الجبار
الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن صالح العجلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أعلام الدعاة |
وإذا بعمير يخاطب عمَّه بكلمات تدل على أثر التربية والولاء لله ورسوله في نفسه؛ فيقول: "واللهِ يا عمّ ما كان على ظهر الأرض أحدٌ بعد محمد أحبّ إليّ منك، ولقد قلتَ مقالةً: إنْ ذكرتُها فضحتْكَ، وإنْ أخفيتُها خنتُ أمانتي، وأهلكت نفسي وديني، ولإحداهما أهون علي من الأخرى...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخوة الإيمان: كان غلاماً صغيراً، ويافعاً حصيفاً، نشأ أميناً وفياً، وعصاميّا ألمعياً, أسلمَ وهو صَغير، وأَحبَّ رسولَ اللهِ حباً -صلى الله عليه وسلم- مُنقطعَ النظير.
حصَلَ له موقفٌ عَصِيبٌ، وامتحانٌ رَهيب، طُعنَ في شهادتِه وصدقِه، حتى تنزلت آيات القرآن لأجلِه.
نقفُ مع خبرِ الفتى الشُّجاع، والقوَّالِ الصَّدَّاع، عمير بن سعد الأنصاري, له في السِيَرِ خبرٌ مَسْطور، ومَوقف مَشهودٌ مَذْكور، فيه ما فيه من المحبة والصدقِ والوفاءِ الكبيرِ، ما يغني عن كثير من الوعظ والتذكير.
نشأ عميرٌ في كنف أمِّه التي فارقت أباه، وتزوجت الجُلاس بن سُويد أحد أثرياء الأوس, فتكفل الجُلاسُ بنُ سُويد بعمير بن سعد وآواه، وأحسن تربيته ورعاه، فأحبه عميرٌ؛ فقد عوَّضه غياب أبيه.
أشرقت المدينة بمقدم رسول الله-صلى الله عليه وسلم-؛ فأشرق في نفس عمير وأمَّه الإيمانُ والتقوى، والنورُ والهدى، وامتلأ وجدانُ عميرٍ من حب محمد -صلى الله عليه وسلم- ودينه، والغيرةِ عليه، وفدائه بالغالي والنفيس.
فتربى من مدرسة محمد على أن الولاء يكون لله والرسول، ونهل من تربية نبيه -صلى الله عليه وسلم- أسس الأخلاق، وأساسها الصدق مع النفس، ومع الناس.
في السنة العاشرة من الهجرة أعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- للناس عزمه على المسير إلى تبوك للقاء الروم؛ فالسفر بعيد، والحر شديد، والثمار قد أينعت، والظلال قد طابت، حتى سمي ذلك بجيش العسرة؛ لبعد المسافة, وقلة الزاد.
وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يحث الناس على البذل في تجهيز الجيش, فلا تسل عن تسابق الصحابة في الاستجابة للدعوات المحمدية، حتى كانت المرأة تلقي بذهبها وخلاخلها في سبيل الله!.
وعمير بن سعد يرى هذه الأيادي الباذلة، والمشاهد المبهجة، فأسرع إلى عمّه الجُلاس بن سويد وهو من الأثرياء، فحدّثه عمّا رأى من تنافس صحابة رسول الله وإنفاقهم للقليل والكثير في سبيل الله، وجعل عمير يستحث عمَّه الجلاسَ للإنفاق في سبيل الله.
وإذا بالجُلاس بن سويد يصعق عميراً بكلمة كبيرة، أفقدته صوابه، وهزَّت وجدانه، ما ظنَّ من عمِّه الجلاس الذي يُظهر الإسلام أن يَتفوَّه بها يوماً، قال الجلاس: "يا عمير! إن كان محمداً صادقاً فيما يقول؛ فنحن شرٌّ من الحمير", إنها كلمة كاذبة خاطئة، وزفرة آثمة فاجرة، لا تحتمل إلا النفاق والكفر الصراح!.
لا تسل عن دهشة عمير، وصدمته، وذهوله وحيرته؛ فهو بين خيارين: بين السكوت عن عمَّه الذي طالما غذَّاه وأحسن إليه، وبين الثبات على مبادئه ودينه وعقيدته.
وإذا بعمير يخاطب عمَّه بكلمات تدل على أثر التربية والولاء لله ورسوله في نفسه؛ فيقول: "واللهِ يا عمّ ما كان على ظهر الأرض أحدٌ بعد محمد أحبّ إليّ منك، ولقد قلتَ مقالةً: إنْ ذكرتُها فضحتْكَ، وإنْ أخفيتُها خنتُ أمانتي، وأهلكت نفسي وديني، ولإحداهما أهون علي من الأخرى", فقال الجلاس: "اكتمها علي"، فقال عمير: "لا والله".
وكان المنافقون يحذرون أن تنزل عليهم سورة تنبؤهم بما في قلوبهم, مضى الغلام إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخبره بما قال عمّه الجُلاس بن سويد.
عندها دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجُلاس بن سويد، فجاء الجلاس، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا جلاس! ما مقالةٌ بلغتني عنك؟", قال: وما ذاك؟, قال: "مقالة سمعها منك عمير بن سعد؟", وكان عمير بن سعد حاضرا عند رسول الله، وإذا به يسمع الجواب التالي: قال: "لا ما قلتها يا رسول الله!، كذب يا رسول الله! هذا الغلام"، وأَنْكَرَهَا وَحَلَفَ بِاَللّهِ مَا قَالَهَا.
انصدم عمير من جواب عمِّه؛ فهو لا يملك بيِّنةً لدعواه، وأضحى موقفه ضعيفاً، وقد قال ما قال وخاطر بمستقبله مع عمه نصحاً لله، فلم يزد على أن قال: "بل والله قلته، فتب إلى الله، ولولا أن ينزل قرآن؛ فيجعلني معك ما قلته".
لم تحدثنا الروايات أن عميراً ارتبك، أو أنه فاضت دموعه قهراً على تكذيبه والافتراء عليه، لكنه قطعاً موقف تقف في مثله الشعرات على جلودها، وتتحرك فيه الدماء في عروقها، وتتحجَّرُ فيه الدموع على محاجرها.
وساد الصمت، والصحابة ينظرون إلى الجلاس وكبر سنه، وإلى الغلام وصغر عمره، وضعف بينته؛ فالموقف يقول: أحدهما صادق، والآخر كاذب.
وما هي إلا لحظات وإذا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينزل عليه الوحي من السماء, فتعلقت الأبصار برسول الله، وتلهَّفت القلوب لمعرفة الحقيقة، وإذا برسول الله يتلو هذه الآية الكريمة التي أظهرت صدق عمير وبراءته من الكذب، نزل قول الحق نصرة للحق: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ)[التوبة: 74].
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله, أهلٌ للحمد والثناء، وصلاة وسلاما على عبده الذي أصطفى، وعلى الآل والصحب ومن سار على نهجهم واقتفى، أما بعد:
فيا إخوة الإيمان: وبعد هذا الفصل الإلهي والقضاء السماوي نكَّسَ الجلاس رأسه، وقال: "صدق عمير يا رسول الله!", وتذكر الروايات أن الجلاس بن سويد تاب وندم وأصلح من حاله، وَكَانَ من تَوْبَته أَنه لم ينْزع من خير كَانَ يصنعه إِلَى عُمَيْر, قَالَ ابن سيرين: "لم يُرَ بعد ذلك من الجُلاَسِ شيءٌ يُكْره".
نعم؛ لقد قال عمير الحق الذي يدين الله به، وكانت صراحته ومحبته لرسوله الله وولاؤه لدينه سبباً في نجاته، وكان اعترافه أيضاً سبباً لتوبة عمه وندمه, وظلت أمانة عمير وصدقه محفوراً في وجدان الصحابة، قال عروة بن الزبير: "فما زال عمير في علياء بعد هذا حتى مات".
وبقي عمير بن سعد على حالة صالحة من الزهد والتعفف والقناعة، وشهد فتوح الشام في زمن أبي بكر وعمر, واستعمله عمر على حمص إلى أن مات عمير.
وكان عمر يثقُ به، ويثني عليه ويقول: "بأنَّه نَسِيْجُ وَحْدِهِ"؛ أي: لا ثاني له ولا نظير, وكان عمر يقول أيضاً: "وددت أن لي رجالا مثل عمير بن سعد؛ أستعين بهم على أعمال المسلمين", وأخرج ابن مَنْده بسند حسن عن ابن عمر قال: "ما كان بالشام أفضل من عمير بن سعد".
تلك طرف من سيرة عمير، ومشهد سطره القرآن نصرة للصادقين, هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم؛ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[ الأحزاب: 56 ].