البحث

عبارات مقترحة:

المتين

كلمة (المتين) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل على وزن (فعيل) وهو...

الله

أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...

الواسع

كلمة (الواسع) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَسِعَ يَسَع) والمصدر...

وقفات وتأملات في آيات الحج

العربية

المؤلف فيصل بن جميل غزاوي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الحج
عناصر الخطبة
  1. الحج مدرسة إيمانية عظيمة .
  2. وقفات وتأملات في بعض الآيات .
  3. العلاقة الوثيقة بين الحج وذكر الله تعالى وتقواه .
  4. حياة المسلم بين التلبية الخاصة والتلبية العامة .

اقتباس

إن إقامة ذِكْر الله شعار الحج، ومقصده الأعظم، وفي لزوم ذِكْر الله يتلذَّذ الحاجُّ بطعم المناجاة، ويأنَس بذِكْر ربِّه وخالِقِه -عز وجل-؛ ليخرج من مدرسة الحج وقد تعلَّقت نفسُه بذِكْر ربِّه، ورطَّب لسانَه به، حتى يكون حاضرًا في ذهنه وعلى لسانه...

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئات أعمالِنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يضلل فلا هاديَ له، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].

أما بعد: فيا أيها المسلمون: إنَّ الحج إلى بيت الله الحرام من شعائر الإسلام، وشرائعه العظام، هو -في حقيقته- مدرسةٌ عظيمةٌ، تُتلقَّى فيها الدروسُ والعِبَرُ النافعةُ، التي يفيد منها المسلمون، ومن علومها ومعارفها يستقون، ومن مَعِين آدابها وقِيَمِها ينهلون، وفي حديث القرآن عن الحج هداياتٌ عظيمةٌ، ما أجملَ أن نتدبَّرها ونعي مقاصدها.

فقوله -تعالى-: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)[الْحَجِّ: 26]، فيه تقريعٌ وتوبيخٌ لأولئك المشركين، الذين عبَدُوا غيرَ الله، واتخذوا آلهةً من دونه، في البقعة التي أُسِّست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحدَه لا شريكَ له، كما فيه طلبُ تطهيرِ البيتِ للطائعينَ الناسكينَ، تطهيرًا حسيًّا ومعنويًّا، من الشرك والمعاصي، ومن الأنجاس والأدناس، وأمَّا إضافتُه -سبحانه- البيتَ إلى نفسه فلشَرَفِه وفضلِه، ولتعظمِ محبتِه في القلوب، وتهفو إليه الأفئدةُ من كل جانب، وأن يكون أعظمَ لتطهيره وتعظيمه.

وقوله -تعالى-: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)[الْبَقَرَةِ: 197]، جاءت السُّنَّة المطهَّرة ببيان هذه الأشهر، وأما أركان الحج؛ من الوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة والسعي فقد ذُكِرَتْ في آيات متفرقة على سبيل الإجمال، وأما كيفيتُها وترتيبُها وتفاصيلُها فقد بيَّنَها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قولًا وفعلًا، وأكَّد على أن يُتعلَّم منه ويُحفَظ عنه ما أتى به في حجته بقوله: "خُذُوا عنِّي مناسِكَكُم"، وفي هذا أبلغُ ردٍّ على المبغِضينَ للسُّنَّة النبوية، المنكِرينَ لحجيتها، والداعينَ لنبذ أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، والاكتفاء بما ورَد في القرآن، وهؤلاء الضالُّون، قد يُسَمَّوْنَ بالقرآنيينَ، وهم -في الحقيقة- أعداءُ الملةِ والدِّينِ.

وقوله -تعالى-: (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)[الْحَجِّ: 30]، فيه أن مَنْ يجتنب معاصيَ الله ومحارِمَه ويكون ارتكابُها عظيمًا في نفسه، فله على ذلك خيرٌ كثيرٌ وثوابٌ جزيلٌ، فكما تُرَتَّب الأجورُ والحسناتُ على فعل القربات، تُرتَّب أيضًا على التقرُّب بترك المنهيَّات واجتناب المحظورات.

وقوله -تعالى- عن الذبائح التي يُتقرَّب بها: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى)[الْحَجِّ: 37]، فيه أن الذي يَصِلُ إليه -سبحانه- ويُثِيب عليه العبادَ -وهو الغنيُّ عن خَلْقِه- هو تقواهم ومراقبتُهم له وخوفُهم منه، واستقامتُهم على أمره وإخلاصُهم العبادةَ له، وفيه حثٌّ وترغيبٌ على الإخلاص في النحر، وأن يكون القصدُ وجهَ اللهِ وحدَه، لا فخرًا ولا رياءً ولا سمعةً، ولا مجرَّدَ عادةٍ، وهكذا سائر العبادات، إن لم يقترن بها الإخلاصُ وتقوى الله كانت كالقشور التي لا لُبَّ فيها، والجسد الذي لا روح فيه.

وقوله -عز وجل-: (كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ)[الْحَجِّ: 37]، فيه امتنانٌ من الله -سبحانه وتعالى- علينا بتذليل هذه البُدْن، وتمكيننا من تصريفها وهي أعظمُ منا أبدانًا، وأقوى منا أعضاءً؛ ذلك لنعلم أن الأمور ليست على ما تظهر للعبد من التدبير، وإنما هي بحسب ما يريدها العزيزُ القديرُ، فيغلِب الصغيرُ الكبيرَ؛ ليعلم الخَلْقُ أن الغالب هو الله الواحد القهار فوق عباده.

وقوله -سبحانه-: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)[الْبَقَرَةِ: 196]، فيه أن أعظمَ معاني إتمام الحج والعمرة إخلاصهما لله -تعالى-؛ بدلالة قوله: (لِلَّهِ)[الْبَقَرَةِ: 196] الدالّ على الاختصاص، فيحرُم أن يُخرِج لهما رياءً وسمعةً، بل يجعلهما خالصينِ لله -تعالى-، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم حجةً، لا رياءَ فيها ولا سمعةَ".

وقوله -جل في علاه-: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)[الْبَقَرَةِ: 196]، فيه إشارةٌ إلى حرص الشريعة الإسلامية على التيسير على الحاجِّ والمعتَمِرِ؛ بدلالة التعبير بلفظ: "استيسر"، الدالِّ على طلبِ اليُسْرِ وتأكيدِه، بل إنَّ هذا اليسر هو الوصف الملازِم لأحكام الشريعة عامةً، كما قال سبحانه: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الْحَجِّ: 78].

وقوله -تبارك وتعالى-: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)[الْبَقَرَةِ: 196]، فيه أن الكفَّارات تحمي صاحبَها من الإثم والعقوبة؛ إذ سُميت الفديةُ بهذا الاسم المأخوذ من الفداء، كما قال تعالى: (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ)[الْمَعَارِجِ: 11]، كذلك فيه أن محظورات الإحرام لها شأنُها وعظمتُها عند الله؛ بدلالةِ تسميةِ العِوَضِ عنها بالفدية، والفديةُ لا تكون إلا على الشيء النفيس الجليل.

وقوله -سبحانه-: (أَوْ نُسُكٍ)[الْبَقَرَةِ: 196]، فيه بيانُ أن الذبح من أظهَرِ معالمِ العبوديةِ لله؛ بدلالةِ تسميتِه بالنُّسُكِ، وهو العبادة والتقرُّب إلى الله، كما جاء في قوله -سبحانه-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الْأَنْعَامِ: 162].

وقوله -جل في علاه-: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)[الْبَقَرَةِ: 196]، فيه فائدة نفيسة؛ حيث قال سبحانه: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ)[الْبَقَرَةِ: 196]، ثم عقَّب بقوله: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)[الْبَقَرَةِ: 196]؛ ليكون في هذا البيان دفعُ توهُّم التخيير بين الثلاثة والسبعة، وفي هذا عبرة لأهل العلم والفتوى، أن يبيِّنوا للناس أحكامَ دينهم غايةَ البيان وأكملَه، وأن يزيلوا من أذهانهم كلَّ ما يمكن أن يتوهَّموه من الأوهام والاعتقادات الخاطئة.

وقوله جل ذكره: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[الْبَقَرَةِ: 196]، فيه أن العلم هو الباعث الأقوى على الخوف والخشية من عذاب الله؛ بدلالة قوله: (وَاعْلَمُوا)[الْبَقَرَةِ: 196]، فمَن ازداد علمُه زاد خوفُه وخشيتُه لله -تعالى-، كما قال سبحانه: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[فَاطِرٍ: 28]، وكما قال عليه الصلاة والسلام: "أنا أعلَمُكم باللهِ، وأشدُّكم له خشيةً".

عبادَ اللهِ: والجدال المنهيّ عنه في قوله -تعالى-: (وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)[الْبَقَرَةِ: 197]، هو ما يجري بين الناس من منازَعات ومخاصَمات، ويجرُّ إلى المغاضَبة والمشاتَمة، وينافي حرمةَ الحج، أمَّا الجدال لإظهار الحق وتعليم الجاهل فلا حرجَ فيه، بل هو من عمل الخير، كما قال تعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[النَّحْلِ: 125]، ويدخل فيه مدارَسة العلم، والمجادَلة في إنكار المنكَر وإقامة حدود الله، فليس ذلك من الجدال المنهيّ عنه.

وقوله -تعالى-: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)[الْبَقَرَةِ: 197]، فيه وجوبُ تعظيمِ الحاجِّ حجَّه، فيصونه عن كل ما يُفسده أو يُخِلُّ به، حتى يحظى بموعود رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ حجَّ هذا البيتَ فلم يرفث ولم يفسق رجَع كما ولَدَتْه أُمُّه"(رواه البخاري ومسلم).

وقوله -تعالى-: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ)[الْبَقَرَةِ: 197]، فيه أنه لا يكتمل التقربُ إلى الله -تعالى- بترك المعاصي إلا بفعل الخير والطاعات؛ بدلالة أن الله عقَّب بالحثِّ على الخير والطاعات بعد النهي عن الآثام والمعاصي.

وقوله -تعالى-: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[الْبَقَرَةِ: 197]، فيه ردٌّ على مَنْ زعَم بأن اتخاذ الزاد ينافي كمالَ التوكُّل على الله -تعالى-، فكما أمَر اللهُ -تعالى- بالتوكل عليه، فكذلك أمَر بفعل الأسباب، واتخاذُ الزادِ هو مِنْ فعلِ الأسبابِ المشروعةِ، وفي الآية أيضا أن التقوى من أهم ما يحتاجه المسلمُ للتزوُّد لآخرته؛ بدلالةِ تشبيهِ التقوى بالزاد الذي لا غنى للإنسان عنه، وفي ذلك تشبيهٌ بليغٌ، يشحَذ الهممَ ويقوِّي العزائمَ.

وقوله -تعالى-: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ)[الْبَقَرَةِ: 198]، فيه الحثُّ على طلب الرزق، والسعي في تحصيله؛ بدلالةِ لفظِ "الابتغاء"، الدالِّ على الطلب وبذل الجهد، كما قال تعالى: (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 17]، كما أن فيه مغزى دقيقًا؛ وهو تعليق القلوب بخالقها حتى فيما هو من شأن الدنيا؛ كطلب التجارة والاحتساب؛ بدلالة قوله: (فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ)[الْبَقَرَةِ: 198]، فالفضل كله بيده -سبحانه-، وفي التعبير بالربوبية إشعارٌ بكمال افتقار العباد إلى خالقهم، وكمال غنى خالقهم عنهم.

وقوله -تعالى-: (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)[الْبَقَرَةِ: 198]، فيه أن أعظم الضلال هو الضلال عن الهداية في الدِّين؛ بدلالة التوكيد؛ إذ المعنى: وما كنتُم مِنْ قبلِ هداية الله إياكم لِمَا هداكم له إلَّا من الضالينَ.

وقوله -جل شأنه-: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)[الْبَقَرَةِ: 199]، فيه أن مِنْ مقاصدِ الحجِّ العظيمةِ تحقيقَ المساواة بين الناس، وغَرْس التواضع في نفوسهم؛ بدلالة أن الله أمَرَهم أن يقفوا في مكان واحد جميعًا، ويفيضوا منه جميعًا، ولا يتميَّز بعضُهم على بعض بالوقوف والإفاضة، كما كانت تصنع قريشٌ ومَنْ دان دِينَها، يقفون بالمزدلفة، وكانوا يُسَمَّوْنَ الحُمْسَ، وكان سائر العرب يقفون بعرفة، فأمَر اللهُ -عز وجل- نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- أن يأتي عرفاتٍ، فيقف بها، ثم يفيض منها.

أقول هذا القول، وأستغفر الله الجليل لي ولكم، فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، جعَل حجَّ بيته الحرام سببًا في ثبات العبد على الدوام، وصلاح حاله في سائر الأيام، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الْمَلِك العلَّام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، خيرُ مَنْ صلَّى وحجَّ وصام، وداوَم على طاعة ربه واستقام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه البررة الكرام.

أما بعد: فقوله -تعالى في معرض آيات الحج-: (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الْبَقَرَةِ: 199]، فيه مشروعيةُ الاستغفارِ في ختام العبادات؛ لسدِّ ما حصَل فيها من خلل، ودَفْع ما قد يقع في النفس من العُجْب بها؛ بدلالةِ أمرِ اللهِ باستغفاره في ختام الوقوف بعرفات، وحينَ الإفاضةِ منها، وكذلك بقية العبادات، كالصلوات وغيرها، وقوله -تعالى-: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)[الْبَقَرَةِ: 200]، فيه الحثُّ على مداوَمة الذِّكْر لله -تعالى-، وعدم الانقطاع عنه، فالنفسُ البشريةُ قد تميل إلى الفتور بعدَ أداء العبادات؛ ولذا جاء الأمرُ بالمداوَمة على ذِكْرِ اللهِ بعدَ قضاءِ مناسكِ الحجِّ؛ فالمؤمن يذكر اللهَ على الدوام.

عبادَ اللهِ: إن إقامة ذِكْر الله شعار الحج، ومقصده الأعظم، وفي لزوم ذِكْر الله يتلذَّذ الحاجُّ بطعم المناجاة، ويأنَس بذِكْر ربِّه وخالِقِه -عز وجل-؛ ليخرج من مدرسة الحج وقد تعلَّقت نفسُه بذِكْر ربِّه، ورطَّب لسانَه به، حتى يكون حاضرًا في ذهنه وعلى لسانه، كحضور ذِكْره لأبيه ومَنْ يحب، بل أشد، فتنتفي الغفلةُ والانقطاعُ عن ذكره، ويصبح من الذاكرين الله كثيرًا مدةَ حياته.

وقوله -تعالى-: (لِمَنِ اتَّقَى)[الْبَقَرَةِ: 203]، فيه أن الحكمة من مشروعية الحج هي تحصيل التقوى لله -تعالى-، فمن اتقى اللهَ في حجِّه فالتَزَم أوامرَه فيه، واجتنَب نواهِيَه غفَر اللهُ له، وحطَّ عنه ذنوبَه، فالمعتمَد عليه هو ما تحقَّق في قلب الحاج من التقوى لله -تعالى-، وهذه التقوى التي يتربَّى عليها الحاجُّ في حجه هي التي ينبغي أن يسير عليها في حياته، ويعمل بمقتضاها، مع أوامر الله ونواهيه، وكما أن الحج لا رفثَ فيه ولا فسوقَ ولا جدالَ، فإنه تربية وتهذيب للسلوك؛ ليصبح ذلك خُلُقَ العبدِ في كل حال، فلنحذر -عبادَ اللهِ- كلَّ الحذر العودةَ للأفعال القبيحة، والخِلال المشينة، بعد أن امتثَلْنا أمرَه وأقبَلْنا عليه، وتقرَّبْنا إليه بالقربات، بل علينا أن نَلزَم الأعمالَ الطيبةَ، والخلالَ الكريمةَ، ونبقى على الجادَّة، ونستقيم على شرع ربنا، فما أحسَن الحسنةَ تتبعها الحسنةُ، وما أقبَحَ الحسنةَ تتبعها السيئةُ.

وإن مَنْ لبَّى في الحج للرحمن وأرى اللهَ من نفسه خيرًا في موسم القربات والغفران فعليه أن يلبِّي له بالطاعة في كل مكان وزمان، فإن معنى التلبية إجابةً لكَ بعدَ إجابةٍ، وطاعةً لكَ بعدَ طاعةٍ، ومَن امتنَع عن محظورات الإحرام أثناء حج بيت الله الحرام فليعلم بأن هناك محظورات على الدوام، وطول الدهر والعام، فليحذر إتيانَها وقربانَها، يقول جلَّ وعلا: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا)[الْبَقَرَةِ: 187]، وكما يحرص المرء على اتخاذ وسائل الوقاية من الأمراض والوباء والالتزام بالإجراءات الوقائية، من الإصابة بالداء، فعليه أن يعظِّم اللهَ حقَّ التعظيم، فيحافظ على فرائض الله، ويلتزم حدودَ الله، ويجتنبَ حرماتِ الله، وأن يكون اهتمامُه بذلك أشدَّ من اهتمامه بما يُصلِح شئونَه الدنيويةَ؛ إذ لا يعظِّم شعائرَ الله وشرائعَه إلا مَنْ عظَّم اللهَ واتَّقاه، وعَرَفَه -جلَّ في علاه-، وقدَّرَه حقَّ قدرِه.

فالواجب علينا جميعًا امتثالُ أوامر الله، وعدم إضاعة ما نهى عن تضييعه، والحذر من الاستهانة بشيء من حدود الله وحرماته، كما علينا أن نتمسَّك بدين الله، ونسأل ربَّنا الثباتَ من قلب صادق، ونلجأ إليه متضرعينَ ألَّا يُزِيغ قلوبَنا ولا يفتننا.

عبادَ اللهِ: صلُّوا وسلِّموا على مَنْ أكمَل اللهُ به الدينَ ورضيه، وأتمَّ به على المسلمين نعمتَه، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

اللهم صلِّ على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين ومَن تبعَهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم آمِنَّا في الأوطان والدُّور، وأصلِح الأئمةَ وولاةَ الأمورِ، واجعل ولايتَنا فيمن خافَكَ واتقاكَ واتَّبَعَ رضاكَ يا ربَّ العالمينَ.

اللهم وفِّق وليَّ أمرِنا لِمَا تُحِبُّه وترضاه، من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيوم، وخذ بناصيته للبِرِّ والتقوى، اللهم انصُر الإسلامَ والمسلمينَ، وأعِزَّ هذا الدينَ، وأذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، اللهم كُنْ لإخواننا المستضعفينَ، والمجاهدينَ في سبيلك، والمرابطينَ على الثغور وحماة الحدود، اللهم كن لهم معينًا ونصيرًا، ومؤيدًا وظهيرًا، اللهم تقبَّل مِنْ حُجَّاج بيتِكَ الحرامِ حجَّهم، واجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيهم مشكورًا، وذنبهم مغفورًا، اللهم تقبَّل من المسلمين توبتَهم، واغسل حوبتَهم، واغفر زَلَّاتِهم، وكفِّر عنهم سيئاتِهم، واجعلهم بدين الإسلام متمسكينَ، وبحبل الله معتصمينَ، اللهم اشفِ مرضاهم، وعافِ مبتلاهم، واصرف عنهم هذا الوباءَ، واكشف عنهم هذا الوباء، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصَّافَّاتِ: 180-182].