البر
البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | عبدالباري بن عواض الثبيتي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه |
والصمدُ هو الكامل في صفاته، الذي افتقَرَتْ إليه جميعُ مخلوقاته، المستغني عن كل أحد، الذي لا يموت، ولا يورَث، وله ميراث السماوات والأرض، الذي لا ينام ولا يسهو، السيد الذي اكتمل سؤدَدُه، العظيم في عِلْمه وحكمته وحِلْمه وقدرته وعزَّتِه وجميع صفاته...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الواحد الأحد، أحمده -سبحانه- حمدًا لا حدَّ له ولا عددَ، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، العظيم الصمد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أيده ربه ونصره مع قلة العدة والعدد، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه، الذين كانوا له خير سنَد.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
سورة عظيمة، وكل سور القرآن عظيمة، قصيرة المباني، بليغة المعاني، حوَت الشمائلَ، وانفردت بعظيم الفضائل، وهي تعدِل ثلثَ القرآن، قال الله -تعالى-: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)[الْإِخْلَاصِ: 1-4].
(قُلْ هُوَ اللَّهُ)[الْإِخْلَاصِ: 1]، اللَّهُ: هذا الاسم أبرُّ أسمائه -سبحانه- وأجمعها، الله: أعظم اسم وأجلُّ مسمًّى، ملأ جلالُه السماوات، وما فيهنَّ، وأحاطت عظمتُه الأرض وما عليها وما تحتها ومَنْ فيها، والعلم بالله أصلُ كلِّ علمٍ، بل أجلُّ معلوم وأكبره، قال الله -تعالى-: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ)[الْأَنْعَامِ: 3]، ولا حياة للقلوب ولا فرح ولا سرور ولا نعيم ولا أُنْس إلا في معرفة الله، قال مالك بن دينار: "مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيبَ ما فيها. قيل له: وما أطيبُ ما فيها؟ قال: معرفةُ اللهِ ومحبتُه"، المعرفة التي تحقِّق رقيًّا في منازل التعبُّد والتذلُّل والمحبة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، مَنْ أحصاها دخَل الجنةَ"، فمن عرَف اللهَ بأسمائه وصفاته أحبَّه، وإذا أحبَّه أَنِسَ بذِكْره واشتاق إليه وإلى لقائه، وعلى قَدْر معرفة الرب، يكون تعظيم الله وإجلال الله.
ومراتب الناس في العبودية بقدر ما ينقدح في نفوسهم من معرفة الله، كما تتفاوت أحوال الناس في الصلاة، بقدر استحضارهم معاني معرفة الرب، معرفة الله تجعل العبد يستحضر معيةَ الله في كل أحواله، فيطمئن قلبُه، وتسكن نفسُه، ويتوكَّل عليه صدقًا، ويثق به حقًّا، (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرَّعْدِ: 28]، مَنْ عرَف اللهَ حقًّا سجَد فالتذَّ في سجوده، وصلَّى فخشَع في قيامه وقعوده، وحلَّق في الملكوت متأمِّلًا متفكِّرًا ولسانُه يردد: سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر، لا إله إلا الله.
اسم الله إذا ذُكِرَ على قليل كثَّره، وإذا ذُكِرَ عند خوف أزاله، وعند كرب نفَّسَه، وعند هم وغم فرَّجَه، وعند ضيق وسَّعَه، من عرَف اللهَ يستحي من ربه أن يجده حيث نهاه، وأن يفقده حيث أمَرَه؛ لأنه يتذكَّر جلالَ الله، وهو القائل: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)[الشُّعَرَاءِ: 217-219]، وإذا ضَعُفَ استحضارُ معاني معرفة الرب، جفَّت ينابيع الإيمان، وخبَت جذوة لذة الطاعة، وقسا القلب، واستشرى القلق، وتمكَّن الخوف من المستقبل وعلى الرزق.
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)[الْإِخْلَاصِ: 1]، هو الأحد، الذي لا مثيل له ولا شبيه ولا مثيل في قدرته، فهو أحد في صفاته، في ذاته، هو الخالق الرازق المحيي المميت المالك المتصرِّف في خلقه كيف يشاء.
(اللَّهُ الصَّمَدُ)[الْإِخْلَاصِ: 2]، والصمد هو الكامل في صفاته، الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته، المستغني عن كل أحد، الذي لا يموت، ولا يورث، وله ميراث السماوات والأرض، الذي لا ينام ولا يسهو، السيد الذي اكتمل سؤدَدُه، العظيم في عِلْمه وحكمته وحِلْمه وقدرته وعزَّتِه وجميع صفاته -سبحانه-، الصمد: الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجهم، فيكفيهم، اسم الله الصمد يجعل العبد يستشعر القوة والعزة والغنى، عن كل ما سوى الله، فيوقن ما معنى أن الله -سبحانه وتعالى- كافٍ عبدَه؛ فإن الصمد يسمع نجواه، ويرى مكانَه، ولو اجتمع الكون على أن يضرَّه بشيء لن يضره إلا بشيء قد كتبَه اللهُ له.
(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ)[الْإِخْلَاصِ: 3]، هو الحي الذي لا يموت، الباقي بعد فَناء خَلْقه، وهو -سبحانه- الغني عن الولد، يقول صلى الله عليه وسلم: "لا أحدَ أصبرَ على أذًى سَمِعَهُ من الله؛ إنهم يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم".
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)[الْإِخْلَاصِ: 4]، وأنَّى يكون له كفو وقد خلَق كلَّ شيء، وأوجَد كلَّ شيء، وهو الكبير المتعال، الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء.
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- يقول: "كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ، فَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ لَهُمْ فِي الصَّلاةِ يَقْرَأُ بِهَا، افْتَتَحَ بِقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ يَقْرَأُ بِسُورَةٍ أُخْرَى مَعَهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ لَا تَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ حَتَّى تَقْرَأَ بِسُورَةٍ أُخْرَى، فَإِمَّا أَنْ تَقْرَأَ بِهَا، وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى، قَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِهَا، إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ، وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أَخْبَرُوهُ الخَبَرَ، فَقَالَ: يَا فُلانُ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَلَ يَأْمُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ، وَمَا يَحْمِلُكَ أَنْ تَقْرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: إِنَّ حُبَّهَا أَدْخَلَكَ الجَنَّةَ".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مبارَكًا فيه، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا يقول: "اللهم إني أسألكَ بأنكَ أنتَ الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دُعِيَ به أجاب"، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قل هو الله أحد، والمعوِّذتينِ، حين تصبح وحين تمسي ثلاث مرات، تكفيكَ من كل شيء".
عبادَ اللهِ: يوم غد السبت يوافِق يومَ عاشوراء، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتحرَّى صيام يوم عاشوراء، وقال فيه: "إني أحتسب على الله أن يكفر السنةَ التي قبلَه".
ألا وصلُّوا -عباد الله- على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على آل إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدينَ، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الآل والصحب الكرام أجمعينَ، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، ودمِّر اللهم أعداءَكَ أعداءَ الدينِ، واجعل اللهم هذا البلدَ آمنًا مطمئنًا وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهم إنَّا نسألكَ الجنةَ وما قرَّب إليها من قول وعمل، ونعوذ بكَ من النار وما قرَّب إليها من قول وعمل، اللهم إنَّا نسألكَ من الخير كلِّه عاجِلِه وآجِلِه ما عَلِمْنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بكَ من الشر كله عاجِلِه وآجِلِه ما عَلِمْنا منه وما لم نعلم، اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر يا ربَّ العالمينَ.
اللهم إنا نسألك فواتح الخير وجوامعه وأوَّلَه وآخرَه، ونسألكَ الدرجات العلا من الجنة يا ربَّ العالمينَ، اللهم أعنَّا ولا تُعِنْ علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا واهدنا ويسِّر الهدى لنا، وانصرنا على مَنْ بغى علينا، اللهم اجعلنا لكَ ذاكرينَ لكَ شاكرينَ لكَ مخبتينَ، لك أوَّاهين منيبين، اللهم تقبَّل توبتَنا، واغسل حوبتَنا وثبِّت حجَّتنا، وثبِّت ألسنتنا، واسلل سخيمة قلوبنا، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم اغفر لنا ما أسررنا وما أعلنا، وما أنتَ أعلمُ به منا، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنتَ، اللهم ارحم موتانا واشفِ مرضانا، وتولَّ أمرَنا يا ربَّ العالمينَ.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل نعمتك وفجاءة نقمتِكَ، ومن جميع سخطك، اللهم إنَّا نعوذ بك من العجز والكسل والجُبْن والبخل والهَرَم، وغلبة الدَّيْن وقهر الرجال، اللهم إنا نعوذ بك من البرص والجنون والجذام ومن سيئ الأسقام، يا حي يا قيوم، برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
اللهم وفِّق إمامنا لم تحب وترضى، اللهم وفِّقْه لهداكَ واجعل عملَه في رضاكَ يا ربَّ العالمينَ، ووفِّق وليَّ عهده لكل خير يا أرحم الراحمين، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك يا ربَّ العالمينَ.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].