البحث

عبارات مقترحة:

البارئ

(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...

المليك

كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...

الشاكر

كلمة (شاكر) في اللغة اسم فاعل من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...

طالب العلم والوقت

العربية

المؤلف صالح بن عبد العزيز سندي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب
عناصر الخطبة
  1. أهمية الوقت في حياة المسلم .
  2. العلم والتعلم هو خير ما تُشغل به الأوقات .
  3. وصايا لطلاب العلم .
  4. من أعظم ما يعين على حفظ الوقت. .

اقتباس

حياتك أنفاسٌ تُعد فكلما مضى نفَس منها انتقصتَ به جزء، فلا تُضع دقيقة من حياتك في غير إفادة أو استفادة، نظف وقتك عن الاشتغال برعونات الطباع...، واعلم أن ما مضى من الوقت لا يتجدد ولا يعود، فإذا انصرفت أوقاتك سدى عظم فواتك واشتدت حسراتك...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أما بعد: فيقول الله: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[سورة العصر:1-3]؛ لقد أقسم –سبحانه- بالعصر الذي هو الزمان؛ لانطوائه على تعاجيب الأمور القارة والمارة، ولذا قيل له "أبو العجب"، ولأن العمر لا يُقَوَّم بشيء نفاسة وغلاء، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ؛ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ"، فالمستفيد من نعمة الوقت قلة، والأكثرون مفرطون مغبونون. قال ابن عقيل الحنبلي -رحمه الله-: "أجلُّ تحصيل عند العقلاء بإجماع العلماء هو الوقت، فهو غنيمة تُنْتهز فيها الفرص، فالتكاليف كثيرة والأوقات خاطفة" انتهى كلامه -رحمه الله-.

فهنيئا لمن فهم معنى الوجود، فاشتغل في تعبئة الزاد والتهيؤ للرحيل، إنه لا يعرف شرف العمر وقدر الأوقات إلا من وفقه الله وألهمه اغتنامها فيما يحب، فإنه ليس لك من عمرك -يا عبد الله- إلا ما كان منه بالله ولله، وإذا كان هذا شرف الوقت فإن الواجب انتهابه في فعل الخير. وإن الاجتهاد في تحصيل العلم والعمل خير ما تُفنى به ساعات العمر.

إن التشاغل بالدفاتر والمح

ابر والكتابة والدراسة

أصل التَّعبد والتزهد

والرئاسة والكياسة

إن العلم غذاء النفوس، ولا حياة بلا غذاء، ولا غذاء بدون محافظة على الزمن. فيا طالب العلم اعلم أن الشح بالوقت علامة الرشد، فكن شحيحًا بوقتك فإنه حياتك ورأس مالك.

دقات قلب المرء قائلة له

إن الحياة دقائق وثوان

فبادر الأوقات واغتنم الدقائق واللحظات، وحاسب نفسك عليها محاسبة الشريك الشحيح.

لما شحَّ عامر بن عبد القيس بوقته أجاب رجلاً قال له كلمني بقوله: "أمسك الشمس"، ولما شَحَّ الخليل بن أحمد بوقته قال: "أثقل الساعات عليَّ ساعة آكل فيها"، ولما شَحَّ ابن عقيل بوقته اختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، وآخر كان يستف الفتيت ويقول: "بين سف الفتيت وأكل الخبر قراءة خمسين آية".

يا طالب العلم: إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، حياتك أنفاسٌ تُعد فكلما مضى نفَس منها انتقصتَ به جزء، فلا تُضع دقيقة من حياتك في غير إفادة أو استفادة، نظف وقتك عن الاشتغال برعونات الطباع التي تنقطع بها أوقات الرعاع، واعلم أن ما مضى من الوقت لا يتجدد ولا يعود، فإذا انصرفت أوقاتك سدى عظم فواتك واشتدت حسراتك، ولا ينفعك حينها الندم.

ولستُ بمدركٍ ما فات مني

بلَهْف ولا ب(ليت) ولا (لو انّي)

يا طالب العلم: اغتنم التحصيل وقت الفراغ والنشاط، وحال الشباب وقوة البدن وقلة الشواغل، فالوقت في الكبر أضيق، والصحة فيه أقل، والشواغل فيه أكثر.

أترجو أن تكون وأنت شيخ

كما قد كنت أيام الشبابِ

لقد كذبتك نفسك ليس ثوب

دنيس كالجديد من الثياب

فخذ من نفسك لنفسك، ومن شبيبتك لهرمك، ومن حياتك لموتك.

وحصِّل العلم وزِنه بالتقى

  وسائر الأوقات فيه استغرق

وليكُ قلبك له أفرغ من

حجَّام ساباط ومن لم يعشق

فالعلم في الدنيا، وفي الأخرى له

  فضلٌ فبشر حزبه شر وقي

يا طالب العلم: حذار أن يضيع وقتك لأي عارض، أو أن تكون طيِّعًا لأدنى صارف، إذا كان يؤذيك حر المصيف ولبس الخريف وبرد الشتاء، ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي متى؟! كن ماضي العزيمة، قوي الشكيمة ووطن نفسك على احتمال المشاق فإن الهموم بقدر الهمم، ولابد في جني الشهد من لسعات النحل، ولن تبلغ المجد حتى تلعق الصبِرا، طريق المجد ليس يمر إلا بفتِّ الصخر أو هد الجبال.

لما وصل أبو تمام الشاعر إلى همذان زمن الشتاء قطعت الثلوج طريق مقصده ما خلد إلى النوم والراحة، وإنما اشتغل بمطالعة خزانة كتبه في دار نزلها فألف ديوان الحماسة.

ولما أُلقي السرخسي الحنفي في الجب مسجونًا خمسة عشر عامًا لم يقضها وهو يندب حظه، بل اشتغل بالتصنيف؛ فأملى كتابه المبسوط في الفقه الحنفي المطبوع في ثلاثين مجلدًا.

وشيخ الإسلام ابن تيمية لم تمنعه وحشة السجن من أن يؤلف فيه كثيرًا من تصانيفه.

ولما أُسر الأزهري عند قوم من البادية ما أقعده الهم فضاع وقته هدرًا وإنما اشتغل بمحاورتهم ومخاطبتهم فاستفاد ألفاظًا جمَّة أودعها كتابه "تهذيب اللغة".

ولما سُجن العلامة الألباني -رحمه الله- ما استسلم للهموم وإنما جعل لزيمه "صحيح مسلم"، واشتغل به ليله ونهاره حتى أتم كتابه "مختصر صحيح مسلم".

لقد صدق القائل: "بقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى".

إذا شاب الفتى برْقَ المعالي

فأهون فائتٍ طيب الرقاد

اللهم أيقظ قلوبنا من غفلتها، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، إن ربي قريب مجيب.

الخطبة الثانية:

أحمدك اللهم على رحمتك التي وسعت الوجود، وأصلي وأسلم على نبيك المحمود، وعلى آله وصحبه أهل التقى والسعود. أما بعد:

فيا طالب العلم: إن الكسل عن الفضائل رفيقٌ بائس، وحب الراحة سبب الندم، فكن كما قال الأول:

تركت النوم للن

وام إشفاقًا على عمري

كن عالي الهمة سامي الغاية، واعلم أنه لا تقف همة إلا لخساستها.

إذا ما علا المرء رام العلا

ويقنع بالدون من كان دونا

لو لم يكن للوقت عند ابن جرير -رحمه الله- قدرٌ أكان يخلِّف من الآثار العلمية ثلاثمائة وخمسين ألف ورقة!

لو اشتغل ابن أبي الدنيا بالتفاهات أكان يؤلف ألف تأليف! أو اشتغل بها ابن شاهين أكان يكتب ثلاثمائة وثلاثين مصنفًا منها مسند في ألف وخمسمائة جزء!!

لو تهاون العلماء في أوقاتهم أكان يكتب ابن حزم في ثمانين ألف ورقة! أو ابن تيمية نحوا من خمسمائة مجلد! أو ابن سريج أربعمائة مؤلف!! أو يسمع السمعاني من سبعة آلاف شيخ!!

فاجتهد يا رعاك الله، اجتهد في الجمع بين العلم والعمل، وابذل جهدك في لحاق الكاملين ما دام في الوقت سعة، واسق غصنك مادامت فيه رطوبة.

فانهض إلى صلوات المجد معتليا

فالباز لم يأوِ إلا عالي القلل

فإنه على قدر أهل العزم تأتي العزائم، وربك شكور أكرم.

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته

  ومدمن القرع للأبواب أن يلجا

يا طالب العلم: إن مما يعينك على اغتنام أوقاتك؛ تنظيمه وترتيبه، ومصاحبة المجدِّين، ومجانبة البطالين، والعزلة عمن لا يفيد، وترك الفضول في كل شيء.

ومما يعينك أيضًا: مطالعة سير العلماء العاملين، وتتبع أخبار الصالحين، فسترى فيها ما يشحذ الخاطر ويثير العزم الساكن.

ومما يعينك أيضًا: أن تشغل نفسك بالمهم من الأمور؛ فإن من شغل نفسه بغير المهم أضر بالمهم، فما لك والبحث في مسائل قليلة الفائدة! ولِم تضيَّع وقتك في جدال عقيم أو هيشات لا ثمر علمًا ولا عملًا!!

وإذا طلبت العلم فاعلم أنه

حمل فأبصر أي شيء تحمل

وإذا علمت أنه متفاضلٌ

فاشغل فؤادك بالذي هو أفضل

وحاذر يا طالب العلم أن تسرقك وسائل التواصل والاتصال الحديثة، فإنها إن فعَلت فتكت بوقتك فتكًا، وحرمتك من خير كثير، وليكن لك فيمن حولك عظة، ومن عوفي من هذا فليحمد الله.

ومن أعظم ما يعينك على حفظ وقتك: أن تجاهد نفسك وتأخذها بتربية جادة تعالج فتورك وتغالب ملَلك، حتى ترتقي لتكون نفسا متيقظة تُلهب فيك تقدير الزمان، وتستحثك على أن تكسبه ولا تبدده، وتحفظه ولا تضيعه.

اعلم أنك كلما ازددت انغماسًا في العلم ازددت حرصًا عليه، والتذاذًا بحلاوته، وشوقًا لتحقيقه، وعشقًا لمسائله، إنما يعرف قدر العلم من سهرت عيناه في تحصيله.

وقبل هذا وبعده؛ أوصيك أن تستعين بربك، وأن تصدق اللجأ إليه، وأن تسأله التوفيق، وأن لا يجعل أمرك فرطا، وأيقن أنك إن صدقته صدقك، (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)[الليل:5-7].

فاللهم يسِّرنا لليسرى، وجنبنا العسرى، وأعذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأصلح قلوبنا وأعمالنا، ووفق ولاة أمرنا، وجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصافات:180-182].

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.