البحث

عبارات مقترحة:

الرفيق

كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...

الغني

كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...

المعطي

كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...

سيرة بيت الله الحرام

العربية

المؤلف عدنان مصطفى خطاطبة
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التاريخ وتقويم البلدان - الحج
عناصر الخطبة
  1. بيت الله الحرام من أعظم شعائر الله .
  2. سيرة بيت الله الحرام وآياته .
  3. سيرة مشاعر بيت الله الحرام .

اقتباس

إن من عجيب سيرة بيت الله الحرام أن يحفل القرآن الكريم بها، أن يتحدث لنا ربنا سبحانه عنها، لا عن زمانه فقط -كما حدثك بذلك القرآن والسنة- بل ويحدثك عن عملية بناء هذا البيت وتجديدها، ويخلّد ربنا سبحانه ذلك في كتابه بآيات بينات تتلى على أسماع الموحدين إلى قيام الساعة، بل ويخلّد سبحانه في كتابه العظيم أسماء البنّائين الأوائل لبيته ..

 

 

 

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. 

أيها الإخوة المؤمنون: تتابع علينا مواسم الحج والعمرة، وتتواصل بيننا أيام الوفادة إلى بيت الله الحرام، وتتعايش فينا مشاعر الشوق لبيت الله الحرام؛ لذلك لا بد لنا من وقفة مع بيت الله الحرام، وقفة من نوع خاص، إنها وقفة تاريخية عطرة مع سيرته، وقفة مباركة مع سيرة آياته، ذلك أن الكعبة -بيت الله الحرام- من أعظم شعائر الله تعالى، وقد قال ربنا تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32].

ولذلك دعونا -أيها الإخوة تعظيمًا لشعائر الله وعبادة لله- أن نتذاكر سيرة بيت الله الحرام وآياته؛ لنزداد علمًا ومعرفة بشعائر الله، ولنزداد محبة وتعظيمًا لبيت الله تعالى، ولتزداد ثقافتنا الدينية بمعالم إسلامنا ومشاعره التي يسعى أعداؤنا إلى تجهيل أجيالنا بها.

أيها المؤمنون: يحدثنا القرآن الكريم ويحدثنا ربنا سبحانه الذي أنزل القرآن عن سيرة بيت الله الحرام، فيقول ربنا -جلَّ شأنه- في سيرة بيته: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) [آل عمران: 96]، (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) [آل عمران: 96]، أي بمكة، فبكة اسم من أسماء مكة، وقيل: سميت ببكة لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة والكبراء، أي يذلون لها ويخضعون عندها، كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ)، قال ابن كثير في معنى الآية: "أول بيت وُضع للناس، أي: لعموم الناس، لعبادتهم ونُسُكهم، يَطُوفون به ويُصلُّون إليه ويَعتكِفُون عنده، (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) يعني: الكعبة.

فأول بيت وضع ليعبد الناس فيه ربهم -سبحانه تعالى- ويوحدونه فيه بالطاعة والخضوع والتذلل كان الذي في مكة، وهو بيت الله الحرام، وهو الكعبة المشرفة وحرمها، فكما في الصحيح عن أبي ذَر -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يا رسولَ الله: أيُّ مَسجِد وُضِع في الأرض أوَّلُ؟! قال: "الْمسْجِدُ الْحَرَامُ". قلت: ثم أَيُّ؟! قال: "الْمسجِدُ الأقْصَى". قلت: كم بينهما؟! قال: "أرْبَعُونَ سَنَةً".

أيها المؤمنون: إن من عجيب سيرة بيت الله الحرام أن يحفل القرآن الكريم بها، أن يتحدث لنا ربنا سبحانه عنها، لا عن زمانه فقط -كما حدثك بذلك القرآن والسنة- بل ويحدثك عن عملية بناء هذا البيت وتجديدها، ويخلّد ربنا سبحانه ذلك في كتابه بآيات بينات تتلى على أسماع الموحدين إلى قيام الساعة، بل ويخلّد سبحانه في كتابه العظيم أسماء البنّائين الأوائل لبيته، ويعظم من شأن بيته حينما يخبرك أن الذي قام بهذا البناء ليسوا أناسًا عاديين ولا عمّالاً مستأجرين، بل هم من الصفوة المختارين، من أنبياء الله ورسله الطاهرين، حيث شرف الله تعالى اثنين من أنبيائه الكرام ببناء هذا البيت هما: إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-، فقال ربنا سبحانه في ذلك: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة: 127]، أي واذكر يا محمد -صلى الله عليه وسلم- لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- البيت، ورفعهما القواعد منه.

أيها المؤمنون: تقول سيرة بيت الله الحرام -كما في كتب السيرة والسنة وتفسير ابن كثير-: إنه بعد أن ترك إبراهيم -عليه السلام- إسماعيل وأمه بوادٍ غير ذي زرع في مكة، ثم عاد إليهم بعد فترة من الزمن، قال إبراهيم -عليه السلام- لابنه إسماعيل: يا إسماعيل: إن الله أمرني بأمر: أنْ أبني له بيتًا، فقال إسماعيل: فاصنع ما أمرك ربك، قال إبراهيم -عليه السلام-: إنه أمرني أن تعينني عليه. فقال إسماعيل: إذن أفعل. فقام، فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، حتى ارتفع البناء وعلا، فقام إبراهيم على حجر، وهو ما بات يعرف بعد ذلك بمقام إبراهيم، فجعل إسماعيل يناوله الحجارة حتى أتم البناء.

ولكن -يا عباد الله- لم تتم عملية البناء ولم تكتمل دون أن نشاهد فيها أخلاق الأنبياء، ودون أن نستشعر فيها بعبودية الأنبياء التي تجلت سامية رائعة في دعاء وابتهال الأنبياء البنّائين لهذا البيت: إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-، والتي سجلها القرآن الكريم بقوله تعالى عنهما: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة: 127]، نعم، (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، قال المفسرون: أي وهما يبنيان بيت الله الحرام، وهما في عمل صالح كريم، ومع ذلك يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما. الله أكبر، ما أخلصها من كلمات!! وما أجلّها من ابتهلات!! وما أزكاها من لحظات!! قال ابن كثير: "كان وهب بن الورد إذا قرأ هذه الآية: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يبكي، ثم يقول: "يا خليل الرحمن: ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك". وهذا كما حكى الله تعالى عن حال المؤمنين المخلصين في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا) أي: يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات، (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون: 60] أي: خائفة أن لا يتقبل منهم.

فيا عبد الله، يا أيها المعتمر، ويا أيها الحاج، ويا من تبني لله مسجدًا، أو تعمل عملاً صالحًا: تذكر -وأنت تؤدي عمرتك أو حجتك أو عمارتك للمسجد أو عملك للخير- تذكر هذا الدعاء، وحال إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- وتضرعهما، فادع الله وتضرع إليه أن يتقبل منك حجتك وعمرتك وبناءك للمسجد وفعلك للخير، فقل وأنت في عملك، وقل لما تنتهي من عملك: ربي تقبل مني إنك أنت السميع العليم، وإياك إياك أن تستكثر عملك أو تستكبر طاعتك.

أيها الإخوة المؤمنون: وتقول سيرة بيت الله الحرام: إنه بعد بناء إبراهيم وإسماعيل لبيت الله الحرام، مرت السنون والأعوام والقرون على هذا البناء لبيت الله الحرام حتى عهد قريش، فأرمّ البناء، وضعف وتهدمت أطراف الكعبة وانكشف سقفه، ولما كان زمن قبيل البعثة اجتمعت قريش لتجديد بنيان الكعبة، وكانوا يهمون لرفعها وتسقيفها، وقد كانت رضمًا فوق القامة، ولكن كانوا يهابون هدمها، ولما حاولت قريش فعل ذلك في أول الأمر أخذ وهب بن عمرو حجرًا من الكعبة فوثب من يده حتى رجع مكانه، فقال: يا معشر قريش: لا تدخلوا من كسبكم في بنيانها إلا طيبًا، فهدموا الكعبة حتى وصلوا إلى أساس إبراهيم عليه السلام، ثم أخذوا ببنائها ولكن لم يتمّوه كما كان في عهد إبراهيم -عليه السلام-؛ لخلوّ يدهم من الكسب الطيب.

وتقول سيرة بيت الله الحرام: إنّ هذا البناء استمر في زمن بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي عام الفتح كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- رأيه في البناء المقام للكعبة، وهو شكل البناء نفسه القائم حاليًا، فلنستمع معا إلى كلام نبينا -صلى الله عليه وسلم- حول ذلك؛ فقد جاء في الصحيح من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها: "يا عائشة: لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين: بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا، فبلغت به أساس إبراهيم".

فهذه الصورة الكاملة لبناء البيت الذي كان في عهد إبراهيم -عليه السلام-؛ فالحِجْر هو جزء من الكعبة، وكان لها بابان ملتصقان في الأرض من جهة الشرق ومن جهة الغرب، ولكن لماذا لم تعد قريش البناء كما كان؟! هذا ما سألت عنه عائشة -رضي الله عنه-، فكما في الحديث الصحيح قالت: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الجدر -الحجر- أمن البيت هو؟! قال: "نعم"، قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟! قال: "إن قومك قصرت بهم النفقة"، قلت: فما شأن بابه مرتفعًا، قال: "فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا".

وتقول سيرة بيت الله الحرام: إن الكعبة المشرفة -بيت الله الحرام- لم تزل على بناء قريش حتى احترقت في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد ستين سنة، فلما تولّى عبد الله بن الزبير ولاية مكة وتعرضت الكعبة للضرر، فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى الأرض حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم -عليه السلام- ثم بناها على قواعد إبراهيم، وأدخل فيها الحجر، وجعل لها بابًا شرقيًا وبابًا غربيًا ملصقين بالأرض كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكان بناؤه لها على السّنة، بناءً مكتملاً، ولم تزل كذلك.

ولكن -أيها الإخوة- كما ترون الآن هي ليست كذلك، فما الذي حصل؟! تقول سيرة بيت الله الحرام: إن الكعبة المشرفة لم تزل على بناء ابن الزبير لها -البناء المكتمل الوارد في السنة- طيلة مدّة إمارته حتى قتله الحجاج، فرّدها إلى ما كانت عليه في عهد قريش بأمر من عبد الملك بن مروان، فأخرج الحجر وجعل لها بابًا واحدًا مرتفعًا كما هي الآن.

وتقول سيرة بيت الله الحرام: إن العلماء كرهوا تغييرها بعد ذلك لحكمة معينة؛ فقد روى ابن عبد البر وغيره أن هارون الرشيد أو المهدي أو المنصور أراد أن يعيد بناء الكعبة كما كانت في عهد ابن الزبير، فسأل الإمام مالك عن هدمها وردها كما كانت، فقال له الإمام مالك: "يا أمير المؤمنين: لا تجعل كعبة الله مَلْعبة للملوك، فلا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها". فترك ذلك الرشيد وبقي حالها إلى الآن على ما كانت عليه من حيث شكل بنيانها.

ولكن -أيها الإخوة المؤمنون- ستتعرض الكعبة -بيت الله الحرام- في آخر الزمن للتخريب والتدمير على يد بعض الفجرة، كما أخبر بذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد بوب البخاري في صحيحه بابًا بعنوان "باب هدم الكعبة"، وساق حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة".

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ). أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أيها الإخوة: وكما عشنا مع سيرة ومسيرة بناء الكعبة المشرفة بيت الله الحرام، في أهم محطاتها التاريخية، نقف الآن مع شيء من سيرة مشاعر بيت الله الحرام وآياته البينات، في تاريخها العبق العميق الجذور في مشاهد التاريخ ومرآة الحضارة.

فمن سيرة مشاعر بيت الله الحرام: "مقام إبراهيم"؛ فهو من آيات بيت الله الحرام، قال الله فيه: (إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ) [آل عمران: 96-97]، وقال سبحانه: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة: 25]، ومقام إبراهيم هو المقام الذي ارتقى عليه إبراهيم -عليه السلام- لما ارتفع بناء الكعبة، وقد كان ملتصقًا بجدار البيت حتى أخّره عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في إمارته إلى ناحية الشرق؛ ليتمكن الناس من الطواف حول الكعبة فلا يقع التشويش على المصلين ولا على الطائفين.

وكانت آثار قدمي إبراهيم -عليه السلام- ظاهرةً فيه، ولم يزل هذا معروفًا تعرفه العرب في جاهليتها؛ قال مجاهد: "أثر قدميه في المقام آية بينة". وقال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "رأيت المقام فيه أصابعه -عليه السلام- وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم". وهو فعل غير مشروع. كما قال ابن جرير: "إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه".

ومن السنة بعد الطواف الصلاة عند المقام، ولكن -أيها الإخوة- أتعرفون سبب هذه الصلاة؟! يقول جابر -رضي الله عنه- وهو يحدّث عن حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-: لما طاف النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له عمر: هذا مقام أبينا؟! قال: "نعم". قال: أفلا نتخذه مصلىّ؟! قال: فلم يلبث يسيرًا حتى نزل قول الله تعال: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة: 125].

وكما أن المقام آية فكذلك الركن اليماني، وقد ورد في فضلهما قوله -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح الترغيب والترهيب: "الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة، ولولا أن الله طمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب".

ومن سيرة مشاعر بيت الله الحرام: سيرة زمزم؛ تلك التي قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في مائها كما في الحديث الصحيح: "خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام من الطعم، وشفاء من السقم".

ولنا -أيها الإخوة- أن نستذكر قصة نبع هذا الماء المبارك في زمن إبراهيم -عليه السلام-، فقد وضع إبراهيم -عليه السلام- هاجر وابنها إسماعيل الرضيع في بطحاء مكة وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر، وسقاءً فيه ماء، ثم قفا منطلقًا، فقالت له زوجته هاجر: يا إبراهيم: أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟! فقالت له مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بذلك؟! قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا. وفي رواية: يا إبراهيم: إلى من تتركنا؟! قال: إلى الله. قالت رضيت بالله.

وبَقِيَا حتى نفد ما في السقاء، وعطش ابنها عطشًا شديدًا، وجعلت تنظر إليه يتلوى، فانطلقت؛ كراهية أن تنظر إليه، فصعدت الصفا، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا. فهبطت إلى المروة، فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: "فلذلك يسعى الناس بينهما".

فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملَك عند موضع زمزم، فبحث بجناحه، حتى ظهر الماء، فجعلت تحوطه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يغور بعدما تغرف؛ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح: "يرحم الله أم إسماعيل؛ لو تركت زمزم لكان زمزم عينًا معنيًا".

ومع مرور الزمن طمس البئر حتى عهد قريش؛ حيث قدر الله أن يحفره ويستخرج ماءه عبد المطلب؛ وذلك لرؤيا رآها قيل له فيها -كما تذكر كتب السيرة-: "احفر زمزم، قال: وما زمزم، قال: لا تنزف أبدًا ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل". فحفر فخرج نبع زمزم وبان بئرها.

ومن سيرة مشاعر بيت الله الحرام: المناسك؛ فالمناسك من آيات بيت الله الحرام، وهي التي قال فيها إبراهيم -عليه السلام- سائلاً ربه -عز وجل-: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) [البقرة:128]، فما معنى (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا)، وكيف تمّ ذلك؟! (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا): أي: أخرجها لنا وعلّمنا إياها؛ ولذلك لما دعا بذلك -كما قال المفسرون- أتاه جبرائيل، فأتى به البيت، ثم أخذ بيده فأخرجه فانطق به إلى الصفا، فقال: هذا من شعائر الله، ثم انطلق به إلى المروة فقال: وهذا من شعائر الله. قال ابن عباس: "إن إبراهيم لما أري أوامر المناسك، عرض له الشيطان عند المسعى، فسابقه إبراهيم، ثم انطلق به جبرائيل حتى أتى به نحو مِنَى، فقال له: هذا مناخ الناس، فلما انتهى إلى جمرة العقبة، وإذا إبليس قائم عند الشجرة فقال: كبّر وارمه، فكبر ورماه بسبع حصيات حتى ذهب. ثم أتى به إلى الجمرة الوسطى، وإذا إبليس قائم عندها. فقال: كبّر وارمه، فكبر ورماه بسبع حصيات. فذهب الخبيث إبليس.

أيها الإخوة: أتعرفون لماذا كان يعترض إبليس إبراهيم وهو يتعلم المناسك؟! تقول الرواية: وكان الخبيث أراد أن يُدخِل في الحج شيئًا فلم يستطع، ثم أخذ جبرائيل بيد إبراهيم حتى أتى به جمعًا، فقال له: هذا المشعر الحرام، ثم أخذ بيده حتى أتى به عرفات أو عرفة، فقال: هذه عرفة، فقال له جبريل: قد عرفت ما أريتك، قالها ثلاث مرات، فقال إبراهيم: نعم. ولذلك سميت عرفات.

ومن سيرة مشاعر بيت الله الحرام: سيرة الحجر الأسود؛ فهو من آيات بيت الله الحرام، وقد جاء وصف الحجر الأسود في السنة، وفي بيان شيء من سيرته قول الرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضًا من اللبن، فسودته خطايا بني آدم". صححه الألباني. وقال فيه أيضًا: "والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بحق". صححه الألباني.

أيها الإخوة المؤمنون: هذه إطلالة تاريخية وواقعية على سيرة الكعبة المشرفة بيت الله الحرام، والذي نشرف بتعلمها والإلمام بها والتعرف على شيء من جوانبها، فهذه المدارسة والمذاكرة لسيرته فيها إحياء للقلوب وللمشاعر، وتثقيف وتوعية للأجيال بمعرفة سيرة مشاعرها وأعلامها، التي تكاد تغطيها اليوم السير والأخبار الهابطة والاهتمامات الدنيوية المختلفة.

أيها الإخوة المؤمنون: إن تعلّم سيرة بيت الله الحرام شرف لنا وواجب علينا ونور وبركة لأجيالنا؛ لتكون لنا فيها عبرة وآية، ولتزيدنا شوقًا ولهفة لزيارته، ولترغبنا في المقام فيه والتعبد لله فيه، ولتحيي فينا روح الاستذكار لتاريخ أنبياء الله ونحن في رحابه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.