الجميل
كلمة (الجميل) في اللغة صفة على وزن (فعيل) من الجمال وهو الحُسن،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
حتى ظهرت بعض النظريات الملحدة التي تتحدث عن أصل الإنسان، وهي نظرية النشوء والترقي التي تصف الإنسان بأنه من سلالة القرود، لذلك فحري بالدعاة والخطباء والعلماء أن يعيدوا إنعاش ما اندرس من الفقه والعلم والفهم لخلق آدم -عليه السلام-؛ ليكون الناس على بصيرة ويعرفوا الإجابة على أسئلتهم الحائرة، وقصة الخلق من البداية إلى النهاية...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، الحمد لله الذي خلق الأرض والسموات، الحمد لله الذي علم العثرات؛ فسترها على أهلها وأنزل الرحمات، ثم غفرها لهم ومحا السيئات، فله الحمد ملئ خزائن البركات، وله الحمد ما تتابعت بالقلب النبضات، وله الحمد ما تتابعت الخطوات، وله الحمد عدد حبات الرمال في الفلوات، وعدد جميع الذرات، وعدد الحركات والسكنات.
الطير سبحه، والوحش مجده، والموج كبره، والحوت ناجاه، والنمل تحت الصخور الصم قدسه، والنحل يهتف حمدا في خلاياه، الناس يعصونه جهرا فيسترهم, والعبد ينسى وربي ليس ينساه .
وأشهد أن لا إله إلا الله مفرج الكربات، ومقيل العثرات، و سامع الأصوات، ما نزل غيث إلا بمداد حكمته، وما انتصر دين إلا بحبل عزته، وما اقشعرت القلوب إلا من عظمته، وما سقط حجر من جبل إلا من خشيته.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله قام في خدمته، وقضى نحبه في الدعوة لعبادته، وأقام اعوجاج الخلق بشريعته، وعاش للتوحيد ففاز بخلته، وصبر على دعوته، وتبليغ رسالته، فارتوى من نهر محبته، واختص بسمو درجته، فصلي اللهم عليه وعلى آله وصبحه ومن قام بسنته.
عباد الله: أجيبوا داعي الله إذا دعاكم لما يحييكم، واستجيبوا لأمره إذا أمركم، ففيه النجاة في الدنيا والفلاح في الآخرة، فاتقوا الله عباد الله حق تقاته، فمن اتقاه وقاه ومن كل سوء كفاه، وعلى سبيل الرشاد ثبت خطاه.
عباد الله: لقد أشرقت شمس الهداية الإسلامية على ربوع الأرض وهي ترفل في ظلمات الجهالات والظلمات والخرافات والشركيات والتصورات الخاطئة، وجاء الإسلام لينقذ البشرية المعذبة الحائرة من نير الأفكار الضالة والموروثات الباطلة التي ترسبت إلى القلوب والعقول عبر القرون ومع تطاول العمر ودروس الشرائع.
لقد جاء الإسلام وللبشرية عدة تصورات خاطئة وباطلة عن الخلق والكون والإنسان وعلاقة الإنسان بربه وبمن حوله، ومن أبرز التصورات الخاطئة والأفكار الضالة التي وجدت قبل إشراق شمس الإسلام، وسيطرت على عقول الناس، تصورهم وفكرتهم عن خلق آدم عليه السلام، كيف خلق، ومما خلق؟ ولماذا أهبط من الجنة؟ وما هو سبب الخلق والغاية من؟ وطبيعية العلاقة بين بني آدم وإبليس لعنه الله؟ ودور حواء فيما جري حتى أنزل آدم إلى الأرض؟.
فقد جاء الإسلام فوجد من البشر من يقول: أنه قد خلق سدى بلا هدف أو غاية، ومنهم من يقول: إن الدهر هو الذي خلق الإنسان والكون كله، ومنهم من يقول: إن بني آدم كلهم غرقي في المعاصي وإنهم يحتاجون لمن يحمل عنهم أوزارهم من المرسلين والصالحين، ومنهم من يقول: إنهم يحتاجون إلى وسطاء بينهم وبين الله -عز وجل-،ومنهم من يقول: إن حواء هي السبب في الطرد من الجنة، وإنها سبب كل شقاء وبلية وقعت لبني آدم على مر العصور، إلى غير ذلك من التصورات الخاطئة.
لذلك كان من أهم وأكبر اهتمامات الإسلام توضيح غاية خلق البشر، ودورهم ومكانتهم في الكون، وتصحيح الأفكار الباطلة والفاسدة عن الخلق والكون وعلاقة الإنسان بربه وبالكون كله، وطبيعة العداوة بين الإنسان والشيطان، وسبل الوقاية من كيده وحبائله، وكيفية الانتصار عليه، والسر وراء إنزال آدم -عليه السلام- إلى الأرض، كل هذه الأسئلة أجاب عليها الإسلام شافيا كافيا، بما لا يدع مجالا للاعتذار أو التحجج بأي حجة بين يدي الله -عز وجل-.
ولكن مع تطاول العمر ونسيان السنن والشرائع، وبعد كثير من الناس عن أنوار الإسلام والهدي المحمدي، نسي كثير منهم الغاية من الخلق، وطبيعة العداوة مع الشيطان، فهاموا على وجوههم في الدنيا، يغبون من ملذاتها يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، حتى ظهرت بعض النظريات الملحدة التي تتحدث عن أصل الإنسان، وهي نظرية النشوء والترقي التي تصف الإنسان بأنه من سلالة القرود، لذلك فحري بالدعاة والخطباء والعلماء أن يعيدوا إنعاش ما اندرس من الفقه والعلم والفهم لخلق آدم -عليه السلام-؛ ليكون الناس على بصيرة ويعرفوا الإجابة على أسئلتهم الحائرة، وقصة الخلق من البداية إلى النهاية، فذلك غاية الغايات وأعلى المهمات وأغلى المطلوبات، دونه يضل الإنسان ولا يختلف عن الحيوان، فهيا بنا في جولة إيمانية نفقه فيها ونفهم فيها خلق آدم -عليه السلام-.
عباد الله: إن أول ما خلق الله -تبارك وتعالى- العرش، ثم خلق القلم، وكتب به المقادير قبل كونها، وخلق آدم آخر المخلوقات، تمهيداً للدار قبل الساكن. وذلك لكرامته على خالقه، فهيأ له مصالحه وحوائجه وأسباب حياته قبل خلقه.
وخلق آدم من أعظم الآيات، فقد جمع الله ما فرقه في العالم في خلق آدم، فهو العالم الصغير، وفيه ما في العالم الكبير، وهو خلاصة الوجود وثمرته، والنفوس تتطلع دائماً إلى النهايات، والله -عز وجل- أخَّر أفضل الكتب، وأفضل الرسل وأفضل الشرائع وأفضل الأمم إلى آخر الزمان، وجعل الآخرة خيراً من الأولى، ولما افتتح الله -عز وجل- خلق هذا العالم بالقلم، كان من أحسن المناسبة أن يختمه بخلق الإنسان، فإن القلم آلة العلم، والإنسان هو العالم حامل القلم آلة العلم، بما علمه الله -عز وجل-.
ولقد خلق الله -عز وجل- آدم -عليه السلام- من طين، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ) [الحجر: 26]. وقال الله تعالى: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [ص: 71-74]. وفي ذلك سر عجيب، فالطين مركب من أصلين: الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي وهو أصل الحياة في كل المخلوقات، والتراب الذي جعله الله خزانة المنافع والنعم، منه يستخرج الزرع والفواكه والنخيل ومن كل الثمرات، وكذلك المعادن النفيسة والذهب والفضة ومن كل الخيرات، وفي ذلك إشارة إلى أن هذا الإنسان يحمل الهدى الذي به حياة العالم، ويحمل الدين الذي كله منافع.
وقد أكرم الله -عز وجل- آدم عند خلقه بأنواع كثيرة من الكرامات الدالة على منزلته وقيمته عند الله -عز وجل-، فمن كرامة الله لآدم أن خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وجميع المخلوقات خلقها الله بأمره، فقال لها: كوني فكانت.
ومن كرامته له كذلك أن أسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها دون غيره من الملائكة، ثم جعل فيه الاستعداد للترقي حتى يصبح كالملائكة، أو الهبوط حتى يكون أسفل من الحيوان فيقضي حياته على طريقة الحيوان، من أكل وشرب ولهو ولعب.
والله -تبارك وتعالى- عزيز حكيم، وقيمة الإنسان ومكانته بين المخلوقات عظيمة، فمكانته بين السموات والأرض، كمكانة القلب من الجسم، وبقاء المخلوقات مرهون بوجود الإنسان، وكما أن القلب إذا فقد هلك البدن، فكذلك الإنسان إذا فقد أنهى الله هذا الكون وطواه.
ومن كرامته أنه قد خلقه في أحسن تقويم، وأكمل صورة وأجملها، وأكمل محاسنه الباطنة بالعلم والحلم والوقار، فجاء في أحسن خلق، وأجمل صورة، طوله في السماء ستون ذراعاً، قد ألبس رداء الجمال والحسن والمهابة والبهاء.
عباد الله: كثير من الناس ولا يدري تفاصيل رحلة هبوط آدم من الجنة إلى الأرض، و لا يدري طبيعة العداوة مع الشيطان، والجهل بتفاصيل هذه القصة الهامة يورث العبد تيها في الدنيا، وتخبطا في الحياة، فيوالي من يجب أن يعادي، ويعادي من يجب أن يوالي، ويأتي بالضار وينسى النافع وبيان ذلك من أولى المهمات في حياة كل الناس سواء بسواء.
فالله -سبحانه- لكمال قدرته خلق خلقه أصنافاً: فمنهم عقول بلا شهوات كالملائكة، ومنهم شهوات بلا عقول كالحيوانات، ومنهم من له عقل وشهوة كالإنس والجن، ومنهم من لا عقل له ولا شهوة كباقي المخلوقات من جماد ونبات، وقد خلق الله جميع المخلوقات، وجعل لكل مخلوق مقصداً، وأشرف المخلوقات مقصداً هو الإنسان, ومقصده تحقيق العبودية لله -عز وجل-، وهو من المخلوقات بمنزلة القلب من البدن.
وقد شاء الله -عز وجل- أن يخلق آدم ويستخلفه في الأرض، فأقدره على أشياء وأعجزه عن أشياء، وعلمه أشياء وستر عنه أشياء، وقهره على أشياء وجعل له الخيار في أشياء، وذلك ليستكمل مقومات ما خلق من أجله، وهو تحقيق العبودية لله -عز وجل-، وتحقيق الخلافة في الأرض، ولا ينسى أنه غير أصيل، فله مرجع يعود إليه، وقوة أعلى يعود إليها ويستعين بها تمده بما شاء.
ومن رحمة الله وتكريمه لبني آدم أنه لم يرسل آدم إلى الأرض ليقيم أمر الله دون تدريب عملي، بل جعل له تجربة واقعية يعيش فيها التكليف بأمره ونهيه، وبمقومات التكليف من الغفلة والنسيان، وإغواء الشيطان وتزيينه، قبل أن يهبط إلى الأرض، فأسكنه الله الجنة مع زوجه، وأمده بكل ما يحتاج بدون تعب ولا نصب كما قال -سبحانه-: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى* وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) [طه: 118، 119]. ثم استقبل آدم المنهج من ربه أمراً ونهياً: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة: 35]. ثم حذر -سبحانه- آدم من معوقات التكليف خاصة الشيطان فقال: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) [طه: 117].
ثم كان ما كان من الشيطان فأغرى آدم وزوجه بالأكل من الشجرة: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى) [طه: 120]. فأغراهما بالأكل من الشجرة، ليحصل لهما الخلود والملك، وأكد ذلك لهما بصفة الناصح الذي يريد لهما الخير: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) [الأعراف: 20-22].
ونسي آدم أنه في دور التجربة والتدريب، فأكل وزوجه من الشجرة فماذا حصل لهما؟ (بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 22]. وماذا كان جزاء آدم حين نسي أمر ربه وأكل من الشجرة؟. كان جزاؤه فقط أن يلقنه الله مولاه كيف يرجع إليه: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 37]. واعـترف آدم وزوجه بالذنـب، وسـألا ربهـما أن يغفـره لهما ويرحمهما: (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]. فاستجاب الله لدعاء آدم، واجتباه وتاب عليه وهداه، كما قال سبحانه: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) [طه: 122].
وبعد هذه التربية لآدم في الجنة وبعد ما ظهرت له عداوة الشيطان، وبعد ما علمه الله كيف يتخلص من الذنب، أهبط الله آدم إلى الأرض، ليقوم وذريته بالخلافة فيها، وأهبط معه الشيطان وحذره منه: (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) [الأعراف: 24]. ولما أهبط الله آدم وزوجه إلى الأرض رزقهم الذرية، وأخبرهما بحال إقامتهم فيها، وأنه جعل لهم فيها حياة مشحونة بالامتحان والابتلاء، ثم يتلوها الموت. وأنهم لا يزالون فيها يرسل الله إليهم رسله، وينزل عليهم كتبه، حتى يأتيهم الموت فيدفنون فيها، ثم إذا استكملوا بعثهم الله وأخرجهم منها إلى الدار التي هي الدار حقيقة، التي هي دار المقامة كما قال -سبحانه-: (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) [الأعراف: 25].
ثم امتنَّ عليهم بما يسر لهم من اللباس والطعام والشراب والسكن والمركب، مبيناً لهم أن هذا ليس مقصوداً بالذات، وإنما أنزله الله ليكون معونة لهم على عبادته وطاعته، وأن لباس التقوى خير لباس يلبسه العبد، وهو جمال القلب والروح كما قال -سبحانه-: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف: 26].
ثم حذر الله بني آدم أن يفعل بهم الشيطان كما فعل بأبيهم آدم، فيغريهم بالمعاصي ويزينها لهم، فينقادون له فليحذروا منه: (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 27]. فآدم أبو البشر -صلى الله عليه وسلم- عصى ربه، وإبليس عصى ربه، لكن الفرق أن آدم عصى ولم يرد الأمر على الله، بل اتهم نفسه، وأقر بالظلم والتقصير، والغفلة والنسيان: (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23].
أما إبليس فقد رد الأمر على ربه وتكبر، وخالف أمر ربه كما قال -سبحانه-: (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 34].وبسبب هذا الإباء والاستكبار طرده الله ولعنه. فمن رد الأمر على الله ففيه شبه بإبليس، ومن عصى واعتذر وتاب ففيه شبه بآدم.
والخلاصة أنه لما تم خلق آدم -عليه السلام- في أحسن تقويم، وظهر كمال آدم على غيره، جرى قدر الله بالذنب، ليتبين أثر العبودية في الذل، وما زالت تلك الأكلة من الشجرة تعاوده وتخيفه، حتى استولى داؤه على أولاده، فأرسل إليهم اللطيف الخبير الدواء على أيدي من اختارهم، واصطفاهم واجتباهم من أنبيائه ورسله كما قال -سبحانه-: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 38-39].
فحماهم الشافي بالمناهي وحفظ القوة بالأوامر واستفرغ منهم الأخلاط الرديئة بالتوبة، فجاءت إليهم العافية من كل ناحية وتزينت قلوبهم بالإيمان، وتجملت بالتقوى، وتحلت جوارحهم بالطاعات، ورضي عنهم ربهم، وصاروا أئمة في الخير، ولما سلم لآدم أصل العبودية لم يقدح فيه الذنب، وحين علم اللطيف الخبير أن ذنـب عبـده لم يكـن قصـداً لمخالفته، ولا قدحاً في حكمته، علمه كيف يعتــذر إليــه: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 37].
وهذا على وجه الحصر والاختصار قصة آدم من الجنة إلى الأرض، ليكون الناس على بصيرة من أمرهم وعلى هدى في طريقهم وسعيهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وإمام النبيين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
عباد الله: إن المنهج الإلهي في الأرض بدأ عندما أهبط آدم -عليه السلام- إلى الأرض، قال تعالى: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه: 123، 124]، ولما عصى آدم ثم تاب وتاب الله عليه، أهبطه الله إلى الأرض، للقيام بالخلافة، وتنفيذ أوامر الله، وأهبط معه إبليس، لتبدأ فصول الملحمة الخالدة والعداوة الدائمة والصراع الذي لا ينتهي إلى قيام الساعة بين الخير والشر، الإنسان والشيطان.
وبنو آدم لابد أن يعرفوا لماذا أهبط أبوهم من الجنة، فهو وإن لم يتعمد معصية ربه بمخالفة أمره أو تكبره عليه كما فعل إبليس -لعنه الله-، فهو يبق في الأخير عاصيا لربه بسبب آفتين لابد لكل مسلم أن يعرفهما: الأولى النسيان، والثانية ضعف العزيمة، كما قال الله -عز وجل-: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) [ طه 115] ،وهذان مرضان وعلاج الأول بالذكر والتذكير، وعلاج الثاني بتكوين بيئة الإيمان والأعمال الصالحة.
وآدم في الجنة ليس عنده من يذكره إذا نسي، وليست عنده بيئة الأعمال التي تقوي عزيمته إذا ضعف، وغلبته الشهوة، فسهل التأثير عليه وإغراؤه، فوقع في ارتكاب النهي، وأكل من الشجرة، وهاتان الآفتان لازمتان لكل إنسان، وشفاء الإنسان منهما بالتذكير، وتكوين بيئة الإيمان والأعمال الصالحة التي تقوي عزيمته إذا ضعف.
والله -تبارك وتعالى- سبق في علمه أن يجعل في الأرض خليفة، وأعلم بذلك ملائكته، ثم ألهمه الله التوبة فتاب؛ وتاب الله عليه، وبعد أن كملت تربيته، وعرف عدوه، وعاش في داره، أهبطه الله -عز وجل- من دار النعيم إلى دار الابتلاء والعمل، ليعود إليها ومن آمن من ذريته على أكمل الوجوه.
فكم لله من حكمة في إهباط آدم إلى الأرض، تعجز الألسن عن وصفها، وتعجز العقول عن إدراكها والإحاطة بها, منها: أن الله أنزل آدم ليكون إيمانه وإيمان ذريته تاماً، والإيمان قول وعمل، وجهاد وصبر، وبذل وترك، وهذا إنما يكون في دار الامتحان لا في جنة النعيم.
ومنها: أن الله خلق آدم وذريته ليستعمرهم في الأرض، ويجعلهم خلفاء الأرض. فخلقهم -سبحانه- ليأمرهم وينهاهم ويبتليهم، لينالوا بالطاعة أفضل ثوابه، فإذا وافوا دار النعيم بعد التعب والكد، عرفوا قدر تلك الدار، وهو أكمل من نعيم من خلق في الجنة من الحور والولدان.
ومنها: أن الله -عز وجل- أراد أن يتخذ من ذرية آدم رسلاً وأنبياء وشهداء، يحبهم ويحبونه، وينزل عليهم كتبه، يؤثرون محباته ومراضيه على شهواتهم وما يحبونه، فأنزلهم إلى دار الابتلاء ليكملوا مراتب العبودية، ويعبدوه في السراء والضراء بما تكرهه نفوسهم، وهذا لا يحصل في دار النعيم المطلق.
ومنها: أن أسماء الله الحسنى كالغفور والرحيم، والعزيز والكريم، والملك والجبار لها آثار، فأنزل الله آدم إلى الأرض، وجعل له ذرية، ليظهر أثر أسمائه وصفاته فيهم، وفيما حولهم من المخلوقات.
عباد الله: إن الله هو الملك الذي يأمر وينهى، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويثيب ويعاقب، فأنزل أبوي الإنس والجن، إلى دار تجري عليهم فيها هذه الأحكام، ثم يعودون إليه مع ذرياتهم، فيحاسبهم على ما عملوا. والله -تبارك وتعالى- هو الملك، الذي يملك كل شيء، له ملك السموات والأرض، وله ملك الدنيا والآخرة، وهو ربنا ونحن عبيده.
وهو مالك الملك ولا بد للملك من جنود ،والله له جنود السموات والأرض من ملائكة وغيرهم، وما يعلم جنود ربك إلا هو، ولا بد للملك من أوامر تصلح بها أحوال رعيته، وهي الكتب السماوية المشتملة على الحث والترغيب، والنهي والتحذير ولا بد له من سفراء بينه وبين خلقه, وهم الرسل الذين يبينون للناس ما نزل إليهم من ربهم, ولا بد أن تكون له محكمة يحاسب فيها من أطاع ومن عصى, فيجزي على الخير خيراً وعلى الشر شراً وهي يوم القيامة. ولا بدَّ له بعد الحساب أن يكرم أهل طاعته بما يسعدهم وهي الجنة، وأن يذل ويهين أهل معصيته بما أعد لهم من العذاب وهي النار.
عباد الله: إن قيمة الشيء ترتفع بقدر ما فيه من الصفات، وكذلك قيمة الإنسان عند الله ترتفع بقدر ما يحمل من الإيمان، وما يقوم به من الأعمال الصالحة. وبنو آدم كثيرون، ولكن الله اشترى منهم أحسنهم وأفضلهم وأكملهم، وهم المؤمنون، فهؤلاء خير الناس، وأحسن الناس، وأغلى الناس، وكلما ترقى الإنسان في العلم والفقه والفهم بأسماء ربه وصفاته، وكلما ترقى في فقه سر وجوده وقصة خلقه ورحلة حياته وطبيعة عداوة الشيطان معه، كلما ترقى الإنسان في سلم العبودية والقرب من الله -عز وجل-، والتأهل لمجاورة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الفردوس الأعلى، وحسن أولئك رفيقا.
اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغْنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا، اللَّهُمَّ مَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُوَّاتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا وَلا تَجْعَلْ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لا يَرْحَمْنَا.