القريب
كلمة (قريب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فاعل) من القرب، وهو خلاف...
العربية
المؤلف | صالح بن فوزان الفوزان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أركان الإيمان |
لمَّا كان العبادُ في ضرورة إلى العبادةِ، ولا يمكنهم أن يعرِفُوا بأنفسهم حقيقتَها التي تُرضي الله -سبحانه- وتوافقُ دينَهُ، لم يَكِلْهُم إلى أنفسهم، بل أرسلَ إليهم الرسلَ، وأنزل الكتبَ لبيان حقيقة تلك العبادة. فمَنْ حادَ عمَّا بينتْهُ الرسلُ، ونزلت به الكتب، من عبادة الله، وعبَدَ الله بما يملي عليه ذوقه، وما تهواه نفسُه، وما زينته له شياطين الإِنس والجن، فلقد...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، أكملَ لنا الدينَ، وأتمَّ علينا النعمة، ورضيَ لنا الإِسلام ديناً، وأمرنا بالتمسك به إلى الممات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
وتلك وصية إبراهيم ويعقوب لبنيه: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [البقرة:132].
وأشهَدُ أَنْ لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة 133].
وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله الصادقُ المأمون، أنزلَ الله عليه: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99].
اللَّهم صَلِّ على عبدِك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسَلِّمْ تسليماً كثيراً.
أما بعدُ:
أيها الناس: اتقُوا الله -تعالى- وأطيعوه، تغنَمُوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة.
واعلمُوا: أنَّ الله خَلَق الجنَّ والإِنسَ لعبادته؛ كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56].
وفي ذلك شرفُهم وعزُّهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة؛ لأنهم بحاجة إلى ربهم، ولا غنى لهم عنه طرفةَ عينٍ، وهو غنيٌّ عنهم وعن عبادتهم؛ كما قال تعالى: (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ) [الزمر:7].
وقال تعالى: (وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) [إبراهيم:8].
والعبادةُ: هي التقرب إلى الله -تعالى- بما شرعه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة.
وهي حقٌّ الله على خلقه، وفائدتُها تعودُ إليهم، فمن أبَى أن يعبُدَ الله فهو مستكبرٌ، ومَنْ عَبَدَ الله وعبدَ معه غيره فهو مشركٌ، ومَنْ عَبَدَ الله وحده بغير ما شَرَعَ، فهو مبتدعٌ، ومَنْ عَبَدَ الله وحده بما شرع، فهو المؤمنُ الموحِّد.
ولمَّا كان العبادُ في ضرورة إلى العبادةِ، ولا يمكنهم أن يعرِفُوا بأنفسهم حقيقتَها التي تُرضي الله -سبحانه- وتوافقُ دينَهُ، لم يَكِلْهُم إلى أنفسهم، بل أرسلَ إليهم الرسلَ، وأنزل الكتبَ لبيان حقيقة تلك العبادة؛ كما قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) [النحل:36].
وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:25].
فمَنْ حادَ عمَّا بينتْهُ الرسلُ، ونزلت به الكتب، من عبادة الله، وعبَدَ الله بما يملي عليه ذوقه، وما تهواه نفسُه، وما زينته له شياطين الإِنس والجن، فلقد ضَلَّ عن سبيلِ الله، ولم تكن عبادتُه في الحقيقة عبادةً لله، بل هي عبادةً لهواه: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ) [القصص:50].
وهذا الجنسُ كثيرٌ في البشر، وفي طليعتهم النصارى، ومَنْ ضَلَّ من فرقِ هذه الأمة، فإنَّهم اختَطُّوا لأنفُسِهم خطةً في العبادة مخالفةً لما شرعه الله في كثيرٍ من شعاراتهم، وهذا يتضحُ ببيانِ حقيقة العبادة التي شَرَعَها الله على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليتبين أنَّ كُلَّ ما خالفها فهو باطلٌ، وإن زعم من أتى به أنه يقربه إلى الله، فهو يُبعده عن الله.
إنَّ العبادة التي شرعها الله -سبحانه وتعالى- تنبني على أصولٍ وأسس ثابتة، تتلَخَّصُ فيما يلي:
أولاً: أنها توقيفيةٌ، بمعنى أنه لا مجالَ للرأي فيها، بل لا بد أن يكونَ المشرعَ
لها هو الله -سبحانه وتعالى- ؛ كما قال تعالى لنبيِّه: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا) [هود:112].
وقال تعالى: (ثُمّ جَعَلنَاكَ عَلَى شَريعَةٍ مِنَ الأمرِ فاتّبِعها ولا تَتّبعِ أهَواءَ الذينَ لا يَعلمُون) [الجاثية:18].
وقال عن نبيِّه: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) [الأنعام:50].
ثانياً: لا بُدَّ أن تكون العبادة خالية من الشرك، كما قال تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف:110].
فإن خالطَ العبادة شيءٌ من الشرك أبطلَها، كما قال تعالى: (وَلَو أشرَكُوا لَحَبِط عَنهُم مَا كانُوا يَعَملُون) [الأنعام:88].
وقال تعالى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ) [الزمر:65 - 66].
ثالثاً: لا بُدَّ أن يكونَ القدوةَ في العبادة، والمُبَيِّنَ لها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب:20].
وقال تعالى: (ومَاءَ اتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُم عَنهُ فانَتّهُوا) [الحشر:7].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ" [رواه مسلم].
وفي رواية: "من أحدثَ في أمرِنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌ" [متفق عليه].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "صَلُّوا كما رأيتموني أصلي".
وقوله: "خذوا عني مناسِكَكمُ" [رواه مسلم].
إلى غير ذلك من النصوص الدالَّةِ على وجوب الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- دون سواه.
رابعاً: أَنَّ العبادةَ محدودةٌ بمواقيت ومقادير لا يجوزُ تَعدِّيها وتجاوزُها، كالصلاة مثلاً، قال تعالى: (إن الصّلاةَ كانَتَ على المُؤمِنِينَ كِتاباً مَوقُوتاً) [النساء:103].
وكالحج، قال تعالى: (الحَجُ أشهُرٌ مَعلومَاتٌ) [البقرة:197].
وكالصوم، قال تعالى: (شَهرُ رمَضَانَ الّذي أنزلَ فيهِ القُرءَانُ هُدًى للنّاسِ وبَيناتٍ مِنَ الهُدى والفُرقان فَمنَ شَهدَ مِنكُمُ الشَهرَ فليَصُمهُ) [البقرة:185].
فلا تصحُّ هذه العبادات أداءً في غير مواقيتها.
خامساً: لا بد أن تكون العبادةُ قائمةً على محبةِ الله -تعالى-، والذلِّ له، وخوفه
ورجائه، قال تعالى: (أولئِكَ الّذِينَ يَدعُونَ يَبتَغُونَ إلى رَبِهِمُ الوَسِيلَةَ أيّهُم أقرَبُ وَيَرجُونَ رَحمَتَهُ ويًخافُونَ عَذابَهُ) [الإسراء:57].
وقال تعالى عن أنبيائه: (إنّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ في الخَيَراتِ ويَدَعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وكانُوا لنا خَاشِعِينَ) [الأنبياء:90].
وقال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:31 - 32].
فذكر سبحانَه علاماتِ محبةِ الله وثمراتها.
أمَّا علاماتُها: فاتباعُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وطاعةُ الله، وطاعة الرسول.
أمَّا ثمراتُها: فنيلُ محبةِ الله –سبحانه-، ومغفرةِ الذنوب، والرحمةِ منه سبحانه.
سادساً: أنَّ العبادةَ لا تسقُطُ عن المكلف من بلوغه عاقلاً إلى وفاته، قال تعالى: (وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
وقال: (واعَبدَ ربَكَ حتَى يأتِيك الَيقِين) [الحجر:99].
عبادَ الله: والعبادةُ لها أنواع كثيرة، فهي: اسمٌ جامع لكلِّ ما يُحبُّه الله ويرضاه من الأعمال والأقوالِ الظاهرة والباطنة.
فالصلاةُ والزكاة والصيام والحج من أعظمِ أنواعِ العبادة، وهي أركانُ الإِسلام.
وكذلك الصفاتُ الحميدة، والأخلاق الفاضلة هي من أنواع العبادة، كصدق الحديثِ، وأداء الأمانة، وبِرِّ الوالدين، وصِلَةِ الأرحام، والوفاءِ بالعهد، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عَنِ المنكر، والجهادِ، والإحسان إلى الجار واليتيم، والمسكينِ والمماليك من الآدميين والبَهائمِ، والدعاءِ، والذِّكرِ والقراءةِ، وأعمالِ القلوب من حُبِّ الله ورسولهِ وخشيةِ الله، والإنابةِ إليهِ، وإخلاصِ الدين له، والصبرِ لحكمهِ، والشكر لِنِعَمِه، والرِّضا بقضائه، والتوكُّلِ عليه، والرجاء لرحمته، والخوفِ من عذابه، فالدينُ كلُّه داخلٌ في العبادة.
وأعظم أنواعِ العبادة: أداءُ ما فَرَضَه الله، وتجنُّب ما حرَّمه الله -تعالى-، قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّه -عز وجل- أنه قال: "وما تَقَرَّبَ إليَّ عبدي بمثلِ أداءِ ما افترضتُه عليه".
فأداء الفرائض أفضلُ الأعمال، كما قال أمير المؤمنين عمرُ بن الخطاب -رضي الله عنه-: "أفضلُ الأعمال أداءُ ما افترضَ الله، والورع عما حَرَّمَ الله وصدقُ الرغبة فيما عندَ الله".
وذلك أنَّ الله -تعالى- إنما افترضَ على عبده الفرائضَ، ليُقربَهم عنده، ويوجبَ لهم رضوانه ورحمته.
وأعظمُ فرائض البدن التي تقرب إليه: الصلاةُ، كما قال تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [العلق:19].
وقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أقربُ ما يكونُ العبد من ربِّه وهو ساجدٌ".
وقال: "إذا كانَ أحدُكم يُصَلِّي فإنَّما يُناجي ربَّه".
ولكنَّ هذه الصلاةَ خَفَّ ميزانُها اليومَ عند كثير من الناس، كما قال تعالى: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً) [مريم:59 - 60].
والعجبُ: أنَّ بعضَهم يأتي ببعض النوافل أو كثيرٍ منها، وهو مضيِّعٌ للصلاة فتراه يَحُجُّ ويعتمر وهو مضيعٌ للصلاة، ومنهم مَنْ يُكثرُ من الصدقات والتبرعات، وهو لا يُؤدِّي الزكاةَ المفروضة، ومنهم من يُحسنُ أخلاقه مع الناس، وهو عاقٌّ لوالديه، قاطعٌ لِرَحِمِه، سيِّئُ الخُلُقِ مع زوجه وأولاده.
ولا شَكَّ أنَّ العدل في الرعية من الفرائض الواجبة، سواءٌ كانت رعيةً عامة كالحاكم أو رعيةً خاصة كالرجلِ مع أهل بيته، قال صلى الله عليه وسلم: "كلُّكُم راعِ وكلكم مسؤول عن رعيته".
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ المقسطين عندَ الله على منابرَ من نُورٍ على يمينِ الرحمن، وكلتا يديه يمينٌ، الذينَ يَعْدِلُون في حُكمِهم وأهليهم وما وَلُوا".
وأعظمُ رعايةِ الأهل والأولاد؛ أمرُهم بالمعروفِ ونهيُهم عن المنكر، وإلزامُهُم بأداء الصلاة، ومنعُهم من سماع الأغاني والمعازفِ والمزامير ومُشاهدةِ الأفلام الخليعة والمسلسلاتِ التي تحمِلُ أفكاراً مسمومة، أو تُشْغِلُ عَنْ طاعةِ الله وذكرِهِ.
وبعضُ الآباء الذين هُم أشباهُ رجال وليسوا برجالٍ، يجلبون هذه الآفاتِ إلى بيوتهم، ويتركونها تفتِكُ في أخلاق أولادِهم ونسائهم.
إنَّ عبادَ الله حقّاً هم الذين يعمُرون بيوتَهم بطاعة الله، ويُرَبُّون أولادَهم ونساءهم على عبادةِ الله، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) [الفرقان:64 - 66].
إنَّ عبادَ الله هم الذين يدعون الله أن يُصْلِحَ أزواجَهم وذريتهم: (والذّينَ يَقُولُون رَبّنا هِبَ لنا مِن أزوَاجِنَا وذُرِيَاتنَا قُرّة أعيّن واجَعَلنَا للمُتَقِين إمَامَا) [الفرقان:74].
عبادَ الله: إنَّ العبادةَ لا تنحصر في حدٍّ ضيِّق، ولكنها تشمَلُ كلَّ ما شرعه الله من الأقوال والأعمال والنيات، فهي تشمل أقوالَ اللسان، وحركاتِ الجوارح، ومقاصدَ القلوب، بل تشمَلُ كلَّ حياةِ المسلم، حتى أَكْلَه وشُرْبه ونومَه، إذا نَوَى بذلك التَّقَوى على طاعةِ الله، بل حتى معاشرتَه لزوجتِه إذا نوى بها التعفُّفَ عنِ الحرامِ؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ بكُلِّ تسبيحةٍ صدقةً، وكلِّ تكبيرة صدقةً، وكلِّ تحميدة صدقةً، وكلِّ تهليلة صدقةً، وأمرٍ بمعروف صدقةً ونهي عن منكر صدقةً، وفي بُضْعِ أحدكم صدقةً" قالوا: يا رسولَ الله، أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكونُ له فيها أجرٌ؟ قال: "أرأيتُم لو وَضَعَها في حرامٍ أكانَ عليه وِزْرٌ؟ فكذلك إذَا وَضَعَهَا في الحلالِ كان له أجرٌ" [رواه مسلم].
وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كلُّ يوم تطلُعُ فيه الشمسُ تعدِلُ بينَ اثنين صدقةٌ، وتُعينُ الرجلَ في دابتهِ صدقةٌ فتحملُه عليها أو ترفَعُ له عليها متاعَه صدقةٌ، والكلمةُ الطيبة صدقةٌ، وبكل خطوةٍ تَمشيها إلى الصلاة صدقةٌ، وتُميط الأذى عن الطريقِ صدقةٌ" [رواه البخاري ومسلم].
فاتَّقُوا الله -عبادَ الله- واعبدُوه كما أمرَكُم.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (يا أيها النَاسُ اعبُدُا ربّكُمُ الذي خَلقَكُم والذّينَ مِن قَبلِكُم لعلَكُم تَتّقٌونَ * الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرضَ فِراشاً والسَمَاءَ بِنَاءً وأنَزَلَ مِنَ السَمَاءِ مَاءً فأخَرجَ بِهِ مِنَ الثمَراتِ رِزقاً لَلُم فَلا تَجعَلُوا لِلهِ أندَاداً وأنتُم تَعلَمُونَ) [البقرة:21 - 22].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، خلق الخلق ليعبدوه وأنعَمَ عليهم ليشكروه.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهَدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله أكملُ الخلق عبادةً لله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابهِ وكُلِّ مَنْ سار على نهجه وتمسَّك بهُداه، وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيّها الناس: اتَّقُوا الله -تعالى-، واحذَرُوا مما يُبطلُ العبادة، أو يُذهِبُ بثوابها، فمن ذلك: الشركُ بالله -عز وجل-، ومنه: الرياءُ والسُّمعةُ، قال تعالى: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 88].
ومن ذلك: البِدَعُ والمُحْدثاتُ، قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردُّ".
ومِنْ ذلك: ظُلْمُ الناس، والتعدي عليهم في دمائِهم وأموالِهم وأعراضِهم، فقد جاء في الحديثِ: "أنَّ من الناسِ مَنْ يأتي يومَ القيامة بأعمالٍ أمثالِ الجبال، فيأتي وقد ضَرَبَ هذا وشَتَمَ هذا وأَكَلَ مال هذا، فيُؤخذ لهذا من حسناتِه، ولهذا من حسناته، فإذا فَنِيَتْ حسناتُهُ أَخَذَ من سيئات المظلومين، فطُرحت عليه وطُرِحَ في النار".
ومن ذلك: بعض الكلمات الخبيثة التي ينطِقُ بها الإِنسانُ من غير تفكير في عواقبها، كما جاء في الحديث: "إنَّ الرجل ليتكلَّمُ بالكلمةِ مِنْ سَخَطِ الله لا يُلقي لها بالاً يَهْوِي بها في النارِ أبعدَ ممَّا بينَ المَشْرقِ والمغرب".
وفي الحديث أيضاً: "أنَّ رجلاً قال: والله لا يَغْفِرُ الله لفلانٍ، فقال الله -تعالى-: مَنْ ذا الذي يتألَّى عليَّ أنْ لا أغفرَ لفلان، إنِّي قد غفرتُ له وأحبَطتُ عملَك".
ومن ذلك الحسد: ففي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "إيَّاكُم والحسدَ، فإنَّ الحسدَ يأكُلُ الحسناتِ كما تأكلُ النارُ الحطبَ، أو قال: العشبَ" [رواه أبو داود وغيره].
فاتَّقُوا الله -عبادَ الله- وحافِظُوا على أعمالِكم من المبطلات والآفات.
واعلمُوا أنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هَدْيُ محمد -صلى الله عليه وسلم- ... إلخ.