الظاهر
هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...
العربية
المؤلف | خالد بن سعد الخشلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
الخوف من الله لا يراد به ما يخطر بالبال من الرعب، كاستشعار الخوف من الأسد، بل إنما يراد بالخوف الكف عن المعاصي وتحري الطاعات؛ ولهذا قيل: لا يُعَدُّ خائفاً من لم يكن للذنوب تاركاً، ويؤيد هذا المعنى تفسير ابن عباس -رضي الله عنهما- للخائف بقوله: "الخائف من ركب طاعة الله -تعالى- وترك معصيته" ..
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، ما خاب عبدٌ جعَلَ مطيته في هذه الدنيا إلى ربه تقواه، جعلني الله وإياكم ممن عمَّر بالتقوى قلوبهم، وهذبت جوارحهم، إن ربي رحيم ودود.
إخوة الإسلام: إنَّ من مقتضيات الإيمان بالله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي له الملك وحده، وبيده الأمر وحده، وإليه يرجع الأمر كله، الخوف من ذي الجلال والإكرام، ودوام الرهبة منه -سبحانه وتعالى-.
يقول الله -عز وجل-: (وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:175]، الخوف من الله يورث صاحبه متى كان خوفا معتدلا التقوى والورع في الدنيا، أما إذا تجاوز الخوف حد الاعتدال وقع صاحبه في القنوط حينئذٍ، والعياذ بالله!.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "القلب في سيره إلى الله -عز وجل- بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيِّد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر".
إن الخوف من الله أدب من آداب الإسلام، بل عبادة عظيمة من العبادات تعلّم الإنسان الخضوع لله -عز وجل-، والعزة على من سواه، تعوّد العبد المراقبة لخالقه.
الخوف من الله -أيها الإخوة المسلمون- لا يراد به ما يخطر بالبال من الرعب، كاستشعار الخوف من الأسد، بل إنما يراد بالخوف الكف عن المعاصي وتحري الطاعات؛ ولهذا قيل: لا يُعَدُّ خائفاً من لم يكن للذنوب تاركاً، ويؤيد هذا المعنى تفسير ابن عباس -رضي الله عنهما- للخائف بقوله: "الخائف من ركب طاعة الله -تعالى- وترك معصيته".
نعم أيها الإخوة المسلمون؛ إن الذي يخاف مقام ربه لا يقدم على معصيته، فإذا أقدم على معصية بحكم ضعفه البشري أو وقعت منه كبوة أو هفوة قاده خوف مقام ربه، هذا المقام الرهيب الجليل، قاده إلى الندم، قاده إلى الاستغفار والتوبة، فظل في دائرة الطاعة والخشوع.
روى عطاء -رضي الله عنه- أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- ذكر ذات يوم وفكر في القيامة والموازين والجنة والنار وصفوف الملائكة وطي السماوات ونسف الجبال وتكوير الشمس واندثار النجوم، فقال -رضي الله عنه-: "وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ خَضِرًا مِنْ هَذِهِ الْخَضِرِ، تَأْتِي عَلَيَّ بَهِيمَةٌ فَتَأْكُلُنِي وأني لم أخلق؛ فَنَزَلَتْ: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن:46]".
إن عباد الله الخائفين من ربهم -عز وجل- الذين عبروا إلى ضفة النعيم والتكريم بعد أن كفوا أنفسهم عن الهوى، وضبطوها بالصبر على إيثار الخيرات، ولم يغتروا بزخارف الدنيا، لهم ما وعدهم ربهم بقوله: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:40-41]، وقوله -سبحانه-: (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:38].
إن الله -سبحانه وتعالى- ينفي عنهم أهوال القيامة وخوفها، لا خوف عليهم من الضلالة في الدنيا، ولا حزن من الشقاوة في الآخرة؛ لأنهم ساروا في دنياهم على الصراط المستقيم، فأخبرهم ربهم بالأمن والأمان في يوم الخوف الرهيب.
إن الخوف من الله -أيها الإخوة في الله- ليس هربا من الله -سبحانه وتعالى-، أو إعراضا عنه؛ بل هو إحساس بعظمته -سبحانه-، وهيبته، ورهبته، وجلاله؛ فيزداد العبد في الطاعة والاعتصام بحبل الله -تعالى-.
سألت عائشة -رضي الله عنها- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون:60]، أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر ومع مع ذلك يخاف الله -تعالى-؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا، ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو مع ذلك يخاف ألا يتقبل منه".
يقول الحسن البصري -رحمه الله- في شأن هؤلاء: "عملوا والله بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحسانا وخشية، وإن المنافق جمع إساءة وأمنا".
عباد الله: إن المسلم يوم يصطحب هذه العبادة العظيمة، عبادة الخوف من ذي الجلال والإكرام، فإنه بخوفه يستحضر جملة من المعاني، فهو يخاف الموت قبل أن يوفق إلى توبة نصوح، وعمل صالح مقبول يلقى به ربه -عز وجل-، ويخاف إذا تاب من نقض التوبة بعد التوفيق إليها، ويخاف من عدم الوفاء بحقوق الله تعالى، يخاف على قلبه أن تزول رقته وتتبدل قسوة وغلظة، يخاف الانحراف عن الجادة والبعد عن الطريق المستقيم، يخاف يوم تفتح عليه الدنيا من الاغترار بزخرفها ومُلهياتها ومَلذاتها، يخاف من سوء الخاتمة عند الموت، يخاف أن يحال بينه وبين جنة الله -عز وجل- فيكون من أهل النار.
إن على المؤمن -أيها الإخوة- أن يواصل استشعار الخوف من الله -تعالى-، وليتذكر أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان أشد خوفا من الله -تعالى- ورهبة من جنابه -سبحانه-، وكان يقول لأصحابه -رضوان الله عليهم-: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة".
فنسأل الله -عز وجل- أن يسلك بنا جميعا طريق أهل الخوف والخشية، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود:103].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله القوي العزيز، الفعال لما يريد، ذي الأمر الرشيد، والبطش الشديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع جماعة المسلمين ومن شذ عنهم شذ في النار.
أيها الإخوة المسلمون: اتقوا الله -عز وجل-، وعمقوا معاني الخوف من ربكم -عز وجل-، عمقوا معاني الخوف في قلوبكم تسعدوا وترشدوا في الدنيا والآخرة، ويحصل لكم الأمن في الدنيا والآخرة؛ فإنه من خاف الله -عز وجل- خوفا حقيقا أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء.
إن الخوف يؤدب جوارح العبد، ويولد في القلب السليم الذل والخشوع والاستكانة لرب الأرض والسماوات.
وإن كان القلب كذلك مستشعراً روح الخوف والرهبة من الله -سبحانه وتعالى- فإنه يظل عامرا بالإيمان واليقين؛ ولهذا قال بعضهم: "ما فارق الخوف قلبا إلا خرب".
إن العبد المؤمن الخائف من ربه يعيش في هذه الدنيا بين مخافتين: أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، والذي نفسي بيده! ما بعد الموت مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار، إلا الجنة أو النار.
إخوة الإسلام: إن كثيرا من أوجه الخلل والتقصير في حياتنا ومظاهر المعصية لربنا نابعة من ضعف مقام الخوف والرهبة من الله -عز وجل-، فهل يتكاسل عن الصلاة ويتخلف عن أدائها عبد عمر قلبه بالخوف من الله؟ وهل يغلب لذة النوم والفراش على لذة الوقوف بين يد الله -عز وجل- في صلاة الفجر مع جماعات المسلمين إلا عبد خلا قلبه من الخوف والخشية التامة لمولاه -عز وجل-؟.
أولئك الذين يعقون والديهم، أولئك الذين يقطعون أرحامهم ويؤثرون مصالح دنياهم على بر والديهم وصلة أرحامهم، هل ذاقوا -بربكم- لذة الخوف من جلال الله وعظمته؟!.
أكَلة الربا والذين يظلمون الناس في أعراضهم وأموالهم وحقوقهم وأبدانهم، أتراهم استشعروا الخوف من ملك الملوك وجبار الأرض والسماوات؟!.
أتراهم يستشعرون مقام الخوف بين يدي الله -عز وجل- يوم (تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [آل عمران:161]، يوم يرون (الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49].
عبَدة الشهوات العاكفون على اللهو والمجون ومشاهدة ما يبغضه الله -عز وجل- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- مما يعرض بالشاشات والقنوات، ومُدخلو القنوات الإباحية إلى منازلهم وغيرها لتؤثر في أبنائهم وأسرهم، ما مقدار الخوف من الله في قلوبهم وهم يقدمون على محارمه -سبحانه- وانتهاك حدوده؟!.
أيها الإخوة المسلمون: ما أشد حاجتنا إلى إحياء معاني الخوف من الله في نفوسنا؛ حتى تستقيم حياتنا، وتصح أوضاعنا!.
إن عاقبة الخوف من الله في الدنيا الفوز بجنة الله، والأمن من وعيده يوم التناد، وأما أمن الله في الدنيا فليس وراءه إلا الخسران والخذلان.
وفي الحديث القدسي يقول الله -عز وجل-: "لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين، فإن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة".
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يأخذ بنواصينا بالبر والتقوى.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبيكم محمد بن عبد الله؛ فقد أمركم ربكم -عز وجل- بذلك في كتابه فقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد...