه وبعض أهل بيته فصرح لهم بدنو أجله، وقرب وفاته، وعرَّض لعامة الناس بذلك في خطبة خطبها، ففهمها أبو بكر -رضي الله عنه- فبكى وفداه بالآباء والأمهات، وخفيت على غيره.
كان اليهود في خيبر قد وضعوا له -عليه الصلاة والسلام- السم في شاة فأكل منها، مدعين بأنه إن كان نبيًّا لم يضرَّه، وإن كان كذابًا ارتاحوا منه حسب زعمهم، ولم يؤمنوا به لما ظهر لهم الحق، فأثر فيه ذلك السم، ولا يزال يجد أثره بين الحين والآخر، بصداع يشتد عليه حتى يعصب رأسه من شدة الألم، وحمى تأخذه حتى يفرغ على نفسه سبع قرب يخففها.
واشتد به -عليه الصلاة والسلام- المرض فثقل عن الصلاة بالناس، ووكل أبا بكر -رضي الله عنه- بالنيابة عنه، وآخر صلاة أمَّ الناس فيها كانت صلاة المغرب قرأ فيها بالمرسلات.
وفي آخر لحظاته خُيِّر -عليه الصلاة والسلام- بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة؛ كما روت عَائِشَةُ -رضي الله عنها- قالت: كنت أَسْمَعُ أَنَّهُ لَنْ يَمُوتَ نَبِيٌّ حتى يُخَيَّرَ بين الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قالت: فَسَمِعْتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- في مَرَضِهِ الذي مَاتَ فيه وَأَخَذَتْهُ بُحَّةٌ يقول: "مع الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عليهم من النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا". قالت: فَظَنَنْتُهُ خُيِّرَ حِينَئِذٍ. متفق عليه.
وبات -عليه الصلاة والسلام- ليلة الاثنين وقد بدأه الموت، ورأى ذلك منه عمه العباس وزوجه عائشة -رضي الله عنهما-، فلما أصبح وحضرت صلاة الفجر وجد من نفسه -عليه الصلاة والسلام- خفة ونشاطًا، فأرخى ستر حجرته ينظر إلى أصحابه -رضي الله عنهم- وهم صفوف في الصلاة، فتبسم فرحًا بما رأى من عبادتهم لربهم، واجتماع أمرهم، وتآلف قلوبهم، وفرحوا هم -رضي الله عنهم- برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وظنوا أنه خارج إليهم، فتأخر أبو بكر في الصف، فأومأ إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبقى، ثم أرخى -عليه الصلاة والسلام- الستر.
ولما اشتد الضحى، وارتفعت الشمس حضره الموت، وبين يديه -عليه الصلاة والسلام- علبة بها ماء، فكان يخفف عن نفسه سكرات الموت بالماء، فَيُدْخِلُ يده في الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بها وَجْهَهُ وَيَقُولُ: "لاَ إِلَهَ إلا الله، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ". ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يقول: "في الرَّفِيقِ الأعلى"، حتى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ.
قالت عائشة -رضي الله عنها-: وَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَثْقُلُ في حجري، قالت: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ إلى وَجْهِهِ، فإذا بَصَرُهُ قد شَخَصَ وهو يقول: "بَلِ الرَّفِيقُ الأَعْلَى مِنَ الْجَنَّةِ"، فقلت: خُيِّرْتَ فَاخْتَرْتَ والذي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، قالت: وَقُبِضَ رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. رواه أحمد.
وحولته عائشة -رضي الله عنها- من حجرها إلى وسادة، وسجته بثوب حِبَرَة، وهي من ثياب اليمن، وحزنت أشد الحزن، وبهتت بما رأت.
وأول من دخل عليه بعد موته -عليه الصلاة والسلام- عمر بن الخطاب والمغيرة بن شعبة -رضي الله عنهما-، استأذنا على عائشة فأذنت لهما وجذبت إليها الحجاب، فَنَظَرَ عُمَرُ إليه فقال: واغشياه، ما أَشَدُّ غشي رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ قَامَا، فلما دَنَوَا مِنَ الْبَابِ قال الْمُغِيرَةُ: يا عُمَرُ: مَاتَ رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟! قال: كَذَبْتَ، بَلْ أنت رَجُلٌ تَحُوسُكَ فِتْنَة، إن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لاَ يَمُوتُ حتى يُفْنِىَ الله -عز وجل- الْمُنَافِقِينَ".
وبدأ الناس يتناقلون خبر وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال عمر -رضي الله عنه-: "والله لا أسمع أحدًا يذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبض إلا ضربته بسيفي هذا. وكان الناس أميين لم يكن فيهم نبي قبله فأمسك الناس.
وكان أبو بكر -رضي الله عنه- في منزله الذي بالسُّنُح من عوالي المدينة، فجاء -رضي الله عنه- على فرسه وعمر قائم في المسجد يخطب، فدخل أبو بكر على عائشة، فَرَفَعْتُ الْحِجَابَ فَنَظَرَ إليه فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إليه رَاجِعُونَ، مَاتَ رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ أَتَاهُ من قِبَلِ رَأْسِهِ، فَحَدَرَ فَاهُ وَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ، ثُمَّ قال: وَانَبِيَّاه، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ حَدَرَ فَاهُ وَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ، ثُمَّ قال: واصفياه ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وحذر فَاهُ وَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ وقال: واخليلاه، مَاتَ رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-". رواه أحمد.
وفي رواية للبخاري: فَجَاءَ أبو بَكْرٍ، فَكَشَفَ عن رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَبَّلَهُ، قال: بِأَبِي أنت وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بيده لا يُذِيقُكَ الله الْمَوْتَتَيْنِ أَبَدًا".
خرج أبو بكر -رضي الله عنه- من حجرة عائشة وعمر -رضي الله عنه- يخطب في الناس ويقول: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ لم يَمُتْ، وَلَكِنَّ رَبَّهُ أَرْسَلَ إليه كما أَرْسَلَ إلى مُوسَى، فَمَكَثَ عن قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، والله إني لأَرْجُو أن يَعِيشَ رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حتى يَقْطَعَ أيدي رِجَالٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَلْسِنَتَهُمْ، يَزْعُمُونَ -أو قال: يَقُولُونَ:- أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قد مَاتَ".
فأقبل عليه أبو بكر فقال: أَيُّهَا الْحَالِفُ: على رِسْلِكَ، فلما تَكَلَّمَ أبو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ فَحَمِدَ اللَّهَ أبو بَكْرٍ وَأَثْنَى عليه، وقال: ألا من كان يَعْبُدُ مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- فإن مُحَمَّدًا قد مَاتَ، وَمَنْ كان يَعْبُدُ اللَّهَ فإن اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، وقال: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر: 30]، وقال: (وما مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قد خَلَتْ من قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ على أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شيئا وَسَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144]، فَنَشَجَ الناس يَبْكُونَ. رواه البخاري.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "والله لَكَأَنَّ الناس لم يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا حتى تَلاهَا أبو بَكْرٍ -رضي الله عنه- فَتَلَقَّاهَا منه الناس، فما يُسْمَعُ بَشَرٌ إلا يَتْلُوهَا". وقال عمر -رضي الله عنه-: "وإنها لفي كتاب الله تعالى؟! ما شعرت إنها في كتاب الله تعالى"!!
وفي رواية قال عمر -رضي الله عنه-: "والله ما هو إلا أَنْ سمعت أَبَا بَكْرٍ تَلاهَا، فَعَقِرْتُ حتى ما تُقِلُّنِي رِجْلاَيَ، وَحَتَّى أَهْوَيْتُ إلى الأرض حين سَمِعْتُهُ تَلاهَا عَلِمْتُ أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مَاتَ". رواه البخاري.
قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "فوالذي نفسي بيده لكأنما كانت على وجوهنا أغطية فكشفت". وانشغل الناس يومهم ذاك بمبايعة أبي بكر -رضي الله عنه- بالخلافة.
فلمَّا أصبحوا يوم الثلاثاء أَرَادُوا غَسْلَ النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا: "والله ما نَدْرِي أَنُجَرِّدُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- من ثِيَابِهِ كما نُجَرِّدُ مَوْتَانَا أَمْ نَغْسِلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ، فلما اخْتَلَفُوا أَلْقَى الله عليهم النَّوْمَ حتى ما منهم رَجُلٌ إلا وَذَقْنُهُ في صَدْرِهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ مُكَلِّمٌ من نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لا يَدْرُونَ من هو أَنْ اغْسِلُوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ، فَقَامُوا إلى رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ فَغَسَلُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ يَصُبُّونَ الْمَاءَ فَوْقَ الْقَمِيصِ، وَيُدَلِّكُونَهُ بِالْقَمِيصِ دُونَ أَيْدِيهِمْ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: لو اسْتَقْبَلْتُ من أَمْرِي ما اسْتَدْبَرْتُ ما غَسَلَهُ إلا نِسَاؤُهُ. رواه أبو داود.
وأمرهم أبو بكر -رضي الله عنه- أن يغسله بنو أبيه؛ لأنهم أقرب الناس إليه، فغسله عليّ والفضل بن العباس وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قال ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-: "لم يختلف في أن الذين غسلوه علي والفضل بن عباس، واختلف في العباس وأسامة بن زيد وقثم بن العباس وشقران مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقيل: هؤلاء كلهم شهدوا غسله، وقيل: لم يغسله غير عليّ والفضل كان يصب الماء وعلي يغسله، وقيل: كان الناس قد تنازعوا ذلك، فصاح أبو بكر: يا معشر الناس: كل قوم أولى بجنائزهم من غيرهم، فانطلق الأنصار إلى العباس فكلموه فأدخل معهم أوس بن خولي، وكان الفضل والعباس يقلبانه، وأسامة بن زيد وقثم يصبان الماء على علي رحمه الله.
وروي من وجه آخر أن العباس كان بالباب لم يحضر الغسل يقول: لم يمنعني أن أحضره إلا أني كنت أراه -صلى الله عليه وسلم- يستحيي أن يراني أراه حاسرًا -صلوات الله وسلامه عليه ورضي الله عن جميع صحابته وأزواجه وسلم تسليمًا-. اهـ.
قال علي -رضي الله عنه-: "غسلت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجعلت أنظر ما يكون من الميت فلم أرَ شيئًا، وكان طيبًا حيًّا وميتًا -صلى الله عليه وسلم-". رواه الحاكم وصححه.
ثم كفنوه -عليه الصلاة والسلام- في ثلاثة أثواب بيض سُحُولية ليس فيها قميص ولا عمامة.
وقال الصحابة لأبي بكر -رضي الله عنه-: "يا صاحب رسول الله: أيصلى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!"، قال: نعم، فقالوا: وكيف؟! قال: يدخل قوم فيكبرون ويصلون ويدعون ثم يخرجون، ثم يدخل قوم فيكبرون ويصلون ويدعون ثم يخرجون حتى يدخل الناس. قالوا: يا صاحب رسول الله: أيدفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! قال: نعم، قالوا: أين؟! قال: في المكان الذي قبض الله فيه روحه، فإن الله لم يقبض روحه إلا في مكان طيب". رواه الترمذي في الشمائل.
فحفروا له في المكان الذي مات فيه، ولحد قبره الذي يشق لحود قبور الشهداء -رضي الله عنهم-، ونزل في قبره -عليه الصلاة والسلام-: العباس وعلي والفضل وقُثَم ابنا العباس، وأسامة بن زيد وعبد الرحمن بن عوف.
فلما وضع في لحده -صلى الله عليه وسلم-، قال الْمُغِيرَةُ: "قد بَقِيَ من رِجْلَيْهِ شيء لم يُصْلِحُوهُ، قالوا: فَادْخُلْ فَأَصْلِحْهُ، فَدَخَلَ وَأَدْخَلَ يَدَهُ فَمَسَّ قَدَمَيْهِ، فقال: أَهِيلُوا علي التُّرَابَ، فَأَهَالُوا عليه التُّرَابَ حتى بَلَغَ أَنْصَافَ سَاقَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَكَانَ يقول: أنا أَحْدَثُكُمْ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-".
ودفن -عليه الصلاة والسلام- ليلة الأربعاء، ورفع قبره نحوًا من شبر.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم.
وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على ما قضى وقدَّر؛ لا يقضي قضاءً لمؤمن إلا كان خيرًا له، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط، نحمده حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
أيها المسلمون: كانت وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام- حدثًا مهمًا في تاريخ الإسلام والمسلمين، وهي أعظم مصيبة أصيب بها أتباعه في كل زمان ومكان، وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك لأمته لما أحس بدنو أجله، وأمرهم باستحضار المصيبة به -عليه الصلاة والسلام- عند أي مصيبة تنزل بأحدهم؛ ليتسلى بذلك؛ فإنه -عليه الصلاة والسلام- قال في مرضه الذي مات فيه: "يا أيها الناس: أَيُّمَا أَحَدٍ من الناس أو من الْمُؤْمِنِينَ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَتَعَزَّ بِمُصِيبَتِهِ بِي عن الْمُصِيبَةِ التي تُصِيبُهُ بِغَيْرِي، فإنَّ أَحَدًا من أُمَّتِي لَنْ يُصَابَ بِمُصِيبَةٍ بَعْدِي أَشَدَّ عليه من مُصِيبَتِي". رواه ابن ماجه.
وأحسَّ الصحابة بعد دفنه -عليه الصلاة والسلام- بعظيم الأسى، والتاعت قلوبهم بفقدهم له إمامًا ومعلمًا وهاديًا، فابنته فاطمة -رضي الله عنها- قالت: "يا أَنَسُ: أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أن دَفَنْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- في التُّرَابِ وَرَجَعْتُمْ". رواه أحمد. وفي رواية للبخاري قالت فاطمة -رضي الله عنها-: "يا أَنَسُ: أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا على رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- التُّرَابَ".
وقد بيَّن أنس -رضي الله عنه- حالهم بمقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم مهاجرًا، ثم حالهم بوفاته -عليه الصلاة والسلام- فقال: "لَمَّا كان الْيَوْمُ الذي قَدِمَ فيه رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - أَضَاءَ منها كُلُّ شيء، فلمَّا كان الْيَوْمُ الذي مَاتَ فيه أَظْلَمَ منها كُلُّ شيء"، وقال: "ما نَفَضْنَا عن رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الأيدي حتى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا". رواه أحمد.
وروى موسى بن عقبة أن حاضنة النبي -صلى الله عليه- أم أيمن -رضي الله عنها- بكت عقب وفاته، فقيل لها: "ما يبكيك؟! قد أكرم الله نبيه فأدخله جنته، وأراحه من نصب الدنيا، فقالت: إنما أبكي على خبر السماء، كان يأتينا غضًّا جديدًا كل يوم وليلة، فقد انقطع ورفع، فعليه أبكي، فعجب الناس من قولها".
وثبت في الصحيح أن أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- زاراها فبكت وقالت: "أَبْكِي أن الْوَحْيَ قد انْقَطَعَ من السَّمَاءِ، فَهَيَّجَتْهُمَا على الْبُكَاءِ، فَجَعَلا يَبْكِيَانِ مَعَهَا". رواه مسلم.
وقد وصف إمام أهل السير محمد بن إسحاق -رحمه الله تعالى- حال الصحابة عقب وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: "لما توفَّي رسول الله ارتدت العرب، واشرأبت اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم؛ حتى جمعهم الله تعالى على أبي بكر -رضي الله عنه-".
وبعض أهل السير لما دونوا أحداث مرض النبي -عليه الصلاة والسلام- ووفاته قالوا: "إنا لله وإنا إليه راجعون"؛ طلبًا للأجر، وتطبيقًا للآية القرآنية، وامتثالاً للسنة النبوية، فنقول كما قالوا: "إنا لله وإنا إليه راجعون".
ومما يعزي المؤمن في وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويسلي حزنه عليه ما روى أبو موسى -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللَّهَ -عز وجل- إذا أَرَادَ رَحْمَةَ أُمَّةٍ من عِبَادِهِ قَبَضَ نَبِيَّهَا قَبْلَهَا، فَجَعَلَهُ لها فَرَطًا وَسَلَفًا بين يَدَيْهَا، وإذا أَرَادَ هَلَكَةَ أُمَّةٍ عَذَّبَهَا وَنَبِيُّهَا حَيٌّ، فَأَهْلَكَهَا وهو يَنْظُرُ، فَأَقَرَّ عَيْنَهُ بِهَلَكَتِهَا حين كَذَّبُوهُ وَعَصَوْا أَمْرَهُ". رواه مسلم.
فنسأل الله تعالى بمنّه وكرمه أن يجعل نبينا وإمامنا وقرة أعيننا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فرطًا لنا، وسلفًا بين أيدينا، ومستقبلاً لنا بعد البعث على حوضه ليسقينا بيده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبدًا، آمين يا رب العالمين.
ولئن فقدت أمة الإسلام حبيبها ونبيها محمدًا -عليه الصلاة والسلام- فإن سنته الشريفة، وهديه المبارك، بين أيدينا، قد حفظها الله تعالى لنا كيما ننهل من معينها، ونلتزم أحاديثها، فمن أحب النبي -صلى الله عليه وسلم أحب سيرته وسنته، وأحب من يلتزمها من عباد الله تعالى، وأبغض من يبغضها أو ينتقصها أو يسخر بشيء منها أو يردها لرأي رآه، أو قول سمعه.
وليست محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الاحتفال بمولده، ولا في إنشاد القصائد البدعية والشركية في إطرائه ومدحه، بل كل ذلك من المحدثات التي لا يرضاها الله تعالى ولا رسوله -عليه الصلاة والسلام-، وقد حذَّر منها في غير ما حديث، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "من أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هذا ما ليس فيه فَهُوَ رَدٌّ"، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فإن كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ". فالتزموا -عباد الله- سنته، واتبعوا ولا تبتدعوا.
وصلوا عليه وسلموا...