البارئ
(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله بن حميد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
أهلُه آمِنون حين يخافُ الناس، طاعِمون حين يجُوع الناس، أفئدةُ الناس إليه مُقبِلة، ووجوهُهم إلى هذا البيت المُكرَّم آمَّةٌ ومُتوجِّهة، الثمراتُ إليه تُجبَى، والقلوبُ إليه تهوِي، والأرزاقُ إليه مُتدفِّقة، والثمراتُ فيه مُتوفِّرة،.. تفضيلٌ وتعظيمٌ واختصاصٌ في انجِذابِ الأفئدة، وهويِّ القلوب، وانعِطاف النفوس، يثُوبون إليه على تعاقُب الأعوام من جميع الأقطار، فكلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له اشتياقًا. فلله! كم أُنفقَ في حبِّه من الأموال والأرواح، مُقدِّمًا - هذا الزائر - بين يديه أنواع المشاقِّ والمخاوِف، وهو يستلِذُّ بذلك كلِّه ويستطيبُه..
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله، الحمدُ لله أنارَ بهديه قلوبَ العارفين، وأقام على الصراط المستقيم أقدامَ السالكين، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه أسبغَ علينا نعمًا، وأفاضَ علينا إحسانًا جعلَنا الله لها من الشاكرين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مُخلصين له الدين، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه سيدُ المرسلين وإمام المتقين، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابِه أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، وتأملوا في العواقِب بعين الفِكَر، وخذوا زادًا كافيًا لبُعد السفر، ولا تكونوا في مواطِن الجِدِّ لاعبين، ولا عن طريق الرُّشد ناكِبين.
اغسِلوا القلوب بفيض المدامِع، وتنبَّهوا لمُفاجآت المصارِع، فلسوف تخلُو المنازِلُ من أربابها، وتُؤذِن الديارُ بخرابها، وتقومُ الخلائِقُ لحسابِها، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 1، 2].
أيها المسلمون .. حُجَّاج بيت الله: حللتُم أهلاً، ووطِئتُم سهلاً، وقدِمتُم خير مقدَم. هذه مكة المُكرَّمة، وهذه الكعبةُ المُشرَّفة، وهذا بيت الله يستقبِلُكم ويحتضِنُكم.
مكة المُكرَّمة - زادَها الله تكريمًا وتشريفًا، وتعظيمًا ومهابةً وبرًّا -، أعظمُ مُدن الأرض مكانة، وأعلى عواصِمها شُهرة. باركَها الله، وجعلها مكانًا لبيته، ومورِد نبيِّه محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - ومبعثه ومُتنزَّل وحيه، وقبلة المُسلمين في مشارِق الأرض ومغارِبها، (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) [الحج: 26].
أحبُّ البلاد إلى الله، وخيرُها عنده، اختارها لمناسِك عباده، وجعلَ قصدَها فرضًا من فروض الإسلام. أولُ الحرمين، وثاني القبلتين، اعتنى العلماءُ بتاريخها، وتوثيق أخبارها، وبيان أحكامها، يُنفقُ في الوصول إليها نفيسُ الأموال، وتُقتحمُ من أجل بلوغها عظيمُ الأهوال.
معاشر المسلمين .. ضيوف الرحمن:
بتعظيم بيت الله يعظُم الدين، ويتمُّ الإسلام، وتستقيمُ الدنيا، وتُشهَدُ المنافِع. مكة هي أم القرى جميع القرى بحواضِرها وقُراها، وكل معموراتها، وهي أم الثقافة والتاريخ، أقسم الله بها وبأمنها، فقال - عزَّ شأنه -: (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [التين: 3].
معاشر الأحبَّة: وهذه وقفاتٌ مع ما ينبغي من تعظيم هذا البيت، ومظاهر هذا التعظيم، وإشاراتٌ لهذا الشرف والتكريم الإلهي، والاصطفاء الربَّاني.
أيها الإخوة في الله .. حُجَّاج بيت الله: وهل أعظمُ إجلالاً وتكريمًا من أن أضافَ الحقُّ - عزَّ شأنه - البيتَ إلى نفسه، فقال: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ)[الحج: 26]. فكم تقتضي هذه الإضافة الخاصة من الإجلال والتعظيم والاصطفاء والمحبَّة؟!
ونبيُّنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - يقفُ على الحَزوَرة مُودِّعًا البلد الطاهر، مُكرَهًا غير مُختار، ثم يُقسم بقوله: "واللهِ إنكِ لخيرُ أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منكِ ما خرجتُ".
وهي حبيبةُ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ - عليه الصلاة والسلام -: "ما أطيبَكِ من بلد، وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ" (أخرجه الترمذي في "سننه"، والطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وصحَّحه ابن حبان والحاكم والألباني).
وهل رأيتم أعظمَ من قوله - صلى الله عليه وسلم - في صُلح الحديبية: "والذي نفسي بيده؛ لا يسألوني خطةً يُعظّمون فيها حُرمات الله إلا أعطيتُهم إياها"؟!
أيها المُسلمون:
ومن مظاهر عظمة هذا البيت وتعظيمه: ما وضعَ الله فيه من الآيات البيِّنات والهُدى، فقال - عزَّ شأنُه -: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 96، 97].
يقول ابن جرير - رحمه الله -: "الآيات البيِّنات منهن: المقام، ومنهن: الحجَر، ومنهن: الحَطيم".
ويقول البغوي: "ومن تلك الآيات: الحجر الأسود، والحَطيم، وزمزم، والمشاعِر كلُّها".
أما الكعبة المُشرَّفة - يا عباد الله - فهي من أعظم الآيات البيِّنات؛ ففي الحديث: "لا تزالُ هذه الأمة بخيرٍ ما عظَّموا هذه الحُرمة حقَّ تعظيمها، فإذا تركُوها وضيَّعوها هلَكُوا"؛ حسَّنه الحافظ ابن حجر.
ومن أعظم الغرائبِ في سُنن الله: أن جعلَ نهايةَ العالَم بنهاية هذا البيت وخرابِه واستِحلاله، والجُرأة عليه، فأمانُ العالَم كلِّه قدَّره الله مُرتبِطًا بأمن مكة وتعظيمها وعُمرانها. ومن هنا، قال - جل وعلا -: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) [المائدة: 97].
ومن الآيات البيِّنات: الرُّكنُ والمقام، قال - عزَّ شأنه -: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة: 125]، وقال: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ) [آل عمران: 97]. قال قتادةُ ومُجاهد: "مقامُ إبراهيم من الآيات البيِّنات".
وفي الخبر: "إن الرُّكن والمقام ياقُوتتان من ياقُوت الجنة، طمسَ الله نورَهما، ولو لم يُطمس نورُهما لأضاءا ما بين المشرِق والمغرِب" (أخرجه أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم، وهو صحيحٌ لغيره).
ومن الآيات البيِّنات: فعن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "ليأتينَّ هذا الحجرُ يوم القيامة وله عينان يُبصِر بهما، ولسانٌ ينطِقُ به يشهدُ على من يستلِمُه بحقٍّ" (أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبان والألباني، وقال الترمذي: "حديثٌ حسن").
وكان ابن عُمر يُقبِّل الحجر ويلتزِمُه ويقول: "رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان به حفيًّا".
يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: "ليس على وجه الأرض موضِعٌ يُشرعُ تقبيلُه واستلامُه، وتُحطُّ الخطايا والأوزار فيه غيرَ الحجر الأسوَد والرُّكن اليمانيِّ".
والمُلتزَمُ من آيات البيت البيِّنات، يقول ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -: "المُلتزَمُ بين الرُّكن والباب".
قال جمعٌ من أهل العلم: "يلتزِمُ بين الرُّكن والباب، فيضعُ وجهه وصدرَه وذراعيه ويدعُو ويسألُ اللهَ حاجتَه".
أما ماءُ زمزم فخيرُ ماءٍ على وجه الأرض، فيه طعامٌ من طُعم، وشفاءٌ من السُّقم، بذلك صحَّ الخبرُ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. وهو لما شُرِب له، وهو هَزمةُ جبريل، وسُقيا إسماعيل.
يقول مُجاهد: "إن شرِبتَه تُريد الشفاء شفاكَ الله، وإن شرِبتَ تُريدُ أن تقطعَ ظمأَك قطعَه الله، وإن شرِبتَه تُريدُ أن يُشبِعَك أشبعَك الله".
معاشر الحُجَّاج:
وهذا البيت هُدًى للعالمين؛ فهو هُدًى في العمل، لما جعلَه الله فيه من أنواع التعبُّدات المُختصَّة به، وهو هُدًى في العلم والمعرفة، فيه من آيات العلم البيِّنات والأدلة الواضِحات، والبراهين القاطِعات على أنواعٍ من العلوم الربانيَّة، والمطالِب العالية، من الأدلة على توحيده ورحمته وحكمته وعظمته وجلاله وتشريعه وأحكامه، وما منَّ به على أنبيائِه وأوليائِه والصالحين من عباده.
وكلُّ هُدًى مُقتبسٌ منه، فهو قبلةٌ في الحق، وقبلةٌ في الاتجاه.
ومن أعظم خصائص هذا البيت، ومظاهر تعظيمه: هذا الأمن العظيم الذي جعلَه الله أحدَ أوصافه، (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) [البقرة: 125]، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت: 67].
أهلُه آمِنون حين يخافُ الناس، طاعِمون حين يجُوع الناس، أفئدةُ الناس إليه مُقبِلة، ووجوهُهم إلى هذا البيت المُكرَّم آمَّةٌ ومُتوجِّهة، الثمراتُ إليه تُجبَى، والقلوبُ إليه تهوِي، والأرزاقُ إليه مُتدفِّقة، والثمراتُ فيه مُتوفِّرة، (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم: 37].
تفضيلٌ وتعظيمٌ واختصاصٌ في انجِذابِ الأفئدة، وهويِّ القلوب، وانعِطاف النفوس، يثُوبون إليه على تعاقُب الأعوام من جميع الأقطار، فكلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له اشتياقًا. فلله! كم أُنفقَ في حبِّه من الأموال والأرواح، مُقدِّمًا - هذا الزائر - بين يديه أنواع المشاقِّ والمخاوِف، وهو يستلِذُّ بذلك كلِّه ويستطيبُه.
وإن من مظاهر الأمن في هذا البيت المُعظَّم: ما يعيشُه الحرمان الشريفان وأهلُهما وقاصِدُوهما في هذا العهد المُبارَك، من أمنٍ وافر، وخيرٍ مُتكاثِر، ولعلَّه يتجلَّى ذلك في هذه الأيام في شكلٍ أظهر؛ حيث تخوضُ الدولةُ مع التحالُف حربًا حازِمة لإعادة الأمل لإخواننا وجيراننا، ومع ما يتطلَّب كل ذلك من استِعداداتٍ وأعمارٍ واحتياطاتٍ.
ولكن المُشاهَد أن الناس مُواطِنين ومُقيمين ووافِدين يتقلَّبون في معاشِهم، العاملون في أعمالهم، والمُسافِرون في أسفارهم، والمُجازُون في إجازاتهم.
كما تستقبلُ هذه البلاد وهذا البلد الآمِن، تستقبِلُ إخوانَها الفارِّين من مواقِع الفتن الاضطِرابات في بلادهم، وتفتحُ أبوابَها لتُعامِلهم ا تُعامِلُ إخوانهم المُواطِنين والمُقيمين.
ما تستقبلُ الملايين من حُجَّاج بيت الله الحرام وقاصِديه، وهي - ولله الحمد - مُوفَّقةٌ في سياساتها واقتصادها وعلاقاتها، على الرغم من الاضطرابات لمالية، وتقلُّبات الأسعار.
كيف وهي - ولله الفضلُ والمنَّة - ترفعُ رايةَ الكتاب والسنة، وتُحكِم الشرعَ المُطهَّر، وشعائِر الإسلام فيها ظاهرة، تُعطِي المُحتاج، وتُواسِي المكلُوم، وتُحاسِبُ المُقصِّر، في رحمةٍ وحزمٍ وشفافيةٍ. فلله الحمدُ والمنَّة.
بمُلاحظة ذلك كلِّه - أيها الإخوة - يُدرِك المُتأمِّل هذا الأمنَ الوارِف، وحفظَ الله لأهل حرمِه ورُعاة بيته، وخُدَّام ضيوفه.
معاشر الإخوة:
هذا هو بيت الله، وهذا هو حرمُه، الصلواتُ فيه مُضاعفَة، الصلاةُ الواحدةُ بمائة ألف صلاةٍ فيما سِواه، والإيمانُ يأرِزُ بين المسجدين مكة والمدينة كما تأرِزُ الحيَّةُ إلى جُحرها. وهي محفوظةٌ محروسةٌ من الدجال، ليس نقبٌ من نقابها إلا عليه الملائكةُ صافِّين يحرُسُونها، والرِّحالُ تُشدُّ إليه مع شقيقيه المسجد النبوي والمسجد الأقصَى.
والوعيدُ الشديدُ لمن همَّ بالمعصية فيه، (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[الحج: 25].
يقول ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -: "ما من رجُلٍ يهمُّ بسيئةٍ فتُكتبُ عليه، ولو أن رجلاً بعدن أبيَن همَّ أن يقتل رجلاً بهذا البيت إلا أذاقَه الله العذابَ الأليم".
معاشر الأحبَّة .. حُجَاج بيت الله:
هذه إشاراتٌ لبعض هذه الآيات البيِّنات.
أما تعظيمُ البيت وإجلالُه وإكرامُه، فأولُ مظاهر التعظيم وأولاها: فعلُ ما يحبُّه الله ورسولُه، وتركُ ما لا يُحبُّه الله ورسولُه. تعظيم البيت بتعظيم شعائِر الله، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32].
وأولُ ذلك وأولاه: الحرصُ على تحقيق التوحيد، وسلامة المُعتقد، والبُعد عن كل مظاهر البدع والتعلُّق بغير الله، فضلاً عن المعاصي والمخالفات، (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) [إبراهيم: 35]، (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا) [الحج: 26].
فهذا البيت المُعظَّم بُني لتوحيد الله وعبادته، والتقرُّب إليه بما شرَع، وتحرِّي بركته بالأعمال الصالحة.
وفي الخبر الصحيح، عن ابن عُمر - رضي الله عنهما -، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "استمتِعوا بهذا البيت، فقد هُدِم مرتين، ويُرفع في الثالثة" (أخرجه ابن أبي شيبة والبزار، وصحَّحه ابن خزيمة والألباني).
وجاء في الأثر: "استكثِروا من الطواف بهذا البيت ما استطعتُم من قبل أن يُحال بينكم وبينه".
معاشر المُسلمين، ومعاشر الأحبَّة:
ومن التعظيم: إكرامُ الوافِدين - ضيوف الرحمن - حُجَّاجًا وعُمَّارًا وزوَّارًا، في رحمةٍ وحُسن معشَر، واستقبالٍ وبشاشةٍ، وطلاقة وجه، وتقديم ما يُستطاع من خدمة. الجاهلُ يُعلَّم، والفقيرُ يُواسَى، والكبيرُ يُوقَّر، والصغيرُ يُرحَم، والمُقصَّر يُدعَى. في تيسيرٍ للأمور، وتفريجٍ للكروب، وأقربُ الناس من رحمة الله أرحمهم بخلقه.
وبعدُ - حفِظَكم الله ورحمكم -: هذا بلدُ الله، وهذا بيتُه، عظَّم حُرمته، فجعل حرمَه آمنًا، لا يُسفك فيه دم، ولا يُضرب فيه أحد، ولا يُنفَّر فيه صيد، ولا يُعضَد فيه شجر، ولا يُختلَى خلاه، ولا تُلتقطُ لُقطتُه إلا لمُعرِّف.
وإن أعظم التعظيم: لزومُ جادَّة الشرع، والإحسان إلى الناس، وطهارة النفس ونقائها، وحبها للخير ولعباد الله، ولبقاع الله الطاهرة.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش: 1- 4].
نفعَني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله لي ولكم ولسائر المُسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، الحمدُ لله ذي الجُود والكرم، مُسبِغ النعم، وصارِف النِّقَم، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أرجُو النجاةَ بها يوم تزلُّ القدم، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أُوتيَ جوامِع الكلِم، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِه والتابعين وسلَّم.
أما بعد، معاشر المسلمين: لئن كان هذا الحديثُ عن المسجد الحرام ومكة - شرَّفها الله -، فإن هذا يقودُ ويدعُو ويُذكِّر بالحديث عن شقيقِه وتوأمه: المسجد الأقصَى، (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) [الإسراء: 1].
إنه الربطُ الرباني بين المسجدين، والمسرَى النبوي بين البلدتين. فما هو حالُ المسجد الأقصى هذه الأيام؟!
إنه يعيشُ اعتداءاتٍ آثِمة، ومُمارساتٍ وحشيَّة، وسياساتٍ عُنصريَّة. اعتِداءاتٍ يهودية تشهَدها ساحاتُ المسجد الأقصى، إنها إعلانُ حربٍ على هويَّة المسجد الإسلامية، وهي امتِدادٌ لهذا الاغتِصاب الظالم الآثِم الجائِر لفلسطين المُحتلَّة كلِّها، أمام صمت العالَم وعجزه.
اعتِداءاتٌ تحمِلُ المسجد من المُعاناة على إخواننا الفلسطينيين عامَّة، وعلى المقدسيين خاصة، وتُظهِر ما يطمعُ إليه هؤلاء الصهاينة من تقسيمٍ للمسجد، خيَّب الله مسعاهم، وأبطلَ كيدَهم، وجعلَه في نحورهم.
لقد اختارَ هؤلاء الصهاينة هذا التوقيت استِغلالاً لما تعيشُه أمة الإسلام عامة، والمنطقة خاصة من تنافُر وفُرقة وفتن، وتناحُر إرهابيٍّ وطائفيٍّ.
معاشر المسلمين .. حُجَّاج بيت الله:
ولكن لعل في هذا الحدث الجلَل الذي يتعرَّض له المسجد الأقصَى المُبارَك ما يُوقِظُ المُسلمين. فالأقصَى هو المُلتقَى الذي يلتقِي عنده المُسلمون، بكل مذاهبهم وانتماءاتهم واهتماماتهم.
وإن من الواجِب المُتعيِّن أخذ الدروس والعِبر إلى أبعَد مدى، والاستفادة من أن هذه الفُرقة وهذا التناحُر لم يستفِد منه إلا هذا العدوُّ المُشترَك.
نعم، أيها المسلمون .. الأقصَى المُبارَك هو الذي يجبُ أن تنتهي عنده الخلافات، فهو الذي يُوحِّد بين المسلمين عامة، والفلسطينيين خاصة، ولا يُمكن أن يُترَك إخوانُنا المُقاوِمون وحدَهم أمام هذا العدو المُتسلِّط. إنها قضيَّةُ أهل الإسلام جميعًا، والانتِصارُ لها وتأييدها مسؤوليَّةُ كل مُسلم.
معاشر الأحبَّة:
إن الدعوة مُوجَّهةٌ لجميع المُسلمين، وبخاصَّة الساسَة منهم وأصحاب القرار، دُولاً ومُنظَّمات وهيئات، لبذل كل ما يستطيعون من قوةٍ سياسيَّة ومادية ونظامية ودولية.
ونقول - وبكل ثقةٍ -: إن إنقاذ المسجِد الأقصَى ليست مهمةً عسيرةً، إذا صحَّت النوايا، وصدقَت العزائِم، وتوحَّدَت الجهود، واستُوعّبَت الدروس.
فالمُسلمون كلُهم يدٌ على من عاداهم، والأمةُ الحيَّة هي التي تخرُج من ظلام الخُذلان إلى نور الأمل. إن هذه الأمة حيَّةٌ لا تموت، حيَّةٌ بقوة الله، ثم بقوة هذا الدين، وامتِلاء القلوب بالثقة بالله - عزَّ شأنه-.
والخلافُ مع الصهاينة خلافُ عقيدة، وصراعٌ بين وعد الحق ووعد مُفترًى. وهذه مسؤولية الجميع، شعوبًا وحكوماتٍ وهيئاتٍ ومُنظَّمات.
إن نُصرة القدس وفلسطين تكون ببُروزها حيَّةً في القلوب، وفي الكتب، والكتابات، وفي المناهِج، وفي الإعلام، وفي كل السياسات. ثم بتأييد إخواننا المُرابِطين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، فهم في مُقاومةٍ شريفةٍ، في قوتها وإرادتها وثباتها وتحمُّلها، وسيبقَى الرِّباطُ والمُرابِطون - بإذن الله وحوله وقوته -، والنصرُ قادمٌ - بإذن الله -، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء: 227].
ألا فاتَّقوا الله - رحمكم الله -، وتأمَّلوا في كل هذه الآيات البيِّنات في مشاعِر المُسلمين وشعائِرهم، مما يزيدُ أهلَ الإسلام هُدًى وقوةً واجتماعًا، تُستجلبُ به قوةُ الله ورحمتُه وفضلُه وعزُّه، ثم رِضاه والفوزُ بجنَّته.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمةِ المُهداة، والنعمةِ المُسدَاة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله، فقد أمرَكم بذلك ربُّكم، فقال في مُحكَم تنزيلِه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاةَ والملاحدةَ وسائرَ أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافَك واتَّقاك، واتَّبَع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، ووفِّقه ونائِبَيْه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمَع كلمتَهم على الحق والهُدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمة الإسلام أمرَ رُشد، يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمرُ فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المُنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين، اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم وأنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرمِين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورِهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم إنا نستودِعُك دينَنا وبلادَنا وولاةَ أمرنا وجيشَنا وأهلِينا، اللهم أنت عضيدُ تلك النواصِي، ونصيرُ عبادِك، فزِدهم قوةً إلى قوَّتهم، ونصرًا إلى نصرِهم.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
عباد الله:
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90]، فاذكرُوا الله يذكُركم، واشكُروه على نعمه يزِدكم، ولذكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنَعون.