البر
البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | محمد ابراهيم السبر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - المنجيات |
ومن قيم التوكل التي دعا إليها الدين الإسلامي الحنيف, وأكدها غاية التأكيد: الالتزام بالتدابير الوقائية؛ للاحتراز من الوباء, وحماية المجتمع منه، فمن ضروريات الإسلام الكبرى حفظ النفوس، وعدم تعريضها للتهلكة، وكذلك من الأخذ بالأسباب...
الْخُطبَةُ الْأُولَى:
الحمد لله رب العالمين، قيوم السماوت والأرضين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا -عباد الله-, (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
معاشر المؤمنين: على إثر تفشي جائحة كورونا التي عمّت أمم الأرض بلا استثناء أو استئذان، وأصبحت وباءً مستطيرا وجائحة عالمية أصابت الملايين وحصدت أرواح مئات الآلاف، وفرضت على العالم بأسره أوضاعا استثنائية وحرجة، وتغيرات مفاجئة جمّة؛ أثرّت على الصحة العامة، وطالت مختلف مناحي الحياة، ولا زال العلم والعالم يكافح ويناضل؛ لتخفيف لأوائه والبحث عن علاجه, فإن الناظر في هذا الحدث الجلل يجد فيه أبلغ عبرة وعظة!.
فها هو كائن طفيلي مجهري لا يرى بالعين المجردة يغزو العالم كله، ويشل حركته أرضاً وجواً وبحراً، ويهدد حياة الملايين من البشر، الذين يحاولون بأرقى تقنياتهم وأحدث علومهم وأقوى إمكاناتهم مواجهته والتصدي له، فما أحوج الخلق إلى رحمة الله ومعونته وتوفيقه!.
إن المعرفة البشرية التي لا تتجاوز الآماد العاجلة والأحوال الظاهرة؛ مما يعوق الإنسان عن فهم حكمة الله -عز وجل- التي تحيط بالعواقب الدنيوية والآثار الأخروية؛ (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة: 216].
والشك في الحكمة الربانية والقدرة الإلهية راجع إلى جهل وغرور وقصور في التفكير؛ لأن الحكمة الربانية لا تقاس بقوانين المخلوقات, فأفعال الباري -عز وجل- وأوامره خير وحسن وجمال.
إن الرؤية الإسلامية لمعالجة الكوارث والأوبئة من منظور عقدي تقوم على مبدأ ابتلاء العليم الخبير للبشر بالسراء والضراء، فيلزمهم تجاه الكوارث الثقة في حكمة مولاهم والتسليم له، والأمل فيما عنده من الخير، والتمسُّك بما أمر به وأرشد إليه من اتخاذ الأسباب, والتضامن والتعاون على الخير والبر والتقوى والنفع العام.
عباد الله: التوكل على الله عبادة قلبية من أعظم العبادات، أُمر بها الأنبياء والمرسلون؛ كما أمر به رسولنا -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون؛ (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[آل عمران: 122]، والله -تعالى- الذي أمر بالتوكل عليه هو الذي أقام الكون على قانون الأخذ بالأسباب والمسببات، فمن يتوكل على الله ولا يأخذ بالأسباب شخص متمرد على هذا القانون الإلهي العظيم، فالمؤمن الحق رغم أخذه بالأسباب إلا أنه يثق في أنَّ الله -سبحانه- هو وحده الذي يحقق النتائج في الأسباب.
والرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو سيد المتوكلين كان يتداوى ويأمر الناس بالتداوي؛ فترك الأسباب إساءة للأدب مع الله -عز وجل-, والحديث النبوي الصحيح: "لكل داء دواء, فإذا أصيب دواء الداء؛ بَرَأَ بإذن الله", أصل عظيم في الجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكل على خالق الداء والدواء، وأمل وبشرى للإنسانية.
التوكل قيمة كبرى في حياة المؤمنين، تتوجه به قلوبهم إلى خالقهم في مختلف الظروف والأحوال، وخاصة في وقت الشدائد والمحن، يستمدون منه العون والتوفيق؛ لزوال الغُمة, وانكشاف الكُربة، ويأخذون بالأسباب التي تعينهم على ذلك.
ومن حِكَم الابتلاءات التي أخبر الله بها أن يرجع الناس إلى الله، ويتخلصوا من أي قيم سلبية تبعدهم عن قيم الخير؛ كالغفلة والغرور, وسوء العمل والتدبير، قال -تعالى-: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الأعراف: 168]، فيتواضع الإنسان لخالقه، ويعلم حجمه في هذا الكون، وأن الله خلقه وصوره وعدله؛ لغاية عظيمة وهي عبادته وتوحيده, وعمارة الأرض بالخيرات والفضائل.
ففي هذه الأزمة درس للإنسان لمراجعة نفسه، وتصحيح مساره، والعودة إلى الله -تعالى-، والتمسك بقيمه العليا التي فيها خير البشرية.
ومن قيم التوكل -التي لا يستغني عنها المؤمن في كل شيء وخاصة في الأزمات ومنها أزمة كورونا-: حسن الظن بالله، واستصحاب الأمل والتفاؤل، وعدم اليأس والقنوط، فمهما اشتد الأمر وتراكم الكرب فإن مع العسر يسرا، وما بعد الشدة إلا الفرج، فيقتبس الإنسان من الأمل مشاعلَ سعادةٍ؛ تضيء حياته وسط ظلمات الأزمات.
ومن قيم التوكل التي دعا إليها الدين الإسلامي الحنيف, وأكدها غاية التأكيد: الالتزام بالتدابير الوقائية؛ للاحتراز من الوباء, وحماية المجتمع منه، فمن ضروريات الإسلام الكبرى حفظ النفوس، وعدم تعريضها للتهلكة، وكذلك من الأخذ بالأسباب الاجتهاد في البحث العلمي للتوصل إلى علاج لهذا الوباء؛ فما أنزل الله من داء إلا وأنزل معه الدواء، وهنا يأتي دور العلماء والخبراء والباحثين في بذل كل جهدهم لنفع البشرية في هذا المجال، وقد أخبرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن "أحبُّ الناسِ إلى الله أنفعُهم للناس".
وفي هذا الصدد ينبغي لزوم التقيّد والالتزام بما تتخذه حكومة المملكة العربية السعودية؛ انطلاقا من مسؤوليتها السيادية والشرعية في رعاية المواطنين والمقيمين, وبالأخص الحجاج والمعتمرين والزوار؛ حفاظا على صحة الجميع وسلامتهم.
وهذه الإجراءات المتخذة هي من مقتضى مقاصد الشريعة التي جاءت لحفظ النفس البشرية, ومقتضى القواعد الفقهية التي دعت إلى تقديم درء المفاسد على جلب المصالح, وإلى تحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
إن الإجراءات الاحترازية وما يترتب عليها من عودة تدريجية للحياة العامة يجب الأخذ بها، خصوصا إذا أمر بها الحاكم يرتقي حكمها إلى الوجوب، ومخالفتها إلى الحرمة؛ لأنها من الأحكام الشرعية لحفظ النفس, وهي أحكام ملزمة وليست مجرد نصح أو توجيه، بل تترتب عليها عقوبات شرعية للذي يخالفها متعمداً.
ومن قيم التوكل على الله: أنه مفتاح للسمو الإيماني والرقي الأخلاقي، فلا يزال الإنسان بالتوكل يقوي عزيمته, ويستمد من الله العون على الارتقاء بنفسه إيمانياً وأخلاقياً، وخاصة في الأزمات كأزمة كورونا، التي تتطلب من الجميع الصبر والتحمل وسعة الصدر, والتعاون وحسن الأخلاق.
ومن قيم التوكل: تخلق المسلمين بخلق السمع والطاعة مع ولاتهم, والتراحم والتعاون مع مجتمعاتهم، وإظهار روح الإيثار والتضامن، وتجسيد أخلاق الإسلام وقيمه في أوقات الأزمات والشدائد.
إنّ من آثار الوباء الجديد وما فرضه من حجر في البيوت كثرة النزاعات الأسرية, وارتفاع نسب العنف الأسري والطلاق، مما يحتّم على أهل العلوم الشرعية والإنسانية والتربوية بذل المزيد من الجهود في التوعية والتثقيف؛ لبث روح الطمأنينة والوئام في الأسرة, حتى تغدو كما يجب أن تكون سَكَنا نفسيا وسكينة تعمر القلوب, ومحبة تبهج النفوس.
ومن الواجب -عباد الله- الإشادة بتضحيات الطواقم الطبية وتفانيها في إنقاذ الأرواح وعلاج المرضى، والعناية بهم وبجهود كل العاملين في مواجهة الأزمة أفرادا ومؤسسات في مكافحة هذه الآفة, مذكرين بعظم الأجر والثواب الموعود به كل من أحيا نفسا وحافظ عليها.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى, وسمع الله لمن دعا, وبعد:
فاتقوا الله -عباد الله-؛ (مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى)[النساء: 77]
عباد الله: ومن قيم التوكل على الله -تعالى-: الابتهال إليه بالدعاء، بقلوب ملؤها الرجاء، وخاصة في أوقات الإجابة، فما أحوج البشرية جمعاء إلى أن يجددوا علاقتهم بربهم, ويتوجهوا إليه بالدعاء مبتهلين مخلصين، وأن يجعلوا طاعة ربهم والتمسك بالسنة النبوية وقيمها العليا نبراساً مستداماً لهم في حياتهم، قال -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة: 186]، وقال -عز وجل-: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)[غافر: 60].
نسأل الله للجميع التوفيق والسداد والعون، وأن يديم علينا سابغ نعمه وأفضاله، وأن يرفع البلاء والوباء عن بلادنا وعن الحرمين الشريفين وسائر بلاد المسلمين, وعن البشرية أجمعين, والحمد لله رب العالمين.