الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | صالح بن مبارك بن أحمد دعكيك |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن وليمة العرس ودعوة الناس إليها والاهتمام بشأنها، مظهر من المظاهر الاجتماعية الحسنة، التي تؤدي بدورها إلى... ولا يقول لأحد: كل من هذا واترك هذا، وإذا قُدِّمْ إليه شيء شكر عليه وأخذ منه قدر حاجته ولا يرد ردَّ الجفاء، وإذا لم يعجبه الطعام فلا يعبه ولا ينتقد المائدة ونظامها، ويجعل يتحدث عن المساوئ التي يراها، فإن كل ذلك ليس بالأدب، كما لا يعيب أيضًا شيئًا في المنزل من فرشٍ وأثاث أو تنظيم أو تنسيق، ولا...
الخطبة الأولى:
يجدر بنا ونحن نعيش في هذه الأيام مع العطلة الصيفية التي تكثر فيها الأفراح والأعراس والولائم، أن نتعرف على بعض الأحكام والآداب المتعلقة بوليمة العرس والدعوة إليها وحضورها.
إن وليمة العرس -وهو الطعام الذي يكون في العرس- ودعوة الناس إليها والاهتمام بشأنها، مظهر من المظاهر الاجتماعية الحسنة، التي تؤدي بدورها إلى تعميق مشاعر المحبة، وتعميق معاني الأخوة، والمشاركة الشعورية والعملية في تلك الفرحة العارمة التي يعيشها أهل الزوج والزوجة، والتي تغمر نفوسهم بالبهجة وتملأ عليهم أفئدتهم وبيوتهم.
ولهذا كان للشرع المطهر تجاه هذه الظاهرة آداب وأحكام تتعلق بها، شأنه في ذلك شأن جميع سلوكيات الإنسان، ومن ذلك:
أن الشريعة حثت على إقامة الوليمة وأكدت على فعلها، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن عوف حينما أعلمه بزواجه: "أولم ولو بشاة"، وقال لعلي -رضي الله عنه- حينما خطب فاطمة: "إنه لابد للعرس من وليمة".
بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- مارس ذلك عمليًا؛ حيث كان يدعو إلى الوليمة في كل عرس أحدثه، قال أنس: "ما أولم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على امرأة من نسائه ما أولم على زينب، وجعل يبعثني أدعو الناس فأطعمهم خبزًا ولحمًا حتى شبعوا". وفي البخاري أنه -صلى الله عليه وسلم- أولم على بعض نسائه بمدين من الشعير، وهذا الاختلاف مرجعه إلى حالاته -صلى الله عليه وسلم- في العسر واليسر، وهذا الحديث يدل على أن الوليمة بالشاة واللحم ليس لازمًا، وإنما بما تيسر، والمقصود ما تقع به الدعوة، ويتحقق به المقصد من الإطعام والفرحة.
وجماهير العلماء اتفقوا على أن الوليمة سنة مؤكدة، لا ينبغي تركها للقادر عليها، ومَنْ يسَّر الله عليه من فضله ينبغي أن يظهر ذلك الفضل وتلك النعمة بالتوسيع على إخوانه وتطييب المائدة.
أما منْ قدر عليه رزقه وضاق حاله المعيشي فإنه لا ينبغي له أن يوسع ذلك، ويكلف نفسه ما لا يطيق، ويقحم نفسه في ديون لا يدري كيف يمكن قضاؤها، وعليه أن يقدم ما تيسر له، وله في رسول الله -بأبي هو وأمي أعظم الخلق وخيرهم- فقد أولم على بعض نسائه بمدين من شعير! أليس لك به -صلى الله عليه وسلم- أسوة وقدوة؟! نعم إن من المهم أن نوازن بين الأمور ونضع الكِبْر والعاطفة بعيدًا.
أيها الإخوة المسلمون: ولما كانت وليمة العرس تعبر عن الفرح والسرور بهذا الحدث المهم في مشوار الرجل والمرأة، بل وفي طبيعة الأسرة أوجب الإسلام حضور الدعوة لمن يدعى إليها، والمشاركة الشعورية في الفرحة، فلا يجوز التخلف عن الحضور إلا لعذر، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها"، بل إنه -عليه الصلاة والسلام- لم يعذر الصائم في دعوة الوليمة فقال: "إذا دُعي أحدكم إلى وليمة فليجب وإن كان صائمًا". وفي رواية: "فإن كان مفطرًا فليأكل، وإن كان صائمًا فليدعُ بالبركة". فإن اعتذر الصائم لهم بذلك فلا بأس بالغياب، وإن أفطر لذلك كان حسنًا.
أما الإجابة إلى وليمة غير النكاح فهي مستحبة غير واجبة عند جمهور العلماء، فإذا حضر المدعو إلى مكان الوليمة فليبارك لهم، فإذا حضر الطعام فلا يأكل حتى يسمي الله تعالى، ويأكل بيمينه، ومما يليه، ولا يمد يده إلى جهة الغير، ولا يأخذ من وسط الوعاء، ولا يتناول ما بَعُدَ عنه من الطعام، ولا ينظر للناس وهم يأكلون، ولا يكثر من الكلام والضحك، وليتريث حال أكله، وإذا جلس الناس جلس معهم ولا يسبقهم، ولا يتأخر عنهم إذا قاموا، ولا يوالي بين لقم الطعام، ولا يتعجل في الطعام كالجشع، بل يكون كما قيل:
إذا مُدَّتْ الأيدي إلى الزاد لم أكنْ | بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجلُ |
ولا يقول لأحد: كل من هذا واترك هذا، وإذا قُدِّمْ إليه شيء شكر عليه وأخذ منه قدر حاجته ولا يرد ردَّ الجفاء، وإذا لم يعجبه الطعام فلا يعبه ولا ينتقد المائدة ونظامها، ويجعل يتحدث عن المساوئ التي يراها، فإن كل ذلك ليس بالأدب، كما لا يعيب أيضًا شيئًا في المنزل من فرشٍ وأثاث أو تنظيم أو تنسيق، ولا يبرز نفسه مهندسًا للجدران والسقوف والأبواب والنوافذ والطلاء ونحو ذلك.
وإذا شَربَ فلا يصوِّت ولا يتنفس في الإناء ولا يطمطم عند المضغ، ويكظم الجشاء ما استطاع، ولا يردُّ شيئًا من فمه إلى المائدة، ولا يلعق أصابعه قبل الفراغ، ولا بأس بالأكل بالملاعق ونحو ذلك إذا احتاج إلى ذلك أو كان معه مَنْ لا يأكل إلا بها، وإذا خلل أسنانه صرف وجهه عن الناس، ولفظ ما يخرج في مكان لا يراه أحد، ومَنْ دعاه إلى تناول شيء عنده -ولو القهوة أو الشاي- أجابه، وجاء عنده وحده غير مستصحب معه أحدًا من أولاده أو أصدقائه، ولا يفعل كما يفعل الجهال الذين يأتون بأبنائهم معهم في الولائم، ويستصحبون من لقيهم في الطريق ويقولون: ضيف الكرام يضيف مَنْ جاء، وهذا تأفك وتطاول لا تجيزه الشريعة إلا بإذن صاحب البيت ورضيه.
هذا؛ وقد ذكر أهل العلم أن لوجوب الدعوة وحضور الوليمة شروطًا كما ذكر الحافظ في الفتح، منها:
1-أن يكون الداعي للوليمة حرًّا رشيدًا.
2- أن لا يخص الأغنياء دون الفقراء: "شرُّ الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء".
3- أن لا يختص باليوم الأول على المشهور.
4- أن لا يكون في الموضع منكر أو ما يتأذى به.
5- أن لا يكون له عذر.
6- أن لا يُسبق بدعوة من غيره، وإلا فالإجابة للأول.
قال البغوي: "ومن كان له عذر أو كان الطريق بعيدًا تلحقه المشقة فلا بأس أن يتخلف".
أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية:
إن من أمراضنا الاجتماعية البشعة أن يقيم الإنسان وليمة عرس أو ختان أو غيرهما فيعمل ما يطيقه، ثم يأتيه من المتطفلين خلق كثير، ويزدحم بيته ممن ليسوا بمدعوين، وربما ممن لا يحب أن يراهم ولا يجالسهم، فيوقعون الرجل في حرج شديد، ويتكلف ما ليس في طاقته، وربما فضحوه أمام الناس بانقضاء ما أعده من طعام، ويضعونه في موقف شديد، فيتمنى لو تبلعه الأرض ولا يصل إلى مثل هذا الموقف، وذلك من الجرم الكبير والإثم العريض، ولم يكن ذلك من أخلاق الجاهليين فضلاً أن يكون من أخلاق أهل الإسلام.
جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن أبي مسعود البدري -رضي الله عنه- قال: "إن هذا تبعنا، إن شئت أن تأذن له وإن شئت رجع". قال: بل آذن له يا رسول الله.
لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلم باتباع الرجل له في دعوته فلم يشأ أن يرده، وذلك من كمال رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالأمة، فسكت عنه عساه أن يرجع قبل الوصول إلى المكان، والرجل حمله جوعه على التطفل، أو ساقه إلى صاحب الدعوة حسن ظنِّه به، ومرافقة مَنْ لا يرد سائلاً، لكن القاعدة في هذا الباب: "أن الحق لصاحب المنزل"، يقبل من يشاء ويرد من يشاء، ولعله غير مستعد بطعامٍ كافٍ ومجلس واسع، أو حريص على إكرام ضيفه والخلوة به، ولهذا قرر العلماء عدم جواز الأكل لمن لم يكن مدعوًا، فإن أكل فإنه يأكل حرامًا ويدخل في جوفه نارًا ما لم يأذن له صاحب المنزل بطيب نفس.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (2/99): "لو دخل على آكلين فأذن له لم يجز له الأكل معهم إلا إن ظنَّ أنه عن طيب نفس، ولا لخلو حياءٍ، من ثمَّ حرم إجابة من عرَّض لضيافة تجملاً أو أكل هدية من ظنَّ أن لا يهدي إلا خوف الذمة".
وهذا كلامٌ نفيس يبين لنا أمرين:
الأول: حرمة طعام من تضيَّف بغير إذن.
الثاني: منْ أكل من طعام غيره أو أخذ شيئًا من ماله بغير رضا نفسه وإنما على جهة الحياء أو الإحراج فإنه لا يجوز، ويعد بذلك منتهكًا للحرمة، وفي الحديث: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه".
فلنتقِ الله -عباد الله- في أنفسنا وفي إخواننا، فإن هذه القضايا واقعة مع الأسف الشديد، فعلينا بلزوم الجادة والتمسك بالشرع والتأدب بآداب صاحب الشريعة -صلى الله عليه وسلم- ولزوم هديه.
نسأل الله الكريم أن يصلح أحوالنا ظاهرها وباطنها، وأن يهدينا للزوم صراطه المستقيم.
هذا؛ وصلوا وسلموا على مَنْ أكرمه ربه...