البر
البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصيام |
وهكذا في كلِّ عاشوراءَ، تتجدَّدُ للأمَّةِ آمالُ النَّصرِ على الأعداءِ، فكم كانَ بينَ: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[الزخرف: 51], وبينَ: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ)[يونس: 90]؟! فافتخرَ بالماءِ يجري من تحتِه، فأجراهُ اللهُ فوقَ رأسِه...
الْخُطبَةُ الْأُولَى:
الحمدُ للهِ يَنصرُ من يَشاءُ، الحمدُ للهِ في السرَّاءِ والضرَّاءِ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له, ذو الفَضلِ العَظيمِ والآلاءِ، وأَشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه, إمامُ المرسلينَ وخاتمُ الأنبياءِ، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آلِه الأطهارِ الأنقياءِ، وارضَ اللهمَّ عن صحابتِه البرَرةِ الأصفياءِ، والتَّابعينَ ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ العَرضِ والجَزاءِ، أما بعدُ:
(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[البقرة: 281].
أيُّها الأحبَّةُ: لماذا يشعرُ الواحدُ مِنَّا إذا أرادَ أن يتكلمَ عن نَصرِ أمَّةِ الإسلامِ وتمكينِها، أنَّه يحتاجُ أن يُقدِّمَ بمُقدِّمةٍ طَويلةٍ؟، وقد يُفلحُ بمشقةٍ في إقناعِ البَعضِ أحياناً قليلةً، وقد يخونُه التَّعبيرُ فترجعُ الأبصارُ عنه يائسةً كليلةً، فيبدأُ بذكرِ خيرِ القرونِ وما كان فيه من العزِّ والتَّمكينِ، ثُمَّ يذكرُ شيئاً من فتوحاتِ الإسلامِ من الأندلسِ إلى الصِّينِ، ويذكرُ انتصاراتِ محمدِ الفاتحِ وصلاحِ الدِّينِ، وكيفَ صمدتْ الأمَّةُ طويلاً في وجهِ التَّغريبِ وحَملاتِ الصَّليبينَ، ثُمَّ ما يلبثُ أن تصطدمَ كَلماتُ العِزَّةِ بصخرةِ الواقعِ المَهينِ!.
فينظرُ إليهُ الحُضورُ ولسانُ حالِهم يقولُ: ألا ترى إلى بلادِ الإسلامِ؟! بل ألا ترى إلى بقايا الحُطامِ؟! فكم نحتاجُ إلى أن تَنفضَ الأمَّةُ غبارَ الحُزنِ الدَّفينِ؟ ومتى تستطيعُ أن تَتَشافى من أمراضِ الدَّهرِ والسِّنينَ؟.
مَا لِي وَلِلنَّجْمِ يَرْعَانِي وَأَرْعَاهُ | أَمْسَى كِلاَنَا يَعَافُ الْغَمْضَ جَفْنَاهُ |
لِي فِيكَ يَا لَيْلُ آهَاتٍ أُرَدِّدُهَا | أَوَّاهُ لَوْ أَجْدَتِ الْمَحْزُونَ أَوَّاهُ |
إِنِّي تَذَكَّرْتُ وَالذِّكْرَى مُؤَرِّقَةٌ | مَجْدًا تَلِيدًا بِأَيْدِينَا أَضَعْنَاهُ |
أَنَّى اتَّجَهْتَ إِلَى الإِسْلاَمِ في بَلَدٍ | تَجِدْهُ كَالطَّيْرِ مَقْصُوصًا جَنَاحَاهُ |
كَمْ صَرَّفَتْنَا يَدٌ كُنَّا نُصَرِّفُهَا | وَبَاتَ يَحْكُمُنَا شَعْبٌ مَلَكْنَاهُ |
ولكن أستأذنُكم في أن نرجعَ إلى من أوصانا رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- بالرُّجوعِ إليه بعدَه؛ كما قالَ: "تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابَ اللَّهِ"، ولنتأملَ آياتِه ونتدبَّرَ حروفَه؛ لنتعرَّفَ على حَقيقةِ النَّصرِ ومتى يكونُ؟.
تأتي أُولى الحقائقِ في كِتابِ اللهِ لتقولَ: أنَّه لا نصرَ إلا من اللهِ -تعالى-، مهما كانَ عددُ وعَتادُ المُسلمينَ، هذه الحقيقةُ التي كانتْ راسخةً في قلبِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ-، فها هو يأتي إلى مكةَ عامَ الفتحِ ومعه عشرةُ آلافِ مُقاتلٍ، فينزلُ عليه قولُه -تعالى-: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)[النصر: 1]، فيعلمُ أنَّه نصرٌ وفتحٌ من اللهِ -تعالى- وحدَه، فيَدخلُ مَكةَ مُطأطئاً رَأسَهُ، شَاكراً، مُتواضعاً، خَاشعًا للهِ، مُستشعراً قولَهُ -تعالى-: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[آل عمران: 160].
واسمعوا إلى اللهِ -تعالى- وهو يخاطبُ أهلَ بدرٍ: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ)[الأنفال: 9]، أقوياءَ أَشدَّاءَ، فيهم جبريلُ -عليه السَّلامُ- (شَدِيدُ الْقُوَى)[النجم: 5]، الذي رآه النبيُّ محمدٌ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ- على صُورتِه التي خَلقَه اللهُ -جَلَّ جَلالُه- عَليها ولَهُ ستَّمائةِ جَناحٍ، وكَانَ قد سَدَّ الأُفقَ، ومن قوَّته أَنَّه رَفعَ مَدائنَ قَومِ لوطٍ على جناحِه، ثمَّ قلَبَها عليهم، ومع ذلكَ يؤكدُ اللهُ -تعالى- على حقيقةِ النَّصرِ، فيقولُ: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال: 10].
وثاني الحقائقِ في كتابِ اللهِ عن النَّصرِ: أنَّ النَّصرَ له أسبابٌ وكما أنَّ منها الاستعدادَ بالقوَّةِ العسكريَّةِ؛ كما في قولِه -تعالى-: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)[الأنفال: 60]، ولكنَّ أهمَّها وأعظمَها الاستعدادُ بالقوَّةِ الإيمانيَّةِ؛ كما في قولِه -تعالى-: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)[الروم: 47].
الذينَ ينصرونَ دينَ اللهِ -تعالى- بالعملِ به في أنفسِهم, وتطبيقِه واقعاً في حياتِهم العَمليةِ؛ (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الحج: 40]، ما هي صفاتُهم؟؛ (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)[الحج: 41]، فمتى ما رأيتُم أفرادَ الأمَّةِ عادتْ إلى ربِّها عودةً صادقةً؛ فانتظروا وعدَ اللهِ قريباً: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)[محمد: 7].
يا أُمَّةَ الحَقِّ إنَّ الجُـرحَ مُتَّسِعٌ | فهل تــُرى من نَزيفِ الجُرحِ نَعتبرُ |
مَاذا سوى عَودةٌ للهِ صَادقـةٌ | عَسى تُغيُّرُ هَذي الحَالُ والصُّورُ |
بَاركَ اللهُ لي ولكم في القُرآنِ العَظيمِ، ونَفعني وإياكم بما فيهِ من الآياتِ والذِّكرِ الحَكيمِ، أَقولُ هذا القولَ وأَستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ، فاستغفروه إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ، أحمدُ ربي وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستغفِرُه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له القويُّ المتينُ، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم عليهِ وعلى آلِه وصحبِه أَجمعينَ، أما بعدُ:
لَمَّا قَدِمَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ- المَدِينَةَ وَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ، فَسَأَلَهُم فَقَالُوا: هَذَا يَومٌ عَظَيمٌ، نَجَّى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَومَهُ, وَأَهلَكَ فِرعَونَ وَقَومَهُ، فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنكُم"، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، وَفي آخِرِ حَيَاتِهِ أَرَادَ مُخَالَفَةَ اليَهُودِ فَقَالَ: "لَئِن بَقِيتُ إِلى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ"، وَقالَ عَن صِيَامِ يَومِ عَاشُورَاءَ: "إنِّي أَحتَسِبُ عَلَى اللهِ أَن يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبلَهُ".
وهكذا في كلِّ عاشوراءَ، تتجدَّدُ للأمَّةِ آمالُ النَّصرِ على الأعداءِ، فكم كانَ بينَ: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[الزخرف: 51], وبينَ: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ)[يونس: 90]؟! فافتخرَ بالماءِ يجري من تحتِه، فأجراهُ اللهُ فوقَ رأسِه!.
وكم كانَ بينَ: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)[النازعات: 24]، وبينَ: (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[يونس: 90]؟! فجاءَ الجوابُ لمن طَغى: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً)[يونس: 91، 92]؛ آيةً في نصرِ اللهِ للمُستضعفينَ وإهلاكِ الطَّاغينَ، (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)[يونس: 92].
ولقد جَرتْ سُنَّةُ اللهِ -تعالى- أنَّه لا نصرَ إلا مع الصَّبرِ، وأنَّه متى بَارَتْ الحِيلُ، وضَاقتْ السُّبلُ، وانتهتْ الآمالُ، وتَقطعتْ الحِبالُ، جاءَ نصرُ اللهِ -تعالى- ذي الجلالِ والكمالِ، واسمعوا إلى موقفِ الرُّسلِ وأتباعِهم: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ)[البقرة: 214]؛ أهو قريبٌ أم بعيدٌ؟، ولم يسألوا سؤالَ المُرتابِ: أينَ نصرُ اللهِ؟، ولم يقولوا متى ننتصرُ؟، بل علموا أنَّ النَّصرَ من اللهِ -تعالى- وحدَه، فقالوا: متى نصرُ اللهِ؟، فجاءَهم الجوابُ مباشرةً: (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)[البقرة: 214]، لأنَّكم وصلتم إلى مرحلةِ الكربِ والعُسرِ فجاءَ الفرجُ واليُسرُ.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واحمِ حوزةَ الدِّينِ، ودمِّر أعداءَ الدِّينِ، وسائِرَ الطُّغاةِ والمُفسِدينَ، وألِّفْ بينَ قُلوبِ المسلمينَ، ووحِّد صُفُوفَهم، وأصلِح قادَتَهم، واجمَع كلمَتَهم على الحقِّ يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ انصُر دينَكَ وكتابَكَ، وسُنَّةَ نبيِّك محمدٍ -صَلى اللهُ عَليهِ وسَلمَ-، وعبادكَ المؤمنينَ المُجاهِدينَ الصَّادقينَ.