الرقيب
كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن صالح العجلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - التربية والسلوك |
وَإِذَا عَاشَ الْعَبْدُ فِي زَمَانٍ مَا، أَوْ مَكَانٍ مَا، وَاقِعًا لَا يَرْتَضِيهِ وَلَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهُ لِلْفَسَادِ الْجَارِفِ الْحَاصِلِ، فَلَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنْ يَكُفَّ يَدَهُ عَنِ الْعَمَلِ وَالْإِصْلَاحِ وَيَتَقَاعَدَ عَنْ تَبْلِيغِ النُّصْحِ وَالدَّعْوَةِ خَشْيَةَ الْبَلَاءِ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يُقِيمَ أَمْرَ دِينِهِ فِي نَفْسِهِ، وَيُصْلِحَ مَنْ يَصْلُحُ...
الخطبة الأولى:
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: فِي وَحْيِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ نُورٌ وَهِدَايَاتٌ، وَإِصْلَاحٌ وَتَوْجِيهَاتٌ، وَتَبْصِيرٌ بِالطَّرِيقِ إِذَا عَمَّتِ الْمُدْلَهِمَّاتُ.
فِي مِشْكَاةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَبْصِيرٌ لِلْعِبَادِ كُلَّمَا غَفَلُوا عَنْ أَمْرٍ أَوْ حَارُوا، وَلَا زَالَتِ الْعُلَمَاءُ فِي كُلِّ عَصْرٍ يَفْزَعُونَ إِلَى كَلِمِ مَنْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ؛ يَسْتَرْشِدُونَ بِهَا وَيَسْتَهْدُونَ.
مِنْ تِلْكُمُ الْمَوَاقِفِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ نَقِفَ مَعَهَا وِقْفَةَ تَأَمُّلٍ وَاعْتِبَارٍ، مَا حَدَّثَنَا بِهِ الْمُتَبَحِّرُ فِي أُمُورِ الْفِتَنِ، الْخَبِيرُ بِصُوَرِهَا وَأَبْوَابِهَا، حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "أَحْصُوا لِي كَمْ يَلْفِظُ الْإِسْلَامَ؟"، قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَخَافُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ مَا بَيْنَ السِّتِّ مِائَةٍ إِلَى السَّبْعِ مِائَةٍ؟! قَالَ: "إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ لَعَلَّكُمْ أَنْ تُبْتَلَوْا، قَالَ: فَابْتُلِينَا حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا لَا يُصَلِّي إِلَّا سِرًّا"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
نَعَمْ هُوَ حَدِيثٌ قَلِيلُ الْكَلِمَاتِ، مُخْتَصَرُ الْعِبَارَاتِ، لَا يَحْكِي كَثِيرًا مِنَ التَّفْصِيلَاتِ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ إِشَارَاتٍ تَرْبَوِيَّةً، وَدَلَالَاتٍ فِقْهِيَّةً وَإِيمَانِيَّةً.
أُولَى تِلْكَ الْمَعَانِي: هُوَ التَّهْيِئَةُ النَّفْسِيَّةُ؛ فَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَقَعْ فِي سَنَوَاتِ الْإِسْرَارِ بِالدَّعْوَةِ، وَلَا فِي زَمَنِ الِاسْتِضْعَافِ فِي مَكَّةَ، بَلْ قَالَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ أَنْ أَسَّسَ دَوْلَتَهُ، وَوَجَدَ أَرْضًا تَأْوِيهِ وَشَعْبًا يَحْمِيهِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ حُذَيْفَةَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ نَصَّ النَّوَوِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ وَقَعَ فِي الْمَدِينَةِ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي زَمَنِ الْقُوَّةِ، فَكَأَنَّمَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُهَيِّئُ نُفُوسَ أَصْحَابِهِ بِأَنَّ أَمْرَ الْبَلَاءِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغِيبَ عَنْ تَفْكِيرِ الْمُؤْمِنِ.
نَعَمْ يَطْلُبُ الْعَبْدُ الْعَافِيَةَ، وَيَسْعَى لَهَا، وَيَحْذَرُ مِنْ ضِدِّهَا، وَلَكِنْ لِيُحَدِّثَ نَفْسَهُ أَنَّ أَمْرَ الْعَافِيَةِ رُبَّمَا لَا يَدُومُ، وَأَنَّ الْبَلَاءَ سَوَاءٌ أَكَانَ فِي النَّفْسِ أَوِ الْمَالِ أَوِ الْأَهْلِ أَوِ الدِّينِ قَدْ يَأْتِي وَيَكُونُ، حَتَّى إِذَا حَانَتْ أَيَّامُ الْبَلَاءِ يَكُونُ الْعَبْدُ قَدْ تَوَقَّعَ هَذَا الِامْتِحَانَ مِمَّا يَجْعَلُ أَمْرَ الْمُصَابِ بِهِ أَهْوَنَ عَلَيْهِ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ حَيْثُ وَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَحَابَتَهُ مِنْ سَنَوَاتِ الِاسْتِضْعَافِ، وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الصَّحْبِ الْكِرَامِ، قَدْ مَسَّهُمْ أَلَمُ الِاسْتِضْعَافِ، وَذَاقُوا مِنْ عَلْقَمِهِ وَخَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَاسْتَخْفَوْا، وَهُمْ مَنْ هُمْ فِي التَّمَسُّكِ بِالتَّقْوَى وَالْإِيمَانِ فَمَا ظَنُّكُمْ بِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا وَلَنْ يَبْلُغَ مَنْزِلَتَهُمْ وَلَا عُشْرَهَا.
فَحُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الَّذِي مَاتَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، قَالَ هَذَا وَهُوَ لَمْ يُدْرِكْ مَا هُوَ أَسْوَأُ، لَمْ يَرَ زَمَنَ الْحَجَّاجِ، الَّذِي أَهَانَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ، وَأَخَافَ عَدَدًا مِنْ خِيَارِ السَّلَفِ، حَتَّى إِنَّ الْحَافِظَ عَبْدَ الْغَنِيِّ بْنَ سَعِيدٍ الْمِصْرِيَّ أَلَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ "الْمُتَوَارِينَ"، ذَكَرَ فِيهِ عَدَدًا كَبِيرًا مِمَّنْ كَانَ مُتَوَارِيًا يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ خَوْفًا مِنْ بَطْشِ الْحَجَّاجِ.
وَفِي الْخَبَرِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ فِي زَمَنِ الِابْتِلَاءِ وَالتَّخَوُّفِ مِنْ إِظْهَارِ السُّنَنِ يَجُوزُ أَنْ يُسِرَّ الْمَرْءُ دِينَهُ أَوْ بَعْضَ دِينِهِ، وَأَنَّهُ فِي حَالَةِ الضَّعْفِ وَالِاسْتِضْعَافِ لَا يُطَالَبُ النَّاسُ فِيهَا إِلَّا بِمَا يُطِيقُونَ.
وَإِذَا عَاشَ الْعَبْدُ فِي زَمَانٍ مَا، أَوْ مَكَانٍ مَا، وَاقِعًا لَا يَرْتَضِيهِ وَلَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهُ لِلْفَسَادِ الْجَارِفِ الْحَاصِلِ، فَلَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنْ يَكُفَّ يَدَهُ عَنِ الْعَمَلِ وَالْإِصْلَاحِ وَيَتَقَاعَدَ عَنْ تَبْلِيغِ النُّصْحِ وَالدَّعْوَةِ خَشْيَةَ الْبَلَاءِ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يُقِيمَ أَمْرَ دِينِهِ فِي نَفْسِهِ، وَيُصْلِحَ مَنْ يَصْلُحُ؛ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ، وَاللَّهُ -تَعَالَى- لَمْ يُكَلِّفْ خَلْقَهُ إِلَّا بِمَا يُطِيقُونَ (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ)[الشُّورَى: 48].
وَمِنْ دَلَائِلِ فِقْهِ الْحَدِيثِ: قَاعِدَةُ أَنَّ الْحَقَّ لَا يُعْرَفُ بِكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ؛ فَلَا يُغْتَرَّ بِالْكَثْرَةِ، وَخَاصَّةً فِي أَزْمِنَةِ الْفِتَنِ، وَتَبَدُّلِ الْمَفَاهِيمِ، فَلَا يَشُكَّ فِي حِلِّ الْمُحَرَّمَاتِ لِأَجْلِ كَثْرَةِ مَنْ وَقَعَ فِيهَا، وَلَا يَسْتَحِلَّ أَعْرَاضَ النَّاسِ لِكَثْرَةِ مَنْ يَتَفَكَّهُ بِهَا.
فَالْكَثْرَةُ لَمْ تَكُنْ أَبَدًا مِعْيَارًا لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَى هَذِهِ الْكَثْرَةِ، وَفِي زُبُرِ الْقُرْآنِ: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)[يُوسُفَ:103]، (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)[الْأَنْعَامِ: 116].
وَفِي الْقُرْآنِ أَيْضًا عَاتَبَ اللَّهُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ أُعْجِبُوا بِكَثْرَتِهِمْ، فَقَالَ لِبَعْضِهِمْ: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا)[التَّوْبَةِ:25].
وَفِي الْحَدِيثِ دَرْسٌ عَظِيمٌ بِالْمُبَادَرَةِ فِي صَالِحِ الْأَعْمَالِ، قَبْلَ غِيَابِ حَالِ الْعَافِيَةِ وَالرَّخَاءِ، لِمَاذَا؟ لِأَنَّ التَّرْبِيَةَ الْجَادَّةَ زَمَنَ الرَّخَاءِ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُثَبِّتُ الْمُؤْمِنَ وَقْتَ الشَّدَائِدِ وَالْبَلَاءِ.
يُرَبِّي الْعَبْدُ نَفْسَهُ، وَيُرَبِّي الْمُجْتَمَعُ شَبَابَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْبَيْتِ وَالْمَدْرَسَةِ وَالْإِعْلَامِ، عَلَى الْمَبَادِئِ الدِّينِيَّةِ، وَالْقِيَمِ الْحَمِيدَةِ وَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا، حَتَّى لَا تَعْصِفَ بِهِمْ عَوَاصِفُ الْفِتَنِ وَالْمُتَغَيِّرَاتِ.
وَالتَّارِيخُ يَنْطِقُ أَنَّ أُمَّةَ الْإِسْلَامِ يَسْهُلُ سُقُوطُهَا وَتَحْصُلُ تَبَعِيَّتُهَا بِقَدْرِ بُعْدِهَا عَنْ دِينِهَا وَانْغِمَاسِهَا فِي تَرَفِهَا وَشَهَوَاتِهَا.
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[الْعَنْكَبُوتِ:2-3].
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعْدُ فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: وَإِذَا كَانَتِ الدِّرَاسَاتُ الْمُعَاصِرَةُ تُؤَكِّدُ عَلَى قَضِيَّةِ التَّخْطِيطِ وَالْإِحْصَاءِ وَدَوْرِهَا فِي التَّنْمِيَةِ وَالرَّخَاءِ، فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يُعَدُّ أَصْلًا شَرْعِيًّا فِيهِ، مِمَّا يَجْعَلُ الْمُؤْمِنَ يَزْدَادُ يَقِينًا بِشُمُولِيَّةِ هَذَا الدِّينِ، وَأَنَّهُ جَاءَ لِبِنَاءِ الْمُسْتَقْبَلِ وَفْقَ الْمُعْطَيَاتِ الْمَوْجُودَةِ، وَلِذَا جَاءَ الْأَمْرُ بِالتَّكَسُّبِ وَالْعَمَلِ وَغَرْسِ الْأَشْجَارِ حَتَّى وَإِنْ لَمْ يَسْتَفِدْ مِنْهَا الْغَارِسُ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الإخباريين أَنَّ أَحَدَ الْخُلَفَاءِ مَرَّ عَلَى شَيْخٍ يَغْرِسُ شَجَرَةَ زَيْتُونٍ، فَتَعَجَّبَ الْخَلِيفَةُ وَقَالَ: كَيْفَ تَغْرِسُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ مَعَ عِلْمِكَ أَنَّهَا لَا تُثْمِرُ إِلَّا بَعْدَ سَنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ؟ وَمِنَ الْبَعِيدِ أَنْ تُدْرِكَ ذَلِكَ، فَقَالَ الشَّيْخُ: زَرَعَ آبَاؤُنَا فَأَكَلْنَا وَنَزْرَعُ لِيَأْكُلَ أَبْنَاؤُنَا.
صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ، كَمَا أَمَرَكُمْ ربُّكُم....