البارئ
(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
ها أنتم ودَّعتم ضيفًا عزيزًا، وموسمًا كريمًا، بذلتم فيه الجهود، وأتعبتم فيه النفوس، وانسكبت في لياليه عبراتكم، وارتفعت في ساعاته إلى الله نجواكم؛ فلا تجعلوا شهر رمضان آخر عهدكم بالطاعة، بل استقيموا على هذا...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المسلمون: انقضى شهر رمضان، تلك المحطة الإيمانية التي تزود منها كثير من السائرين إلى الله؛ فطُويت صفحات تلك الأيام بما أُودع فيها من الأعمال، وخرجنا منه بعد أيامه المعدودات:
رَعَى اللهُ أَيَّامًا مَضَت وَلَيَالِيًا | خِفَافًا بِنَا مَرَّت كَمَرِّ السَّحَائِبِ |
وَيَا لَيتَهَا لم تَمضِ عَنَّا فَفَقدُهَا | عَلَى النَّفسِ إِحدَى مُوجِعَاتِ المَصَائِبِ |
عباد الله: رمضان هو الجنة التي ذقنا فيها لذة الصيام والقيام، وامتلأت فيه مساجدنا بالمصلين، وتكاثرت أعداد المستغفرين التائبين، وقد مرت أيام قلائل على رحيل خير الشهور؛ فما أحوجنا إلى لزوم ما اعتدنا عليه من فعل الخيرات، والبعد عن المحرمات؛ حتى ننعم بعطايا رب البريات؛ (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)[الجن: 16].
مَا كَانَ أَحْسَنَنَا وَالشَّمْلُ مُجْتَمِعٌ | مِنَّا المصَلِّي وَمِنَّا القَانِتُ القَارِي |
أيها المؤمنون: ها أنتم ودَّعتم ضيفًا عزيزًا، وموسمًا كريمًا، بذلتم فيه الجهود، وأتعبتم فيه النفوس، وانسكبت في لياليه عبراتكم، وارتفعت في ساعاته إلى الله نجواكم، فلا تجعلوا شهر رمضان آخر عهدكم بالطاعة، بل استقيموا على هذا الطريق، واستديموا هذا الحال، فلقد كان دأب السابقين الأولين المداومة على الطاعة، والاستمرار في العبادة؛ تأسيًا بخير الخلق -صلى الله عليه وسلم-، فعن علقمة قال: "سَألتُ أُمَّ الْمُؤمِنِينَ عَائِشَةَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فقُلتُ: يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ، كَيْفَ كَانَ عَمَلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأَيَّامِ؟ قَالَتْ: لاَ، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَطِيعُ؟"(متفق عليه).
وعن عائشة -رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِلَ: "أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ"(متفق عليه).
وعن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا عَبْدَ اللَّهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ"(رواه البخاري).
وإن الاستقامة على العمل الصالح وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لسُفيان الثَّقَفيّ حين جاءه فقال: "يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، قَالَ: "قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، ثم اسْتَقِمْ"(رواه مسلم).
فاستقم على الطاعة ما دامت فيك حياة، وداوم على عبادة اللهِ حتَّى تلقَى ربَّك وهو عنكَ رَاضٍ، قالَ الحسنُ البَصْرِيُّ -رحمه اللهُ-: "إنَّ اللهَ لَمْ يَجعَلْ لعملِ المؤمنِ أَجَلاً دونَ الموتِ"، ثُمَّ قَرأَ قولَهُ -تعالى-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 99]؛ فلا تجعل العصيان محل الصيام والقيام والطاعات، ولا تجعل التفريط مكان المسارعة في الخيرات، فإن هذا والله من علامة الحرمان، وعدم التوفيق وقبول الأعمال.
وإن من الاستقامة على العمل: إِتْبَاع الحسنة بأختها، فإن كان رمضان قد انقضى فإن الصيام لم ينقضِ؛ فهناك الست من شوال تعدل مع رمضان صيام الدهر؛ كما في حديث أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ"(رواه مسلم). وهناك الإثنين والخميس وأيام البيض، وغيرها من أيام الله، وإن انتهى رمضان؛ فإن القيام والصلاة والصدقة لم تنته، وإن أَغْلق رمضان أبوابه؛ فإن أبواب الخير لا زالت مفتوحة، وطرق القربات مشرعة.
عباد الله: ضرب الله مثلًا امرأة تغزل غزلًا متينًا، تُحكم خيوطه، وتبدع في إتقانه، وتبذل فيه جهدها، وتقضي في إتمامه وقتها، حتى إذا أنتجت غزلًا قويًا عادت إليه فنقضته، والتفتت إليه فأفسدته، وأعادت خيوطه سيرتها الأولى؛ فقال الله -تبارك و-تعالى- عنها: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا)[النحل:92]. وسئل بعض السلف عن قوم يعبدون الله في رمضان فإذا انسلخ نسوه فقال: "بئس القوم قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان".
أرأيتم لو أن إنسانًا بنى قصرًا مشيدًا فأحسن بنيانه، وأرسى قواعده وأركانه، وأتقنه غاية الإتقان، حتى إذا شارف على التمام، ووصل إلى مرحلة الختام، قام إليه فجعله خرابًا، وقوض ما شيَّد فصيّره يبابًا، أيُقال عنه عاقل؟ أبعد التعب والسهر والتخطيط والتنفيذ يذهب جهده سدى؟ ذلك هو حال من اجتهد في رمضان بالطاعات، وانشغل في فعل الصالحات، والتزود من القربات، حتى إذا انقضى الشهر عاد إلى حاله قبل الصيام، وتوسع في المباحات ووقع في الآثام؛ فهدم ما شيّد، وذهب بما جَمَع، وذلك هو المحروم.
والناس بعد رمضان إما محسن مسابق، وإما مسيء مقصر؛ فيا من أحسنت في رمضان أدِمْ الإحسان، وكن راجيًا من الله قبول ما قدمت، وخائفًا من أن يكون هناك ما تسبب في رد عملك؛ فقد علَّمنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- ألا نركن إلى أعمالنا، وأمرنا أن نزداد تواضعا لله كلما ازددنا عملًا وقربًا، وأن نكون حريصًين على قبول العمل أكثر منا على العمل ذاته، فعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قُلْتُ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)[المؤمنون:60]، أَهُوَ الَّذِي يَزْنِي، وَيَسْرِقُ، وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ؟ قَالَ: لَا يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، أَوْ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُ، وَيُصَلِّي، وَهُوَ يَخَافُ أَلّا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ"(الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني).
قال عبد العزيز بن أبي رواد: "أدركتهم يجتهدون في العلم الصالح فإذا بلغوه وقع عليهم الهمّ أيتقبل منهم أم لا؟".
وقال مالك بن دينار: "الخوف على العمل ألا يُتقبل أشد من العمل"، ولقد كانوا -رحمهم الله- يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم.
ويا من قصَّر في رمضان، وذهبت عليه أيامه بين ذنب وتقصير، ولهو وغفلة، أتظن أنك ستبقى إلى رمضان القابل؟ ألم تنهك الأيام بتسارعها، ألم يعظك الموت بتَخطُّفِ الناس من حولك؟ أما إن رمضان عائد فهل ستعود أنت إليه؟ فلتبادر إلى الله بالتوبة النصوح، والعزم على عدم العودة للذنب، والانتباه من التفريط والغفلة؛ فما الحياة إلا أيام وتلقى ربك فردًا؛ فادخر لذلك اليوم عملًا تلاقيه به، وزادًا تتوصل به إليه.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه..
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
أيها المؤمنون: إن الأحداث والأوبئة النازلة في العالم إنما هي ابتلاء واختبار للإنسان ودينه وقيمه وأخلاقه في كل هذه الظروف والأحوال، وطريقة تعامله معها؛ فمن الناس من يضعف إيمانه، وتتزعزع ثقته، وتفسد أخلاقه، فينسى ربه الذي بيده تصريف الأمور، ويلجأ إلى مخلوق ضعيف مثله، أو يتكل على قوته وماله وعدده وعدته، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[فاطر:15]؛ فلا تُستمَدُّ القوة إلا منه، ولا تكون المصائب والكوارث والأمراض والزلازل والفتن إلا بإذنه؛ (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)[الفتح:7]، وجنود ربي كثيرة؛ (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ)[المدثر:31].
عباد الله: إن البلاء إذا نزل فإما أن يكون عقابًا، وإما أن يكون ابتلاءً، فالعقاب ما ذكره الله -تعالى- بقوله: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[العنكبوت:40]، فقوله: (بِذَنْبِهِ) قانون إلهي رباني يوحي بأنه -تعالى- لا يُؤاخِذ إلا بذنب؛ (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشورى:30]؛ فإذا كثرت ذنوب بني آدم، وتنكروا لنعم الله، وغرتهم الحياة الدنيا، أرسل عليهم جنديًا من جنوده، وأراهم آية من آياته؛ ليستفيقوا من غفلتهم، ويعودوا إلى صراطه المستقيم.
وإن علينا أن نبذل الأسباب المشروعة لمواجهة هذا الوباء، فنلتزم بالنصائح الطبية، والتعليمات الصحية، كالاهتمام بالنظافة الشخصية والمجتمعية، وغسل اليدين وتعقيمهما، وعدم التزاحم والاكتظاظ، ولبس الكمامات، وأخذ الحيطة والحذر من كل ما يمكن أن ينقل العدوى، أو ينشر الوباء. ولنتُب إلى الله ونعود إلى صراطه المستقيم، ونجيد العمل، ونحسن الظن بالله، ثم نَكِلَ أمورنا إلى الله، وندعوه ونتضرع إليه أن يرفع عنا الوباء، وأن يدفع عنا البلاء. ولتطمئن نفوسنا بأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، إذا بذلنا الأسباب كلها.
ولنحذر من إشاعة الأخبار الكاذبة، وإرسال الرسائل المروِّعة، فقد تصادف مريضًا فتزيد من علَّته، أو صحيحًا فيهلك بخوفه وحسرته، فلا تكن سببًا في إيذاء أحد بخبر كاذب، أو رسالة عابرة، فأنت غني عن كل ذلك. بل انشروا التفاؤل بين الناس، وأرسلوا البشائر بين البشر؛ (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[المائدة:2].
وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه..