المتعالي
كلمة المتعالي في اللغة اسم فاعل من الفعل (تعالى)، واسم الله...
العربية
المؤلف | عبدالباري بن عواض الثبيتي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه |
(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)[الضُّحَى: 5]، تُتلى هذه الآية على مر العصور والأزمان، تتشنَّف بها الآذان، وترتجف لها القلوب، وتحكي مكانة الْمُعطَى، ومقامه عند الْمُعْطِي، وهي في ذاتها بمعناها ومدلولها عطاء، ويا له من عطاء! من معط لا يخلف وعده، ولا فضل بعد عطائه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، العلي الأعلى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، خاطبه ربه بقوله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)[الضُّحَى: 5]، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه أولي النهى ومصابيح الدجى.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
سورة من القرآن، نزلت على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فآنسته، ومسحت آلامه، وغسلت أوجاعه، وسكبت في نفسه الطمأنينة، احتبس الوحي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فترة من الزمن، فتربص المتربصون، وشكك المشككون، فأنزل الله: (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)[الضُّحَى: 1-3]، جلت هذه السورة علو شأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومحبة الله له وقربه وفضله، (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)[الضُّحَى: 3]، وكيف يودع الرب قلبا أنس به وناجاه وتندد بآياته وكلامه، الله لا يجافي عبدًا علق قلبه به، بل سيقربه، ويدنيه، وي-عز شأنه- ويعليه، هذه الآية تخاطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتخاطب كل مؤمن ومؤمنة، صدق مع الله، وتسكب في النفس شعور ود الله وقربه ومعيته، وتفيض السعادة والرضا والحلاوة، يقول الله -تعالى- في الحديث القدسي: "وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ".
(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى)[الضُّحَى: 4]، إن عاقبة كل أمر لك خير لك من أوله، ولم يزل صلى الله عليه وسلم يصعد في درج المعالي، ويمكن الله له دينه وينصره ويسدد له أحواله حتى مات، وكل يوم يمضي من عمره يزيده الله -تعالى- فيه عزًّا على عز، ونصرًا على نصر، وتأييدًا على تأييد، حتى رأى الناس وقد دخلوا في دين الله أفواجًا، والآخرة خير من الأولى في كل أقدار الله، والعبد يتعامل مع رب كريم، يختبر العبد ثم يفرج عنه، وينتهي الأمر إلى سعة، وكل حالة متأخرة من أحوالك فإن لها الفضل على الحالة السابقة، (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى)[الضُّحَى: 4]، الله يعلم أن رسوله يعلم أن الآخرة خير له من الأولى، فهو القائل: "يقول الله -تعالى-: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"، وهو القائل: "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها"، وخُيِّرَ في مرضه بين أن يعيش في الدنيا ما يعيش وبين ما عند الله فاختار ما عند الله، وكل من له عقل رشيد يعلم أن الآخرة خير من الأولى، فإن الدنيا زائلة، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[الرَّحْمَنِ: 26-27]، هذا المعنى الأصيل، يدفع المسلم إلى أن يحسن إيمانه، ويصلح أعماله، ويهذب سريرته ويستثمر أوقاته.
(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)[الضُّحَى: 5]، تُتلى هذه الآية على مر العصور والأزمان، تتشنف بها الآذان، وترتجف لها القلوب، وتحكي مكانة الْمُعطَى، ومقامه عند الْمُعْطِي، وهي في ذاتها بمعناها ومدلولها عطاء، ويا له من عطاء! من معط لا يخلف وعده، ولا فضل بعد عطائه، ولا أمد لثوابه، ولا حد لنعيمه، أعطاه الله في الدنيا مكانا عليا، فوق السموات العلا، جاوز به الأنبياء، ختم به رسالاته، جعل أمته أفضل الأمم، والكتاب المنزل إليه أفضل الكتب، شرعه خير الشرائع، شرف أصحابه، شرف أزواجه، وآتاه من الفضل ما لا يمكن أن يحاط به، وقال له سبحانه: (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا)[الْفُرْقَانِ: 10]، أعطاه الشفاعة في أهل الموقف؛ حتى يقضي بينهم، والشفاعة في أهل الجنة، حتى يدخلوها، والرضا -عباد الله- عطاء الله لمن أقبل على الله، فأحبه الله، ومن أحبه الله أدناه وقربه، وسيرضيه، استقرار نفس، طمأنينة قلب، راحة بال، زوال هم وقلق، أما في الآخرة فهو في عيشة راضية، (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً)[الْفَجْرِ: 27-28]، (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى)[الضُّحَى: 6-8]، فكما آواه يتيمًا وهداه بالوحي، أغناه بكل ما يكفيه في مراحل حياته، أغناه الله بتربية أبي طالب، ولما اختلت أحوال أبي طالب أغناه الله بمال خديجة، ولما اختل ذلك أغناه الله بمال أبي بكر، ولما اختل ذلك أمره بالهجرة، وأغناه بإعانة الأنصار، إن هذه النعم التي امتن الله بها على نبيه، -صلى الله عليه وسلم- إذا تدبرها المهموم، وتأملها من حلت به مصيبة أو وجد في نفسه أو في طريقه عوائق ومصاعب فإنها تفتح له آفاقا من التفاؤل، ورافدا عذبا من الأمل، تشحنه بالعزيمة والعمل، وتدعوه إلى أن ينبذ اليأس والسكون وآثار الفشل والتقهقر، في مسيره وحياته، فشمول رحمة الله وعطاؤه لا حد له.
(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ)[الضُّحَى: 9-10]، هذه الآيات تؤصل لمعنى الحياة الرشيدة، والتي مِنْ أُسُسِها التكافل والتراحم، وهي نداء لكل من أنعم الله عليه بالجاه، بعد أن كان نكرة، وآواه بعد يتم، وأغناه بعد فقر، ورفع شأنه بعد ذل، أن يشكر نعمة الله عليه، فلا تقهر اليتيم، ولا تذله وتنهره، ولكن أحسن إليه، وتلطف به، ولا تكن على الضعفاء جبارًا ولا متكبرًا ولا فظًّا، ورد المسكين برحمة ولين.
(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)[الضُّحَى: 11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا لا حد له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا، دعانا إلى الهدى والرشاد، فالفضل له، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المخلصين له.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)[الضُّحَى: 11]، قلِّبْ صفحات حياتك؛ لترى نعم الله عليك، منذ أن لم تكن شيئًا، إلى أن غدوت شيئا مذكورا، نعم الله مع كل حركة ونفس، نعمة الإيجاد والهداية، والصحة والأمن، والسمع والبصر، والمال والذرية، نعمة النوم الهادئ، واليقظة الهانئة، نعم الله من رأسك إلى أخمص قدميك، تأمل نعم الله فيما سخر لك من شمس وقمر، وأنهار وبحار، وشجر ودواب، وليل ونهار، تأمل نعم الله وتحدث بها، على سبيل الإقرار والإذعان والاعتراف والوفاء؛ لتستشعر فضله، وتعرف حقه، فتبدل حالك من غافل إلى طائع، ومن مقصر إلى شاكر، تشكر الله قولًا وعملًا بالقلب والجوارح، وتسخر هذه النعم فيما فرضه الله وشرعه.
ألا وصلُّوا -عباد الله- على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الآل والصحب الكرام، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أرادنا وأراد بلادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم إنا نسألك فواتح الخير وخواتمه وجوامعه وأوله وآخره، وظاهره وباطنه، ونسألك الدرجات العلا من الجنة يا رب العالمين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر يا رب العالمين، اللهم أعنا ولا تعن علنيا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لنا ذاكرين، لك شاكرين، لك مخبتين لك أواهين منيبين، اللهم تقبل توبتنا واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، وسدد ألسنتنا واسلل سخيمة قلوبنا، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسررنا وما أنت أعلم به منا، أنتم المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك، اللهم إنا نعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل وغلبة الدين وقهر الرجال، يا حي يا قيوم، برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم وفق إمامنا خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك يا رب العالمين، ووفق ولي عهده لكل خير يا أرحم الراحمين، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك يا رب العالمين.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.