البحث

عبارات مقترحة:

الشهيد

كلمة (شهيد) في اللغة صفة على وزن فعيل، وهى بمعنى (فاعل) أي: شاهد،...

الحافظ

الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...

مقاصد سور القرآن - سورة المدثر

العربية

المؤلف عبد البديع أبو هاشم
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات القرآن الكريم وعلومه
عناصر الخطبة
  1. قصة بدء الوحي .
  2. أوجه التشابه بين سورتي المدثر والمزمل .
  3. المقصود بالمدثر لغة واصطلاحا .
  4. متى وأين وكيف نزلت سورة المدثر؟ .
  5. الحكمة في فترة تأخر نزول الوحي .
  6. المقصود بالناقور وصفة النفخ في الصور .
  7. المقصود بقوله: ذرني ومن خلقت وحيدا .
  8. قصة الوليد بن المغيرة عظات وعبر .
  9. المقصود بقوله لواحة للبشر .
  10. الحكمة في جعل خزنة النار تسعة عشر .
  11. المقصود بقوله: لمن شاء منكم أن يتقدم أو تأخر .
  12. حال المؤمنين في الجنة وحال الكافرين في النار .
  13. جرائم أدخلت أصحابها النار .
  14. المقصود بقوله: وكنا نخوض مع الخائضين .
  15. المقصود بقوله: حتى آتانا اليقين .
  16. المقصود بقوله: فما تنفعهم شفاعة الشافعين .
  17. المقصود بقوله: فرت من قسورة .
  18. المقصود بقوله: حمر مستنفرة .
  19. المراد بقوله (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً .
  20. أهداف سورة المدثر .

اقتباس

هذه وجوه التناسبات بين السورتين؛ مما يجعلنا نقر ونؤمن ونثق بأن ترتيب سور القرآن من عند الله، فسورة المزمل نزلت ثانية، وسورة المدثر نزلت قبلها أولا، ومع ذلك اختلف الترتيب في المصحف ليس على ترتيب النزول، ومع ذلك فبينهما التناسب العجيب الذي رأيناه، ومن تدبر رأى أكثر ذلك؛ إنما يدل على أن ترتيب سور القرآن في...

الحمد لله رب العالمين، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه ونستهديه، ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ به سبحانه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولن تجد له وليا مرشدا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمد عبدالله ورسوله، وصفوته من خلقه وخليله.

خلا -عليه الصلاة والسلام- يذكر ربه بعيدا عن قومه، فكان يقضي الليالي ذوات العدد في غار حراء، وفجأة جاءه وحي جبريل عليه السلام، وقال له بأمر الملك العلام: "اقرأ" قال: "ما أنا بقارئ" كررها ثلاثا، ثم قال له ولقنه وحفظه الله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق:1 -5].

رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خديجة زوجته رضي الله تعالى عنها واشتكى إليها ما رأى من أمر غريب، وما سمع من كلام عجيب، فطمأنته وهدأته: إنك ذو فضل وخير وإحسان، فلن يضيمك الرحمن ولن يضرك إنس ولا جان" ثم أخذته إلى ورقة بن نوفل رضي الله تعالى عنه، وكان له خبرة في الكتب السابقة، وقراءة فيها، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا هو الوحي، فعد إلى خلوتك، وإذا عاودك فاثبت ولا تخف.

رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى غار حراء من جديد، وهو ينتظر قدوم جبريل عليه السلام بوحي الملك العلام، وبالشرع العظيم، وبالنبوة الرفيعة، شرف ما بعده شرف، منحة من الله تعالى.

ولكن جبريل بحكمة الله تأخر عنه وتخلف عن انتظار النبي صلى الله عليه وسلم، فكان عليه الصلاة والسلام فوق الجبل داخل الغار وخارجه، ثم لم يجده، فينزل تحت الجبل في الوادي السهل، وينظر يمينا وشمالا، ويذهب هنا وهناك، ويعود إلى الجبل، ثم يعود إلى الوادي.

يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام البخاري رحمه الله: "حتى إذا استبطنت الوادي - أي كان في الوادي من تحت- فنوديت يا محمد صلى الله عليه وسلم فنظرت يميني وشمالي وأمامي وخلفي، فلم أرى شيئا، فرفعت بصري إلى السماء، فإذا هو الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فصرخت منه – أي خفت منه – ورجعت إلى أهلي: زملوني، دثروني، فزملوني ودثروني -أي البسوه ثوب فوق ثوب، وغطوه بغطائه، ونام من رعدة ورعشة أخذت جسمه الشريف، حتى يطمئن ويقوم-.

فنودي من قبل الله عزوجل بالوحي الخفي، جاءه جبريل وهو لا يراه، فناداه: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) [المدثر:1-7].

صل يا ربنا وسلم على نبينا الكريم الذي تحمل من أجلنا المصاعب، وتكبد المتاعب، وتحمل شدة الوحي ليلقي إلينا هذا الوحي العظيم، صل عليه وسلم صلاة وسلاما يرضيك عنا، وترزقنا بها صحبته يوم الدين، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، وعلينا معهم برحمتك يا ربنا يا عظيم، إنك على كل شيء قدير.

أما بعد:

أيها الأخوة الأحباب: فهذه سورتنا المباركة التي نعيش في ظلالها اليوم، في هذه السلسلة المباركة "مقاصد سور القرآن الكريم".

تأتينا بعد سورة المزمل التي بدأها الله تعالى بقوله: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا)[المزمل: 1-2].

وهنا: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ) [المدثر:1-2].

فالنداءان لمنادٍ واحد ومنادى واحد، أما المنادي فهو الله ملك الملوك، وأما المنادى فهو خير البشر على الإطلاق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي كلا النداءين يأمره الله تعالى بالقيام.

سورة المدثر نزلت أولا، وإن ذكرت في المصحف آخرا، ففيها: (قُمْ فَأَنذِرْ) [المدثر:2] قم إنك رسول، قم تلقَّ الرسالة: (لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) [الشورى(7].

وهذه مهمة شاقة صعبة أن يتلقى وحي من الله، وأن يقوم بدعوة العالمين، تلك مسئولية ضخمة؛ لذلك نادى الله عليه بعد ذلك في الزمان، وقبل ذلك في ترتيب سور المصحف: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)[المزمل:1-5].

فتشابهت السورتان تشابها عظيما، وتناسبتا تناسبا كبيرا، وفي السورتين -وهما أوائل ما نزل من القرآن مطلقا-، ذكر لعمود الإسلام وتنبيه عليه: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل:2-4].

كان قيام الليل -كما عرفنا- بالصلاة وبترتيل القرآن.

وفي أواخر سورة المزمل صرح الله بهذا: (فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) [المزمل: 20].

وفي سورتنا المباركة اليوم سورة المدثر، الله تبارك وتعالى يكلف النبي صلى الله عليه وسلم أيضا فيقول له: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) [المدثر:1-3].

قال المفسرون: أي كبره للصلاة، وكبره بالصلاة، قل: الله أكبر وصلِّ، تعرف بتكبيرة الإحرام، ويطلق على الصلاة تكبير؛ لأنه مفتاحها، ولأنه ذكر التنقل فيها وبين أجزائها.

(وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر:4]؛ لأن الطهارة شرط من شروط صحة الصلاة، أمر لازم لصحة الصلاة وقبولها أن يكون المصلي طاهرا في بدنه وثوبه والأرض التي يصلي عليها.

وفي أواخر سورة المدثر أيضا يذكر الله عن الكافرين أهل النار - نعوذ بالله - وقد سألهم أهل الجنة من علو: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) [المدثر: 42- 43].

وكأن ترك الصلاة هي الجريمة، كأن ترك الصلاة هي المصيبة العظمى، والجريمة الكبرى التي أول ما يُدخل الإنسان النار، أول جريمة يدخل بها النار هي، وقد صح في الحديث أن: "أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله".

ويقول عليه الصلاة والسلام: "الصلاة عمود الدين".

هذه وجوه التناسبات بين السورتين؛ مما يجعلنا نقر ونؤمن ونثق بأن ترتيب سور القرآن من عند الله، فسورة المزمل نزلت ثانية، وسورة المدثر نزلت قبلها أولا، ومع ذلك اختلف الترتيب في المصحف ليس على ترتيب النزول، ومع ذلك فبينهما التناسب العجيب الذي رأيناه، ومن تدبر رأى أكثر ذلك؛ إنما يدل على أن ترتيب سور القرآن في المصحف إنما هو من عند الله وليس من اجتهاد الصحابة والعلماء، فلو كان من اجتهادنا لرتبنا سورة المدثر أولا، حيث نزولها أولا، ورتبنا سورة المزمل بعد ذلك، حيث تأخر نزولها عن سورة المدثر.

فالقرآن كله: ألفاظه، كلماته، حروفه، ترتيب سوره، ترتيب آياته، أسماء السور، كل ذلك على أرجح الأقوال من عند الله تبارك وتعالى، لم يتدخل في ذلك بشر.

فجاءتنا سورة المدثر، وما المدثر؟

بهذا الاسم العظيم سماها الله، والمدثر هو المتدثر، واللغة العربية من سهولتها أدغمت التاء في الدال؛ لقرب المخرج في اللسان والفم، مخرج التاء قريب من مخرج الدال، فأدغمت حرفا واحدا، فصارت مدثر، -كما قلنا في المزمل-، أصلها المتدثر، من تدثر، إذا لبس الدثار، والدثار هو الثوب الخارجي الظاهري، وأما الثوب الداخلي فكان العرب يسمونه شعارا؛ لأنه يلاصق شعر الجسم، ويلي جلد الجسم؛ لذلك يسمونه شعارا، ولذلك تقرأ في هدي بعض الصالحين أنه كان يلبس الدثار، بدون شعار، ويجعله من الصوف؛ صوف الغنم والجمال، صوف خشن ساخن، فإذا لبسه الإنسان على جسمه مباشرة دون شعار تحته، أي ملبس داخلي، فهذا الصوف يشوك جسمه، ويلسع في جلده، فلا يهدأ له نوم، فيقوم ليصلي لله في الليل.

فكانوا يأخذون من هذا الدثار الصوفي دون شعر تحته، منبها لهم بالليل ليقوموا لله.

الدثار هو الثوب الخارجي، والشعار هو الثوب الداخلي.

أما الزملة التي تزمل بها النبي صلى الله عليه وسلم هو ما يتزمل به الإنسان عند نومه من غطاء.

إذاً هنا تدثر بثيابه، وهناك المزمل تزمل بغطائه صلى الله عليه وسلم.

هذا هو المعنى.

أما المراد بالمدثر، فهو النبي فقط صلى الله عليه وسلم، وكما عرفنا في المزمل أيضا ناداه الله بهذا ملاطفة، فالله يلاطف نبيه صلى الله عليه وسلم، سيناديه ببعض هيئته التي يكون عليها من باب التقرب إليه، والتحبب إليه عليه الصلاة والسلام، كما مثلنا بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب وهو نائم في المسجد، وتقلب فالتصق التراب بجنبه، فقال له: "قم أبا تراب".

وقال لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه وقد أخذه النوم: "قم يا نومان" يعني يا من  تنام وتحب النوم.

هذه ملاطفة حتى يشعره بالقرب، وأنا لا ألومك على أنك نمت في المسجد والتصق التراب بجنبك، ولا ألومك يا حذيفة على نومك وإنما ألاطفك بهذا النداء، وهذه عادة للعرب، ونزل بها القرآن؛ لأنها عادة لغوية جميلة.

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) [المدثر:1].

ما أعظمه من نداء! ينادي به عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم.

نزلت هذه السورة كما ذكرت في الحديث في أول الخطبة، وذلك حديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما رحمهم الله جميعا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عرف أن من نزل عليه بقوله سبحانه: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق: 1].

إنما هو جبريل ملك الوحي، وهذه نبوة ورسالة، وعلمه ذلك الصحابي الجليل أول من أسلم به بعد خديجة ورقة بن نوفل رضوان الله عليه، فعاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكانه في غار حراء، وهناك انتظر قدوم جبريل وعودته مرة أخرى، وتأخر عنه..

لماذا؟

تشويقا له عليه الصلاة والسلام، ما يتنزل جبريل بأمره ولا بإذنه ولا بإرادته، قال الله تعالى على لسان الملائكة وبخاصة جبريل: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)[مريم:64].

فينزل جبريل.. نعم..

ولكن بإذن الله عز وجل، فأخره الله فترة، حتى تشوق النبي صلى الله عليه وسلم، وبدأ بالبحث عنه، والنظر أين هو؟ وأين ذهب؟ ومن أين يأتي؟ ومتى؟

فإذا جاءه استقبله، ولكن يبين الله لنا ضعف البشر، وقوة خلق الملائكة بمجرد أن رآه مرة أخرى، وقد رآه الأولى رأسه بين السماء والأرض جالسا على كرسي في الفضاء والهواء، فإنه ملك روح تطير، خاف النبي صلى الله عليه وسلم أيضا من هول المنظر، والله يخبرنا أنه لو أنزل على الناس لماتوا: (وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ) [الأنعام:8].

لو رأى الناس ملكا واحدا، أي ملك من الملائكة، لقضي الأمر بالنسبة لهم لماتوا، وانتهت حياتهم، أخذتهم صاعقة من رؤية الملك، وهول منظره: (ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ).

لا ينتظرون لحظة بعد رؤيته إلا وقد ماتوا، لكن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعد لرسالة، فالله تعالى يثبته ويحفظه ويعصمه من أن يهلك، أو يموت عليه الصلاة والسلام.

وهناك لما رآه خاف منه، ورجع إلى أهله، فكانت هذه السورة سورة المدثر، السورة الثانية التي نزلت، أو نزل بعضها بعد بعض سورة العلق.

وكان ذلك في مكة، وفي أوائل العهد المكي.

الله تبارك وتعالى ذكر لهذه السورة نصا له سياق جليل، بدأ بالنداء على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بهذا المنهج الذي ينبغي أن يقوم به تجاه قومه لينذرهم، وتجاه ربه ليتطهر وليصل لله ويكبره.

ثم بعد ذلك يذكر الله يوم القيامة في تذكرة سريعة: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ)[المدثر:8].

والناقور هو ما سماه الله في سورة أخرى بالصور: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ) فالصور والناقور اسم لمسمى واحد، سماه الله ناقورا، وسماه صورا.

ينفخ فيه ملك النفخ إسرافيل عليه السلام، هو المعد لذلك، والمكلف به، ولا ينفخ إلا إذا أذن الله له.

(فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) [المدثر: 8-9].

ينفخ مرتين، مرة إنهاء الدنيا، وإماتة الأحياء الذين بقوا، ثم نفخة أخرى حين يشاء الله تعالى بعث العباد، هي نفخة إعلان، يعلن الله بها انتهاء العالم، فمن سمعها فليعلم أن العالم انتهى الآن، فتحدث الكوارث العظام، والأحداث الجسام، ويخرج الكون، وتنتهي الدنيا، ويموت الجميع إلا من شاء الله.

ثم يكون الإعلان الآخر بالنفخ في الصور أيضا، فإذا الناس يقومون من أجداثهم وقبورهم، كما ينبت الشجر من الأرض، ترى النبات يخرج كذلك، هؤلاء يخرجون هكذا، كل يخرج ويمضي إلى مكان يقف فيه، قد أعده الله له، لا يخالفه ولا يفارقه، في جماعة وافقوه في عمله، سواء يعرفهم، أو لا يعرفهم إنما الجمع تلقائي، فيقف أهل الصلاة مع بعضهم الذين كانوا يحبون الصلاة، ويزيدون على فريضة الصلاة فيصلون بالليل والضحى، وهكذا، ويكثرون من الصلاة كثيرا، ويقف أهل القرآن مع بعضهم الذين اهتموا به، وحفظوه وتعلموه، وعلموه، وانشغلوا به، ويقف أهل الربا مع بعضهم، وأهل الرشوة مع بعضهم، كل صحبة، ولو لم يعرفوا بعضهم، كانوا على عمل مشترك في الدنيا يجتمعون بهذا العمل يوم القيامة أفواجا، كل فوج مع بعض، وكل فوج يتميز عن غيره.

ثم يعلم الله كل فوج بعلامة: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ) [الرحمن:41].

كذلك يعرف الصالحون بسيماهم، بحيث تنظر أيها المسلم يوم القيامة، وينظر أي إنسان إلى هذه المجموعات وتلك الأفواج، فيعلم أن هذه مجموعة كذا، وهذا فوج كذا، وهذا فوج كذا؛ من خلال العلامة التي علمهم الله بها.

(فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) [المدثر:8]

وهو غيب، فلا يرى الناقور، ولا يرى النافخ فيه، ولا يعلم، من لم يصدق فقد ضيق على نفسه، وقد أنكر واقعا، فقد رأيتم في نظام القوات المسلحة في معسكراتها، نوبة الصحيان، ونوبة النوم، نافخ ينفخ في آلة، يقال لها: البروجي، دخلت القوات المسلحة وخرجت منها تؤدي خدمة الوطن، وهناك على طول الفترة، أو على قصرها، ما شغلت نفسك يوما، من الذي ينفخ في البروجي، هل هو ضابط أو صف ضابط أو عسكري؟ هل هو قوة أساسية أو غير أساسية؟ هل هو طويل أو قصير؟ أبيض أو أسمر؟ ما اسمه؟ ما سنه؟ ما شغلت نفسك بها، لكن حين كنت تسمع هذه النوبة كنت تنفذ أمرها، هذه للنوم، فتذهب إلى سريرك خشية أن يفتش عليك، فلا يجدك على سريرك، فتتعرض للعقاب، ونوبة الصحيان بعدها بثواني يكون الكل محشورا في أرض المعسكر، أرض الطابور.

إذا كان البشر قد فعلوا هذا، ينيمون الجميع بنفخة، ويقيمون الجميع بنفخة في الصباح، فما بالك برب العالمين، فالق الإصباح سبحانه وتعالى، هذا هو النفخ في الصور واقع في حياتنا.

(فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ..) [المدثر:9- 10].

اللهم لك الحمد؛ لأنه ليس عسيرا علينا، عسيرا: (عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) [المدثر:10].

هذه التذكرة سريعا، لكن كما ذهبت مع بعضها، فطال الحديث هي ذات إشارات بعيدة، ودلالات عظيمة، ولو قلنا: كيف تكون القيامة عسيرة وكيف يكون يوم القيامة شديدا غير يسير على الكافرين لطال بنا الوقت وما كفى، ونفذ الكلام وما اكتفى، لذلك هذه تذكرة سريعة في القرآن، في هذه السورة.

وبعدها الله تبارك وتعالى طالما تكلم عن الكافرين، فهذا نموذج منهم: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) [المدثر:11].

أي اتركني له واتركه لي، كلمة يراد بها أو يشار بها إلى الوعيد الشديد، اتركوني على فلان، وهل أمسكك أحد، لا داعي أن يحجزه أحد ولكنه يعلن أن فلانا هذا يستحق هذا العقاب، كما قال فرعون: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى) [غافر: 26].

وهل منعه أحد؟! هل وقف في طريقه أحد؟! لكنها كلمة معروفة في اللغة العربية.

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) [المدثر:11].

أي ليس له إخوة، وحيد في أسرته: (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا) [المدثر:12-13].

كان له عشرة من الأبناء الرجال الذكور: (وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا) [المدثر:14].

حياته ممهدة سهلة، حياته مقضية: (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا..) [المدثر:15-16].

فوق هذا الخير الكثير، والحياة السهلة، يطمع في زيادة، ولسان حاله يقول كما يدعي البعض: طالما أعطاني الله في الدنيا، هذه التوسعة، إذاً هو راضي عني، وطالما أعطاني في الدنيا سيعطيني في الأخرة، وما أظن الساعة قائمة، ولئن رددت إلى ربي سأجد خيرا منها منقلبا، هذا منطق الكافرين، وينزلق وراءه بعض المسلمين، غير الفاهمين.

(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) [المدثر:15].

يكبته الله ويفاجئه، فيقول: (كَلَّا).

لماذا يا رب؟

(إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا)[المدثر:16-17].

سأرهقه بالعذاب يوم القيامة، قيل: على جبل في النار، يصعده ويقع من فوقه، وهكذا.. أو بعذاب يعذبه الله.

لماذا هذا كله؟

(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) [المدثر:18-19].

أي لعن كيف يقدر هذا التقدير، كيف يحدد هذا الكلام ويقوله؟!

كان هذا هو الوليد بن المغيرة -لعنه الله تعالى- أشعر العرب وأعلمهم بالشعر، وأبرزهم بالشعر، وصناعة الكلام، بعثوه إلى نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم ليسمع القرآن الذي يقرأه، ويقول عنه قولا .. هذا كلام فارغ، هذا شعر، هذا كذا .. يقول فيه قولا، لكن قولا من ناقد، قولا من عالم في الكلام، حتى يصدق قوله، فذهب وتسمع، فاستمع، فانشرح صدره، أثر القرآن في قلبه، أجري على لسانه الحق، فقال: "والله إنكم لتعلمون أني أشعر العرب، واني أعلمكم بشعر الجن والإنس، والله ما يقول هذا الكلام بشر، إن عليه لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه.

قالوا: حسبك، ما بعثناك لهذا، إنما بعثناك لتقول قولا تذمه به وتصرف الناس عنه، قال: إذاً دعوني أفكر، أنظروني بعض الوقت، فخلا بنفسه، ويصور الله حاله القبيح وصورته المقيتة، فيقول: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) [المدثر:18].

فكر في الأمر وقدر، ماذا يقول من بهتان وكذب: (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) [المدثر:19] أي لعن كيف قدر هذا.

(ثُمَّ نَظَرَ) [المدثر:21] أي شخص ببصره وحدده نظرته في مكان ما ركز النظر حتى لا ينشغل بشيء آخر.

(ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ)[المدثر:21-22] كأنه كشر بوجهه هكذا، واستجمع الشر في قلبه، ليقول قولا شيطانيا، وكأنه يستحضر شيطانا.

(ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) [المدثر:22-25].

ما هذا إلا كلام جني، يأتي محمدا عليه الصلاة والسلام ويلقيه عليه، يعني عنده مس من الجن، أو شيء من هذا.

(إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) [المدثر:25].

وهكذا فضحه الله، وهذا خيط الجريمة قول جن، أو قول بشر..

حدد؟

ما استطاع أن يحدد؛ لأنه لا يقول حقا، لا يقول واقعا، إنما يتوهم ويقول من خياله، كلاما بهتانا وزورا، فتخبط وترنح وتردد، قال الله تعالى: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) [المدثر:18-25].

ماذا يستحق؟

(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) [المدثر:26] هي جهنم، والعياذ بالله.

(وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ) [المدثر:27]

ماذا تعرف عنها يا نبي الله؟ يا من يوحى إليك؟ وماذا يعلم عنها من هو دونك في العلم؟

لا شيء، إنها أكبر من علومكم: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء: 85].

(لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ) [المدثر:28]

قالوا: لا تبقي لحما ولا تذر عظما، كما قال تعالى: (تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) [الهمزة:7] أي تأكل البدن، وحتى تصل إلى الفؤاد الداخلي، فيعود خلق الكافر مرة أخرى في جهنم ويعذب: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ) [النساء:56].

(لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ) [المدثر:29] كلمة تحتاج إلى درس طويل، أي أنها تشير من بعيد إلى أصحابها من البشر، تنادي عليهم أن هلموا، تعالوا، طال شوقي إليكم، وبعد انتظاري لكم، أين أنتم؟ هل من مزيد؟!

(لَوَّاحَةٌ) تلوح لهم، تشير إليهم: (لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ)

إذا رأتهم، نعم، عرفتهم؟ نعم، فنادت عليهم ولم تناد على واحد من أهل الجنة، إنما تنادي كما قال تعالى في آية أخرى: (تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى) [المعارج:17-18].

كأن الله تعالى جعل للنار عقلا وبصرا، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "يخرج من النار يوم القيامة عنق طويل، وله رأس، فيه عينان تبصران، ولسان يتكلم".

والله تعالى يقول عنهم: (إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) [الفرقان:12].

تفور وتغتاظ، وتحدث صوتا، كما يحدث الحيوان، الوحش، حينما يرى فريسته من بعيد، من باب إخضاعه وإخافته: (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) ترسل إليهم رسالة من نار حامية قبل أن يصلوا إليها! شيءٌ تحت الحساب!.

الزفير هو ما يخرج من الفم، فتنفخ عليهم نفخة تحرقهم من بعيد قبل أن يصلوا إليها،  حتى إذا وصلوا: (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ) [الملك: 7].

هكذا كما يأخذ الإنسان شهيقه فيحدث دخول الهواء بسرعة من هذا المضيق في الفم يحدث صوتا: (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ) (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ).[الملك:7] 

اللهم عافنا واعف عنا.

هذا بخلاف ما بالنار من الداخل، وبخلاف خزانتها: (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) [المدثر:30] من الملائكة، تسعة عشر صفا، تسعة عشر جماعة، تسعة عشر ملكا، لو كانوا تسعة عشر ملكا فقط لكانوا كافين، فالملك له قوة عظيمة، قوة رهيبة، فيكفي تسعة عشر ملكا خزانا على النار، حتى يعذبوا من فيها، كما يختار الله تبارك وتعالى.

قام الخبيث الوليد بن المغيرة حين سمع هذه الآية ساخرا، يقول لأصحابه من قريش: يهددنا محمد، ويتوعدنا بتسعة عشر على النار، أنا أكفيكم العشرة، أنا عندي عشرة أولاد أسلط كل واحد منهم على كل واحد من التسعة عشر، فأكفيكم العشرة، وعليكم أنتم التسعة، وتبقى النار بدون خدام..

أهذا كلام عاقل؟!

هذا من جنونه، هذا من غبائه، ولذلك بعدها فضحه الله في سورة القلم: أنه ولد الزنا، فكان وحيدا، ليس له أخ، لا يعرف له أب، ومع ذلك ستر الله عليه ورزقه مالا، حتى عاش في الدنيا واحدا من العمد، والأعمدة التي يراها الناس بكبرياء وعلو، ولكنه عاند آيات ربه، ففضحه الله تعالى في الدنيا، وتوعده بالعذاب في الآخرة.

وما جعل الله عدة أصحاب النار تسعة عشر إلا فتنة، حتى يقول واحد من الكافرين هكذا، ويصدقه الآخرون: إننا نستطيع أن نقف أمام خزنة النار، وأن نوقفهم، ولكي يستيقن المؤمنون وأهل الكتاب الذين سبق لهم الخبر، تيقنوا من خبر القرآن بعد خبر ما جاءهم أن الكلام حق، وأن هذا كلام الإله، ليس افتراء محمد عليه الصلاة والسلام.

(وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) [المدثر:31].

ويقسم الله تعالى أن هذه النار لإحدى الكبر: (كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاء ..) [المدثر:32-36].

هذا في الدنيا فقط: (نذيرا)، (قُمْفَأَنذِرْ ) لكن الحقيقة ودخول الناس فيها هو يوم القيامة.

(إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ) [المدثر:35] أي الأشياء الكبيرة، المصائب الكبرى، الأخطار العظمى، هذه واحدة منها.

(نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) [المدثر: 36- 37].

(يَتَقَدَّمَ) التقدم، أي أن يأخذ بمنهج الله: (أَوْ يَتَأَخَّرَ) التأخر هو عدم تطبيق شرع الله.

انتبهوا إلى كلمات القرآن، إنها لغة الله، يتكلم مع عباده الذين يحبهم، ويريد أن يرحمهم، فلا تظن بالله خطأ، ولا تتهموا شرع الله بأنه تخلف، أو تأخر، هكذا يقول الله: (لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ).

من تقدم، أي قدم الصالحات، كما قال سبحانه وتعالى: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) [الانفطار:5].

التقدم في لغة القرآن هو الأخذ بالقرآن والسنة، والعمل بالشريعة، وإرضاء رب العالمين سبحانه وتعالى.

أما التأخر، فهو عكس ذلك ونقيضه.

ثم يعرض الله عرضا سريعا جدا لموقف المؤمنين في الجنة، وموقف الكافرين في النار، وهو نهاية المطاف، وختامه، الحياة الأبدية التي لا موت فيها: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) [المدثر:38-42].

طالما وجهوا لهم الخطاب، إذاً رأوهم من علياء الجنة في أسفل النار.

ومثل هذا الخبر موجود أيضا في سورة الصافات: (قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ) [الصافات:51-52] إلى آخره..

حتى قال لأصحابه في الجنة: (هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [الصافات:54-57].

يعني أوشكت أن تأخذني معك، وتجرني إلى النار، ولولا فضل الله علي ونعمته لكنت من المحضرين معك للعذاب.

هكذا ينادون على أهل النار ويسألونهم، وكانوا في الدنيا يدعون أنهم أبناء الله وأحبائه، أنهم أحسن دينا، أنهم أعرف بالله، أنهم أكثر الناس أداء لحق الله، أنهم .. وأنهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء:49].

ما سلككم بعد هذا المدح العظيم الذي مدحتم به أنفسكم، والإدعاء الكبير؟

(وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا) [الكهف:36].

(وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى) [فصلت: 50].

أين الحسنى؟ وأين الجنة؟!  وأين العطاء؟!

(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) [المدثر:42]

ما الذي أوقعكم هنا وقد كنتم تقولون .. وتقولون؟!.

يجيبون بخيبة أمل وحسرة وندم: (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) [المدثر:43].

كأنها الجريمة التي أدخلتهم النار: (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) [المدثر:44-45]

في الكلام والمعتقدات وفي أي شيء، كما يسير الناس نسير، وما يسري على الناس يسري علينا، إمعة بين الناس، نقول عليه في أيامنا: "كذاب زفة" يعني لا هو معهم ولا هو ضدهم، لكنه وجد زفة من الناس فمضى معهم، طبلوا فطبل، رقصوا فرقص .. جدوا فجد، قالوا حق يقول حقا، قالوا باطلا يقول باطلا: (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ).

أصلها من الخوض في الماء والطين في الطريق، كماشي في الطريق، ويرى في طريقه ماءا وطينا، وله أن يتجنبه هكذا، أو هكذا، ليسلم منه، لكنه لا يعبأ، ولا يهتم، فيمضي في الماء والطين، وبعده في التراب الطاهر النظيف، وبعده في ماء وطين، وبعده في كذا... كما يكون طريقه يمضي لا يتورع، لا يتوارى، لا يحذر، لا يتقي.

فكان هؤلاء هكذا: (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) [المدثر:45-47].

اليقين: الموت، يقول سيدنا علي رضي الله عنه: "ما رأيت يقينا أشبه بالخرافة من الموت".

هو يقين، موت لابد منه، لكنه يأخذ الصغار فجأة، يأخذ الأقوياء من بين المرضى، يأخذ الطبيب ويترك المريض، ما هذا؟!!

على خلاف ما ينتظره العقل وتحسبه الحسابات، يموت من لا يظن فيه الموت، ويبقى من لا يؤمل له في الحياة، أشبه بالخرافة هو الموت: "ما رأيت يقينا أشبه بالخرافة من الموت".

(حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر:47-48]

من عاش كافرا مات كافرا، يوم القيامة لا تنفعه شفاعة الشافعين.

إذاً هناك شفاعة، وهناك شافعون، يشفعون بإذن الله، وتنفع شفاعتهم، ولكن شفاعتهم لا تنفع الكافرين، لا تنفع من مات كافرا أو مشركا، أما من مات موحدا لله غير مشرك، غير أنه عصى بعض المعاصي، تاب منها أو لم يتب، إن شاء الله ربما يرزق شافعا من الملائكة، من الأقارب، من الأصحاب، من القرناء الطيبين، يشفعون له بين يدي رب العالمين، فيأذن الله لمن يشاء ويرضى، فينتفع بالشهادة.

ولذلك نقول: تآخوا في الله، فيوم القيامة يسبق أحدنا إلى الجنة، فينظر على صاحبه فلا يراه، يا ربي أين صاحبي فلان والله لقد عاهدته في المساجد، لقد تعرفت عليه في مجلس القرآن، لقد تصاحبنا في طلب علم نافع، لقد.. يذكر فضائله وأعماله: اللهم إن كان متعسرا فشفعني فيه وأنقذه يا رب العالمين، يدعو له بمثل هذا القول، فيأذن الله له بفضله، ويشفع لصاحبه، ويلحق به أصحابه، وكذلك الأهل والأولاد، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)[الطور:21] أي ما نقصنا الشافعين من أعمالهم شيئا، حين ألحقنا بهم المشفوع له.

إذاً كيف حصلوا على أجر يوصلهم إلى تلك المرتبة العالية من فضل الله؟

الله أعطاهم درجات رأفة، ودرجات رحمة، ودرجات شفقة عليهم، كرامة لهؤلاء السابقين.

جعلنا الله من السابقين الشافعين.

اللهم أمين.

ويعجب الله تعالى من حال هؤلاء الكفار، ويصورهم بصورة مهينة: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر:49].

لماذا تعرضوا عن التذكرة؟

بقية الخطبة في المرفق ,,