العليم
كلمة (عليم) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
العربية
المؤلف | جماز بن عبد الرحمن الجماز |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - |
واجبنا جميعًا استشعار هذه النعمة، واغتنام هذه الفرصة، فنخصُّ العشر بمزيد عناية، ولنُعظِّم هذه العشر فنُكثر فيها من العمل الصالح، فمن لم يُمكنه الحج فعليه أن يعمر هذه الأوقات الفاضلة بطاعة الله تعالى وعبادته، من الصلاة والقراءة، والذكر والدعاء، والصدقة والإنفاق في سبيل الله، والشفقة بالضعفاء ورحمة الفقراء، وبر الوالدين وصلة الأرحام...
أما بعد: فإن الأمة الإسلامية أجمع تعيش بعد يومٍ أيامًا شريفة، وليالي فاضلة، وأزمنة عامرة بذكر الله تعالى وشكره، وموسمًا عظيمًا من مواسم طاعة الله وعبادته، يستكثرون فيها من العمل الصالح، ويتنافسون فيها، والسعيد من اغتنم تلك المواسم وأكثر فيها من الطاعات والصالحات.
وعما قريب -أيها المسلمون- نرى حجاج بيت الله الحرام، يقفون هناك على عرفات، في مشهد رائع من مشاهد العبودية، يستمطرون رحمة الله، ويستجلبون عفوه ومغفرته، ويسألونه من فضله، ويتوجهون إليه بالذكر والدعاء والاستغفار والمناجاة، معترفين بالذل والعجز والفقر والمسكنة.
وفي يوم العيد -يوم النحر- الذي هو أكبر العيدين وأفضلهما، يشترك المسلمون جميعًا في الفرح والسرور في جميع الأمصار، من شهد الموسم منهم ومن لم يشهده؛ وذلك لاشتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة، ولذلك شُرع للجميع التقرب إلى الله بذبح الأضاحي وإراقة دماء القرابين، فأهل الموسم، المُحرمون، يرمون الجمرة، ويشرعون في التحلل من إحرامهم بالحج، ويقضون تفثَهم، ويوفون نذورهم، ويقربّون قرابينهم، ثم يطوفون بالبيت العتيق، وأهلُ الأمصار، المُحِلّون في بلدانهم، يجتمعون على ذكر الله وتكبيره والصلاة له، ثم يذبحون عقب ذلك نسكهم ويقرّبون قرابينهم بإراقة دماء ضحاياهم، فيكون ذلك شكرًا منهم لهذه النعم.
والعيد -أيها الأحباب- موسم الفرح والسرور، وأفراح المؤمنين وسرورهم في الدنيا إنما هو بخالقهم ومولاهم؛ إذ فازوا بإكمال طاعته وحازوا ثواب أعمالهم بفضله ومغفرته، كما قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58].
معاشر المسلمين: حَريٌّ بنا أن نستقبل مواسم الخير عامة بالتوبة الصادقة النصوح، وبالإقلاع عن الذنوب والمعاصي، فإنّ الذنوب هي التي تحرم الإنسان فضل ربِّه، وتحجب قلبه عن مولاه، ومن عزم على شيء أعانه الله، ومن صدق الله صدقه الله:، ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69]، وكما في الذين عناهم الله -عز وجل- بقوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90].
وقد فضل الله تعالى عشر ذي الحجة على غيرها من الأيام؛ صحَّ عنه أنه قال: "ما العمل في أيام العشر أفضلَ من هذه"، قالوا: ولا الجهاد؟! قال: "ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء". وفي رواية: "ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرًا من خير يعمله في عشر ذي الأضحى". قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلاً خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء".
قال راوي الحديث: فكان سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهادًا شديدًا حتى ما يكادُ يُقدرُ عليه.
وُروي عن سعيد بن جبير أنه كان يقول: "لا تُطفئوا سُرجكم ليالي العشر". يشير إلى قيام الليل.
وقال مجاهد: "العمل في العشر يضاعف".
قال الحافظ ابن رجب: "جميع الأعمال الصالحة مضاعفة في العشر من غير استثناء شيء منها". وقال أيضًا: "العمل في هذه الأيام العشر أفضل من العمل في أيام عشر غيرها". وقال أيضًا: "ويستثنى جهاد واحد هو أفضل الجهاد، وهو أن يُعقر جوادُه ويُهراق دمُه".
ونهار عشر ذي الحجة من الفجر إلى المغرب أفضل من نهار العشر الأواخر من رمضان، وليالي العشر الأواخر من رمضان من المغرب إلى الفجر أفضل من ليالي العشر الأول من ذي الحجة.
واعلم -أيها المؤمن- أن فضيلة عشر ذي الحجة جاءت من أمور كثيرة؛ فالله -جلّ جلاله- أقسم بها، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [الفجر: 2]، وقال تعالى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ) [الحج: 28]، والليالي والأيام في الآيتين هي عشر ذي الحجة، بل هي أفضل أيام الدنيا، صحَّ عنه أنه قال: "أفضل أيام الدنيا العشر"، يعني عشر ذي الحجة، قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟! قال: "ولا مثلهن في سبيل الله، إلا رجل عُفِّر وجهه بالتراب".
ومن أسباب فضلها أن النبي –صلى الله عليه وسلم- حثَّ فيها على العمل الصالح، وذلك لشرف الزمان بالنسبة لأهل الأمصار، وشرف المكان بالنسبة لحجاج بيت الله الحرام، بل وخصَّ منها الإكثار من التسبيح والتحميد والتكبير.
ومن أسباب فضلها أن فيها يوم عرفة ويوم النحر، وفيها الأضحية والحج، فظهر بذلك جليًا أن السبب هو امتيازها باجتماع أمهات العبادة فيها، وهي الذكر والدعاء والصلاة والصيام والحج والصدقة، ولا يتأتى ذلك في غيرها.
أيها المسلمون: واجبنا جميعًا استشعار هذه النعمة، واغتنام هذه الفرصة، فنخصُّ العشر بمزيد عناية، ولنُعظِّم هذه العشر فنُكثر فيها من العمل الصالح، فمن لم يُمكنه الحج فعليه أن يعمر هذه الأوقات الفاضلة بطاعة الله تعالى وعبادته، من الصلاة والقراءة، والذكر والدعاء، والصدقة والإنفاق في سبيل الله، والشفقة بالضعفاء ورحمة الفقراء، وبر الوالدين وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله... وغير ذلك من طرق الخير وسبل الطاعة.
ومما ينتهزه المسلم في هذه الأيام التوبة النصوح؛ فلها في هذه الأيام شأن عظيم، فأجرها مضاعف، وإذا اجتمع لك توبة نصوح مع أعمالٍ فاضلة في أزمنة فاضلة فهذا عنوان الفلاح: (فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) [القصص: 67].
فليحرص كل واحد منا على مواسم الخير؛ فإنها سريعة الانقضاء، فالثواب قليل، والرحيل قريب، والطريق مخوف، والاغترار غالب، والخطرُ عظيمٌ، والناقدُ بصير، والله تعالى بالمرصاد، وإليه المرجع والمآب: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 8].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أتاح لعباده مواسم الخير ونوّعها، ليتزودوا منها صالح الأعمال، ويستدركوا ما يحصلُ فيها من الغفلة والإهمال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه خير صحبٍ وآل، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد صحَّ عنه أنه قال: "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد". وفي لفظ: "فأكثروا فيهن من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير".
وهكذا كان الصحبُ الكرام يخرجون إلى الأسواق فيكبرون ويكبر الناس بتكبيرهم، والتكبير في الأضحى سنة بالاتفاق في المساجد والأسواق والمنازل والطرقات، وكلِّ موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى، يجهر به الرجال، وتخفيه المرأة؛ إظهارًا للعبادة وإعلانًا بتعظيم الله تعالى، وهو لا يتقيد بمكان؛ حتى في الأسواق وعلى الفراش وأثناء المشي، ولا يتقيد بزمان؛ فيؤتى به في الليل والنهار، والسفر والحضر، ولا يتقيد بشخص؛ فيأتي به الرجال والنساء، والمميزون والبالغون، ولا يتقيد بحال؛ فيأتي به قائمًا أو قاعدًا، أو مضطجعًا أو راكبًا أو محمولاً، أو على غير طهارة، يبدأ به الإنسان من فجر اليوم الأول في ذي الحجة إلى آخر أيام التشريق مغرب اليوم الثالث عشر.
ولا نص فيه يقال، فابن مسعود كان يقول: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد"، وابن عباس كان يقول: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر وأجل، الله أكبر على ما هدانا"، وكان سلمان الخير يقول: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا"، فينبغي إحياء هذه السنة المهجورة؛ تذكيرًا للغافلين وتعليمًا للجاهلين.
ومن الأعمال الفاضلة في هذه الأيام صيام يوم عرفة، صحّ عنه –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يُكفِّر السنة التي قبله والتي بعده". فصيامه كفارة ذنوب سنتين. وهو سُنَّة لمن لم يحجّ، أما من حجّ ووقف بعرفة فيُكره ذلك له، والله تعالى مُنعم مُتفضّل، له أن يتفضل بما شاء على من يشاء فيما شاء من الأعمال، لا معقب لحكمه، ولا رادَّ لفضله.
ومما ينبغي التنبه إليه أنّ من حجَّ فالسُنَّة له أن لا يضحي ولا يُوكل أحدًا يضحي عنه في بلده، ويكتفي الحاجُ بذبح الهدي في مكة، وإذا لم يحجَّ فالسُّنّة له أن يُضحّي، ومن عزم على الأضحية فالسُّنَّة له أن يُمسك عن حلق شعره وتقليم ظفره تشبهًا بالمحرمين.
هذا، وصلوا وسلموا على من بلغ الرسالة...